الهواء الملوث يسلب من الإنسان الصحة والسعادة والذكاء

دراسات تربط بين تلوث الهواء وتدهور القدرات المعرفية وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة.
الثلاثاء 2019/05/28
معدل تخفيض جسيمات التلوث بالقرب من شجرة يتراوح بين 7 و24 في المئة

تعتبر المساحات الخضراء طريقة فعّالة من حيث التكلفة لمكافحة تلوث الهواء والأمراض النفسية والجسدية المترتبة عنه، إضافة إلى أنها تخلق نموذجا للمدن الخضراء الصديقة للبيئة.

تصدر وحدة المعلومات الاقتصادية التابعة لمؤسسة الإيكونوميست سنويا قائمة بـ”أفضل المدن الملائمة للعيش” من بين 140 مدينة كبرى في العالم، وتصنف كل منها على حدة وفقا لنحو 30 عاملا من العوامل المتعلقة بظروف العيش والأمن والرعاية الصحية وجودة الطعام، فضلا عن التعليم والطرق ووسائل المواصلات.

والعام الماضي انتزعت فيينا عاصمة النمسا لقب “أكثر مدن العالم ملاءمة للمعيشة” من مدينة ملبورن الأسترالية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ المسح الدولي الذي تجريه وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجموعة الإيكونوميست.

وفي المسح نفسه، أحرزت مدينة مانشستر البريطانية تقدما ملحوظا بواقع 16 مركزا، وهو التقدم الذي لم تحققه أي مدينة أوروبية أخرى، لتحتل المركز رقم 35 بين أكثر مدن العالم ملائمة للمعيشة. غير أن قياس مدى جودة الحياة في مدينة ما، قد يغفل عن جانب مهم وهو، هل أن المدن التي توصف بأنها أحد أفضل الأماكن للعيش تحسن من صحة سكانها أم تؤثر عليها بالسلب؟

يكتسي هذا السؤال أهمية بالغة خاصة في الوقت الراهن، وبالنظر إلى التنامي السريع في عدد سكان العالم، وكذلك التوجه المتزايد للنزوح من الريف إلى المدن.

ويعيش الآن أكثر من نصف سكان العالم في المدن، ويتنقل أكثرهم يوميا عبر طرق مزدحمة وملوثة بالمعادن السامة.

لكن من الواضح أن معظم الأبحاث لا توفر دليلا قطعيا يستدل به على البيئات الأفضل للصحة، إلا أن العلماء بدؤوا في السنوات الأخيرة في دراسة العلاقة بين الصحة النفسية والبدنية وبين البيئة التي يعيش فيها الناس، فتبين لهم العديد من العوامل، التي قد ترفع من مزايا بيئة معينة أو تنقص منها، سواء أكانت هذه البيئة من المدن التي تتباهى بكونها الأحدث والأكثر عصرية، أو قرى وأرياف هجرها سكانها بحثا عن حياة أفضل في المدن.

وربطت البعض من الدراسات الحديثة بين تلوث الهواء وبين تدهور القدرات المعرفية وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة، وزيادة مخاطر الإصابة بالاضطرابات النفسية وتدني التحصيل الدراسي، والأخطر من ذلك ارتفاع معدلات الجرائم.

وذكرت منظمة الصحة العالمية أن تسعة من بين كل 10 أشخاص يتنفسون هواء يحتوي على مستويات عالية من الملوثات.

وتشير التقديرات إلى أن ما يتراوح بين خمسة ملايين ونصف المليون، وسبعة ملايين شخص يلقون حتفهم سنويا بسبب استنشاق الدخان والغازات الضارة، وجزيئات السخام التي تطلق في الجو.

وفي الصين والهند تزيد معدلات الوفيات إلى مستويات تنذر بالخطر، إذ يحصد الهواء السام أرواح ثلاثة ملايين شخص سنويا في هاتين الدولتين فقط.

وتقول دراسة أجراها باحثون من جامعة لندن أن حياة المدن تعرقل من قدرة الناس على التركيز، وأجريت الدراسة على قبيلة نائية في أفريقيا حافظ أهلها على البقاء في الريف في حين انتقل آخرون للعيش في مناطق حضرية، وتوصلت إلى أن الجماعات الحضرية تواجه صعوبة في تركيز الانتباه.

وقالت كارينا لينيل، إحدى الباحثات المشاركات في إعداد الدراسة، إن الفروقات بين القدرة على التركيز جاءت فوق ما توقعه الباحثون.

