الوصفة التونسية: بعض الصبر والكثير من الحزم

حقيقة مرّة وبمذاق “خيبة المسعى” انتابت التونسيين ومن زارهم من العرب والأجانب، قبل 14 يناير 2011، وأعجب بذاك الانضباط والامتثال للقوانين في التسيير الإداري، وحتى في حركة السير وفي نظافة الشوارع والسلوك الحضاري للمواطن الذي كان يضاهي أكثر البلدان الغربية تقدما.
هذه الحقيقة مفادها أن الأمور كانت تسير تحت رهبة عصا القانون وحزم الدولة، وليس عن قناعات راسخة وسلوكيات متجذرة لدى غالبية الناس أفرادا ومؤسسات.. وللأسف الشديد.
صحيح أن نظام الزعيم الحبيب بورقيبة ومن بعده الرئيس زين العابدين بن علي، لم يكن على غاية من الديمقراطية واحترام الحريات الفردية والجماعية، لكن هيبة الدولة وسيادة القانون كانتا فوق كل اعتبار.
◙ الحزم يعلّم الانضباط بالتأكيد، حتى يصبح الأمر سلوكا بل طبيعة ثانية، لأن الانحلال لم يكن متجذرا ويسري في دماء البشر، وإنما جاء من شجّع عليه واستثمر فيه
وصحيح أن تجاوزات عديدة قد حصلت في حق سياسيين ونقابيين ومثقفين وناشطين حقوقيين، من جهة منتفعين وفاسدين وانتهازيين، لكن هؤلاء كانوا قلة بالمقارنة مع من جاؤوا مع الحكومات التي فرّخها الإسلاميون وحلفاؤهم بعد 2011.
ولا تزال هذه الجيوب تستمر في زعزعة أركان الدولة عبر حالات مختلفة من الانفلات باسم الحريات النقابية والحزبية وغيرها، وذلك على الرغم من عزم الرئيس قيس سعيد، على تطهير البلاد من هؤلاء والتفاف غالبية الناس حول مشروعه الإصلاحي.
ما الذي حدث في تونس إذن؟
تراجع دور الدولة بآلتها الزجرية المحتكرة للعنف، ودورها الضامن لتطبيق القانون لصالح المحتكرين والانتهازيين والمصطادين في المياه العكرة باسم الحريات والدفاع عن لقمة عيش المواطن فكانت النتيجة كارثية وأوشكت أن تعصف بالدولة والمجتمع.
ليس الأمر هنا، ترويجا لفكرة خطيرة مفادها أن الأمن والاستقرار ورغد العيش أمور لا تستقيم ولا تتحقق إلا بالقمع ومصادرة الحريات، لكن المواطن التونسي أصبح على قناعة تتمثل في أن الحزم بإمكانه أن يعيد الأمور إلى نصابها دون المساس بالحريات، ولا الحق في التجمهر والمعارضة.
لا معنى ولا قيمة لحرية يمثلها “ثعلب حر في قن من الدجاج الحر”، لذلك كان من واجب الدولة أن تحمي مواطنيها من المضاربين والمحتكرين والمهربين والمهددين لمستقبل أبنائهم باسم المطالب النقابية المشروعة.
ما فائدة الدولة إن لم تحم مواطنيها من المتلاعبين بأسعار المواد التموينية والمفتعلين للأزمات المعيشية وهم يؤلبون المواطن ضدها خدمة لأجندات مشبوهة وقذرة كما حصل في أزمة الخبز؟
ما تفسيرنا لموجة الاستياء العام من تصعيدات الاتحاد العام التونسي للشغل، التي تصر المنظمة النقابية على تسميتها وتوصيفها بـ”الشيطنة” في حق “من يمثل القوى العاملة ويدافع عن حقوقها منذ ما يزيد على سبعة عقود”.
