"الوحشي".. جدلية العمارة والإنسان في مواجهة الاغتراب

إلى أي مدى يمكن للفنان أن يصمد أمام التحديات المادية والالتزامات العائلية خاصة إن كان مهاجرا جديدا، هاربا من حرب طاحنة نحو بلد لا يملك فيه شيئا؟ ذلك ما يتناوله فيلم "ذي بروتاليست" أو "الوحشي"، والذي يركز على الصراعات النفسية العميقة التي يعيشها البطل، المهندس المعماري لازلو توث، مع استعادة معاناته من آثار الهولوكوست.
نال فيلم “ذي بروتاليست” أو “الوحشي” جائزة أفضل فيلم درامي من جوائز غولدن غلوب التي وُزّعت الأحد، ضمن احتفال أطلق موسم المكافآت الهوليوودية، كما حصل بطل الفيلم أدريان برودي على جائزة أفضل ممثل عن دوره الذي يلعبه في الفيلم لناجٍ مجري من محرقة اليهود.
صدر فيلم “الوحشي” في عام 2024 ليصبح واحدا من أبرز الأفلام التاريخية الملحمية التي حققت نجاحًا نقديًا هائلًا. أخرجه برادي كوربيت، الذي شارك أيضًا في كتابة السيناريو مع مونا فاستفولد، وكان هذا الفيلم نتاج تعاون دولي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمجر.
تركز القصة على شخصية لازلو توث، المهندس المعماري اليهودي المجري الذي نجا من الهولوكوست وهاجر إلى الولايات المتحدة، حيث واجه تحديات كبيرة في سعيه لتحقيق “الحلم الأميركي”. يؤدي أدريان برودي دور لازلو، ويشاركه في البطولة عدد من الأسماء الكبيرة مثل فيليسيتي جونز، وغاي بيرس، وجو ألوين، بالإضافة إلى العديد من الممثلين البارزين الآخرين مثل رافي كاسيدي، وستايسي مارتن، وإسحاق دو بانكولي.
يبرز العمل مشاعر العزلة والصراع الداخلي الذي يعاني منه العديد من المهاجرين الذين يواجهون العقد والعقبات في مجتمع غريب. وتركز الأحداث على كيفية تعامل الشخصية الرئيسية مع الألم العاطفي والنفسي الناتج عن فقدان الهوية الشخصية في مكان جديد، إلى جانب فشل العواطف الإنسانية في التكيف مع المتغيرات الجديدة التي تطرأ على حياة المهاجرين في الغرب.
وتركز أحداث السيناريو على عرض صراع لازلو مع واقع الحياة في المهجر، مع تسليط الضوء على موضوعات الهجرة والهوية الثقافية والعزلة الاجتماعية، إذ يبدأ العمل بمشاهد تظهر حياة لازلو السابقة وكيف أن ماضيه المدمر جراء الهولوكوست يطارده في كل خطوة يخطوها، ويعتمد السيناريو على بناء سرد زمني غير مترابط لعرض رحلته النفسية والمهنية، محاولا دمج الماضي في الحاضر عبر حوارات قوية تعبر عن تعقيدات الحياة والصراعات النفسية الداخلية للشخصية، بينما تزداد تلك التعقيدات مع كل قرار يتخذه البطل في الزمان والمكان لربط الأحداث بشكل يجعل من المشاهد جزءًا من تجربة لازلو الوجدانية.
وتبرز متتالية المشاهد الصراع بين شخصية لازلو ورجل الأعمال الذي يمثل النظام الجديد القاسي، ويجسد الممثل غاي بيرس صورة عن هذا النظام، إذ يبين تباين المصالح بين فرد يسعى للإبداع والفن وتجسيد حلمه في تشييد مبنى بأسلوب المدرسة الوحشية “بروتاليست” وآخر يسعى لتحقيق الربح المادي على حساب هذا الإبداع، وتوضح هذه الديناميكية كيف أن الحياتين الفنية والاقتصادية لا تتماشيان بشكل دائم في المجتمع، حيث يضطر المبدعون في العديد من الأحيان إلى التنازل عن بعض مبادئهم من أجل البقاء أو تحقيق الاستقرار المادي.
ويطرح الفيلم العديد من الأسئلة عن علاقة الفن بالتجارة والتضحية بالجوانب الإنسانية في سبيل الوصول إلى النجاح المادي، ويناقش كيف يضطر الفنان إلى التضحية بجوانب من إنسانيته وإبداعه الفني في سبيل الربح المادي الذي قد يحوله إلى شخص معذب نفسيا، وهو ما تركز عليه الحبكة الأساسية لفيلم "ذي بروتاليست".
