الواقعية من منظور سوريالي: هيرتا موللر بين كتابين

استطاعت رواية “أرجوحة النفس“ أن تقفز بالروائية الرومانية المولد والألمانية الأصول والإقامة هيرتا موللر إلى مصاف الروائيين العالميين، عندما استطاعت أن تفوز بجائزة نوبل للآداب عام 2009.
لكن المتتبع لحياة هذه الكاتبة الموزعة في إبداعها بين الرواية والشعر والقصة والترجمة، سوف يلاحظ أن حصول الكاتبة على جائزة نوبل لم يكن سوى تتويج لعدد كبير من الجوائز الأدبية الألمانية والأوربية التي حصلت عليها عن أعمالها المختلفة، حتى استطاعت الوصول إلى هذه المكانة الأدبية عالميا، ما يكشف عن القيمة الأدبية الكبيرة التي تتمتع بها هذه الكاتبة، من خلال ما تحمله أعمالها من قيمة إبداعية وخصوصية جمالية وأدبية أعطتها هذه المكانة الخاصة في عالم بالأدب.
إن السمة المميزة لأعمال موللر هي تلك الواقعية التي تقدمها من خلال منظور سوريالي يكشف عن غرابة الواقع والحياة، التي تعيشها شخصياتها، حيث تلعب اللغة الشعرية التي تميز لغة السرد عندها دورا هاما على هذا المستوى المتصل بشخصية السارد/ البطل الذي يهيمن على المشهد السردي للرواية، كاشفا عن تلك العلاقة المختلة بينه وبين الواقع والأشياء، التي تحيط بعالمه، حيث ترسم الكاتبة من خلال هذا الشعور الطاغي المتولد عند أبطالها صورة حزينة لتجربة وجودية، تعيشها تلك الشخصيات، مجسدة في ذلك غربتها وغرابة الواقع الغريب، الذي تفتقد القدرة على التواصل الحيّ معه بصورة درامية مؤثرة.
بين روايتين
لعب مشروع كلمة للترجمة بأبوظبي دورا كبيرا وهاما في تعريف القارئ العربي بأعمال الكاتبة موللر، من خلال ترجمتها إلى العربية ووضعها في متناول يده، حيث يستطيع تكوين صورة شاملة عن منجزها الروائي. ولمّا كان من الصعوبة تقديم قراءة واسعة في هذا الحيز من الكتابة عن تلك الأعمال، فقد اخترنا عملين اثنين، هما روايتها “أرجوحة النفس“ التي فازت عنها بجائزة نوبل، ورواية “إسقاطات” التي صدرت أخيرا ضمن سلسلة أعمالها المترجمة، نظرا لما تتميز به الروايتان من تقارب على مستوى المنظور السردي وشخصية البطل/ السارد ولغة السرد وبعض السمات الأخرى التي سوف نتحدث عنها لاحقا، إلى جانب ما تختلفان فيه من موضوعات وأحداث وأمكنة يحيل كل منها إلى عالم وتجربة مختلفين.