◙ الحل هو استعادة الدولة لسلطتها وحزمها والضرب على أيادي المخالفين واللصوص والعملاء الضالعين ـ وللأسف الشديد ـ في أروقة كثيرة من المؤسسات الحكومية
هل ثمة مواطن يغضب ممن جاء يدافع عن حقوقه، وهل تجتمع أمة كاملة على باطل كما يقال؟
الحلال بيّن والحرام بيّن، فهذه أطراف حكومية وأخرى مستقلة وغالبية ساحقة من المواطنين تعتبر أن ما تدّعيه قيادات الاتحاد، هو في أقل توصيفاته، مكابرة غير مبررة، وبمثابة من “تأخذه العزة بالإثم”، بعد أن تسببت القيادات النقابية ذات المواقف المتخبطة والمضطربة في أضرار بالجملة لحقت جميع المجالات كان آخرها قطاع التعليم حين عمدت نقابة التعليم الأساسي إلى حجب الكشوفات المدرسية مقابل مطالب مشطة وغير قابلة للتفاوض أو التأجيل.
وحين واجهت وزارة التربية هذا السلوك الاستفزازي بإعفاء المئات من مدراء المدارس الابتدائية وخصم أجرة شهر للآلاف من المدرّسين، اعتبرت المنظمة الشغيلة أنّ هذا “يشكّل عقابًا جماعيًا غير مسبوق”.
أمثلة كثيرة، وفي قطاعات مختلفة، شكلت جبهات فتحتها المنظمة النقابية على السلطات التنفيذية فزادت من حدة الأزمة التي تعاني منها البلاد أصلا، وذلك دون تفهم لحساسية الظرف الذي تمرّ به البلاد.
المواطنون بدورهم، وعلى مختلف فئاتهم، بدؤوا بالتذمر من هذه المواجهات غير المبررة بين الحكومة والاتحاد في ظل أزمة تعصف بالجميع، ووجب التصدي لها بالتعقل والموضوعية من طرف القيادات النقابية، بدل التصعيد وكسر العظام والمزايدة بمطالب مشطة.
يجب أن نعترف أن مثل هذه المطالب النقابية “غير نقابية”، وأن صعوبات التزود بالخبز وبعض المواد الأساسية زاد من حدتها المحتكرون الذين يصبّون الزيت على النار.
وحتى الأزمة التي أثيرت حول المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء، فقد تسبب فيها تجار البشر داخل البلاد وخارجها بمساعدة أطراف سياسية ذات مشروع استيطاني ثم انبروا يبكون ويرثون لحال حقوق الإنسان في بلادنا.
◙ لا تزال هذه الجيوب تستمر في زعزعة أركان الدولة عبر حالات مختلفة من الانفلات باسم الحريات النقابية والحزبية وغيرها، وذلك على الرغم من عزم الرئيس قيس سعيد، على تطهير البلاد من هؤلاء
السؤال المؤرق هو لماذا لم تكن الحال في تونس على هذا النحو والبؤس أيام حكمي بورقيبة وبن علي، وهل كان هناك من يتجرأ على الدولة بمثل هذا التطاول؟
السبب هو ذاك التراخي المتعمد من قبل من مسكوا بزمام الحكم بعيد 14 يناير 2011، وذلك ضمن مشروع يهدف إلى إضعاف الدولة ومن ثم الانقضاض عليها لجعلها في خبر كان.
والحل هو استعادة الدولة لسلطتها وحزمها والضرب على أيادي المخالفين واللصوص والعملاء الضالعين ـ وللأسف الشديد ـ في أروقة كثيرة من المؤسسات الحكومية.
وها هي “عصا الدولة” تثبت نجاعتها بالحجة والبرهان، في حل عدة أزمات، فجولات المراقبة على المخابز حلت جزءا كبيرا من أزمة الخبز، وكذلك مكّن فصل مدراء المدارس واقتطاع مرتبات المدرسين المضربين من إنهاء أزمة حجب الأعداد التي استمرت لأشهر وأجبرت النقابات على التهدئة.
الحزم يعلّم الانضباط بالتأكيد، حتى يصبح الأمر سلوكا بل طبيعة ثانية، لأن الانحلال لم يكن متجذرا ويسري في دماء البشر، وإنما جاء من شجّع عليه واستثمر فيه.
ولا بد من التذكير بأن عصا السلطة ليست عصا سحرية تقول للأشياء كوني فتكون، وإنما يلزمها بعض الصبر أيضا.