وفي تقييم أداء الممثلين المشاركين في هذا الفيلم يمكن القول إن أدريان برودي قدم أداء قويا في دور لازلو توث، حيث عمل بجد لإظهار الصراع النفسي المؤلم الذي تعاني منه الشخصية، مازجا بين لحظات العزلة النفسية والانخراط في الواقع، ليعطي بعدا إنسانيا حقيقيا للشخصية، متنقلا بين اللحظات المؤلمة والمليئة بالأمل في نفس الوقت، وهذا من الممكن أن يجعل المشاهد يشعر بعمق الأزمة التي يعيشها المهندس لازلو.
ونجح الممثل برودي في نقل مشاعر الحزن والارتباك، وكان هذا واضحا في لغة جسده وتعبيرات وجهه التي جعلت تقمصه للشخصية أكثر مصداقية، ورغم العوائق النفسية التي يواجهها لازلو فإن أداء الممثل برودي مقنع ويشد انتباه المشاهد ويثير لديه شعور الارتباط بالشخصية الحقيقية.
وتظهر الممثلة فيليسيتي جونز في دور الداعمة التي تحاول تقديم التوازن في حياة لازلو، لكونها تؤدي دورا قويا ومعقدا كفتاة مقعدة بتفاصيل دقيقة في تعبيراتها وصوتها، ويبرز أداؤها تناقضات شخصيتها التي تُظهر الحب والتفهم رغم الإعاقة وجسدها محدود الحركة، بينما في نفس الوقت تواجه تحدياتها الخاصة في الحياة. أما غاي بير فإنه يقدم أداء معقولا في دور الرجل المادي الذي يعترض طريق لازلو، كشخصية تفرض قوتها وقسوتها على من حولها، وتبين هذا من خلال تعبيراته الجادة وحركاته الباردة التي أظهرت جشع الشخصية التي تعيق كل محاولات الإبداع، وهو ما عزز مشاهد الصراع الذي يسود الفيلم.
ويعتمد المخرج رادي كوربيت في هذا الفيلم على أسلوب كلاسيكي في التصوير، إذ كانت الكاميرا الثابتة هي الأداة الرئيسية في معظم المشاهد، وهذا الأسلوب ساعد على خلق جو هادئ ومركز على التفاصيل في علاقة المهندس المعماري لازلو بمن حوله خاصة الممول الرئيسي لمشروعه، كما تم استخدام لقطات قريبة ومتوسطة في معظم تكوين اللقطات، وأحيانًا كانت هناك لقطات قريبة جدًا كمشاهد زوجة لازلو المقعدة وتلك المشاهد الجنسية المقحمة عمدا، إذ اقتربت الكاميرا بشكل مكثف من اللقطات الإباحية وهي في جوهرها لقطات مجانية لا تخدم قصة المهندس الفنية والإبداعية، بينما استخدم المخرج تقنيات التصوير العلوية والسفلية في المشاهد الخارجية التي كان ينوي فيها لازلو وضع التصميم للبنايات المعمارية، كما استخدم المخرج البؤرة العميقة فيها.
وعلى الرغم من أن “الوحشي” يُعتبر فيلمًا يستحق المشاهدة بسبب محتواه العميق وأداء الممثلين الممتاز، إلا أن طوله الذي يتجاوز ثلاث ساعات يُعد أحد العوامل التي قد تؤثر سلبًا على تجربة المشاهدة، فطول مدة الأحداث غير مبرر في بعض الأجزاء خاصة المشاهد الجنسية، فهي تحتوي على تفاصيل مملة وغير ضرورية في جوهر القصة ككل، ربما كان من الأجدر تقليص تلك المشاهد أو حذفها فهي تُشعر المشاهد بضغط إضافي يؤثر على استمتاعه بالتجربة الحقيقية للفيلم ومتابعته قصة المهندس.
وعرض الفيلم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في سبتمبر 2024، حيث نال إعجاب النقاد وحصد جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج. بعد عرضه، أصبح الفيلم واحدًا من أبرز الأفلام لعام 2024، حيث تم اختياره ضمن قائمة أفضل عشرة أفلام من قبل معهد الفيلم الأميركي. فاز الفيلم بثلاث جوائز في حفل توزيع جوائز غولدن غلوب الثاني والثمانين، بما في ذلك جائزة أفضل فيلم درامي، وهو ما يعكس نجاحه الكبير في العالم السينمائي. تم إصدار الفيلم في الولايات المتحدة في 20 ديسمبر 2024 من قبل شركة إيه 24.
وتم تطوير مشروع الفيلم تحت إشراف شركة أندرو لورين للإنتاج، وبدأ التصوير في بولندا في يناير 2021، رغم التحديات التي واجهها بسبب جائحة كورونا. وكان المشروع بمثابة تعاون بين العديد من الشركات السينمائية من مختلف البلدان، وكان يتطلب تصويرًا بعدة لغات، بما في ذلك الإنجليزية واليديشية والمجرية والإيطالية. ويعتمد الفيلم على حقيقة تاريخية تعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويستحضر ملامح من حياة العديد من الشخصيات المعمارية البارزة، وهو ما يضفي عليه طابعًا فنيًا عميقًا.