|
أرجوحة النفس
على الرغم من أن والدتها قد عاشت تجربة العمل في معسكرات العمل الإجباري السوفياتية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تعترف بالدور الهام الذي لعبته شخصية الشاعر أوسكار باستيور في سرد وقائع تجربته الفظيعة في تلك المعسكرات، ما أغنى معرفتها بتفاصيل الحياة ووقائعها الدامية التي كان يعيشها العاملون في تلك المعسكرات، وساعدها في إنجاز هذا العمل الروائي، الذي تحاول فيه تمثّل فظاعة التجربة التي عاشها بطل الرواية في تلك المعسكرات وهو يغالب الموت جوعا. تفتتح الكاتبة روايتها بالتعريف بشخصية بطل الرواية من خلال تقديمها للقارئ، حيث يستطيع تكوين صورة عنها، وعن الدوافع التي قادتها للاستسلام لقدرها هربا من الحالة، التي كانت تعيشها بسبب علاقاتها المثلية، وهو ما جعلها ترى في هذا الترحيل إلى تلك المعسكرات خلاصا لها من شعورها بالضيق بالمكان والأسرة والنفس. هذا السرد التحليلي الذي يقدمه بطل الرواية وسارد وقائعها وأحداثها سوف يجعل القارئ يعيش معها ما كان يعتمل في داخلها من مشاعر وأحلام ورغبات، وما كانت تفكر به، ويسيطر عليها من اندفاعات وميول، ستظل جميعها أسيرة تلك الأحداث الفظيعة، التي استطاع أن ينجو من الموت خلالها، حيث لا قيمة للموت أو الحياة في تلك المعسكرات المرعبة. تضع عتبة السرد أو الفاتحة السردية القارئ في صلب حدث الرواية من خلال السرد الذي يقدمه بطل الرواية ويرتبط به ارتباطا مباشرا، حيث يشكل بؤرة مركزية تتفرع عنها بؤر سردية أخرى تشكل المتن السردي للرواية ( ها قد أخذت كل ما عندي رغم أنه لم يكن ملكي، وكان هذا الذي حملته غير ضروري وربما كان ملكا لشخص آخر فحقيبة جلد الخنزير كانت تستخدم صندوقا للجراموفون والمعطف الواقي من الغبرة كان للوالد. أما المعطف المدني بشرائطه الكثيرة على العنق فقد حصلت عليه من جدي، وأعطاني عمي إدوين السروال، وأهداني السيد كارب مشدات الساق الجلدية). تستبدل الكاتبة فصول الرواية بمجموعة مشهديات يتحدث فيها بطل الرواية عن يوميات المعسكر المرعبة والظلم والبؤس الفادح الذي كان يواجهه الألمان في هذه المعسكرات الروسية بذريعة إعادة بناء ما هدمته الحرب.
بنية الرواية
يعيش بطل الرواية بعد عودته من تلك المعسكرات تجربة يفتقد فيها القدرة على التكيف مع محيطه العائلي إذ لا يستطيع التحرر من تأثيرات سنوات العمل في تلك المعسكرات ولا من مشاهداها ووجوه شخصياتها، الأمر الذي يجعله يحاول أن يضبط حركة عمله على القاعدة، التي كان يعتمدها هناك للحفاظ على البقاء، ما يكسبه مهارة ونجاحا في أعماله. يتنقل بطل الرواية بين أعمال وأماكن مختلفة، حتى يهرب إلى النمسا وهناك تنتهي حياته بعيدا عن كل ما له علاقة بماضيه.
|
بطولة الأنثى
العالم السردي
تنحو لغة مشاهد الرواية نحو الشاعرية حتى تصبح أشبه بقصائد عالية التكثيف والانزياح، تنطوي في وصفها للمكان والشخصيات والوقائع على درجة عالية من اللعب على الكلمات والغرائبية التي تدلل على علاقات الاغتراب، التي تعيشها بطلة الرواية مع الأشياء والحياة والمحيط الاجتماعي ( استيقظ فأخلع ثوبي وأضعه على الوسادة وأرتدي بيجامتي وأذهب إلى المطبخ وأدخل حوض الاستحمام وأتناول المنشفة، فأغسل بها وجهي وأتناول المشط فأجفف نفسي به، وأتناول فرشاة الأسنان فأمشط بها شعري، وأتناول ليفة الحمام فأنظف بها أسناني، ثم أذهب إلى الحمام فآكل شريحة من الشاي وأشرب كوبا من الخبز). تستحضر الكاتبة في هذه الرواية طقوس حياة الريف بكل تفاصيلها من ولادة الحيوانات إلى الزراعة والأعمال المنزلية، بينما تظهر شخصية الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن شخصياته، وما تفكر به أو تحاول أن تقوله أو تفعله. كما تسهب في وصف تفاصيل المكان الذي تقع فيه هذه القرية، كاشفة عن غربتها التي تجعل علاقتها مختلة مع محيطها، وهو ما تتولد عنه هذه الرؤية الغرائبية التي تجعلها تقدم الأحداث والشخصيات والأشياء من خلالها أو تحاول أن تعبر عنها من خلالها.