وأجرت لينيل، وهي باحثة بقسم العلوم النفسية بالجامعة، اختبارات معرفية عديدة شملت قبيلة هيمبا في ناميبيا في جنوب غرب أفريقيا، كما تضمّنت المزيد من المقارنات مع الشباب في لندن.

9 من بين كل 10 أشخاص، كشفت الصحة العالمية أنهم يتنفسون هواء يحتوي على مستويات عالية من الملوثات

وكشفت الدراسة أن الرجال والنساء في قبيلة هيمبا، ممن ظلوا في المنطقة الريفية ومراعي الماشية يستجيبون على نحو أفضل للتركيز، مقارنة بأفراد ينتمون إلى نفس القبيلة تخلوا عن العيش في محيط القبيلة وانتقلوا إلى الإقامة في المدن.

وقالت لينيل إن النتائج التي توصلت إليها الدراسة كانت “مشابهة” للنتائج التي توصل إليها طلبة الدراسات العليا حال إجراء نفس الاختبارات في لندن.

وأشار الباحثون أن الناس في المجتمعات الحضرية يتمتعون بمحفزات تنبيه أكثر، حيث يتحلون بإفراط من حيث استخدام البصر والأصوات.

وأضافت لينيل أن القدرة على التركيز تتحسن مع زيادة حواس الفرد، لكن كلما زاد الإفراط فيها، ظهرت آثارا عكسيا وانخفضت قدرة التركيز على مهمة واحدة.

وبناء على ذلك فإن أولئك الذين يعيشون في المدن لم يظهروا أداء جيدا في الاختبارات التي تتطلب تركيزا مستمرا والقدرة على عدم صرف الانتباه.

في حين أظهر أولئك الذين يعيشون في الريف قدرة أفضل خلال اختبارات التركيز، وفي المهام التي تعتمد على استخدام الكمبيوتر، وهي مهام افترض فيها احتمالية عدم التآلف مع التكنولوجيا.

وتؤكد لينيل أن القضية ليست بالضرورة مسألة تحديد الأفضل والأسوأ، بل هي انعكاس لما هو لازم للبقاء في المجتمعات الحضرية المكتظة بالسكان.

وأوضحت أيضا أنها لا تمثل تأثيرا “دائما لوقت وجيز”، حيث أن الاختبارات تشير إلى أنّ سكان المدن من هذه القبيلة طوّروا طريقة مختلفة للنظر إلى الأحداث.

وتوصلت الدراسة إلى نتيجة أخرى، وهي أن أفراد قبيلة هيمبا ممن انتقلوا إلى العيش في المدينة هم الأكثر استياء وإظهارا لعلامات عدم السعادة.

وعلى النقيض كانت الحياة البسيطة لأفراد القبيلة في الريف تجعلهم على ما يبدو يتحلون بإحساس اكبر من الراحة.

ويعني ذلك أن العديد من سكان المدن تتراجع قدرتهم على الأداء حال تعاملهم مع مهام تتطلب تفكيرا مستداما.

وهناك بحث آخر متميز أجراه سيفي روث ومجموعة من الباحثين، من كلية لندن للاقتصاد في عام 2011، حاولوا من خلاله تتبع آثار تلوث الهواء بخلاف آثاره السلبية المعروفة على الصحة وتسببه في وفاة الملايين.

قام روث وفريق بحثه بدراسة تأثير تلوث الهواء على الأداء المعرفي لمجموعة من الطلاب أثناء تأدية الامتحانات في أيام مختلفة، ورصدوا نسبة تلوث الهواء في تلك الأيام، وحرصوا على أن تكون المتغيرات الأخرى، مثل المستوى التعليمي ومكان انعقاد الامتحان ثابتة.

ولاحظ فريق البحث وجود تفاوت كبير بين درجات الطلاب تزامن مع ارتفاع مستويات تلوث الهواء أو انخفاضها، إذ أحرز الطلاب أدنى الدرجات في الأيام التي بلغ التلوث فيها أعلى مستوياته، وكلما تحسنت جودة الهواء، تحسن أداء الطلاب.

وبعد ثمانية أعوام من الامتحانات تابع روث أداء الطلاب، لتقييم آثار التلوث طويلة الأجل. فاكتشف أن الطلاب الذين أدوا الامتحانات في الأجواء الأكثر تلوثا انتهى بهم المطاف في الجامعات الأدنى تصنيفا، وكانوا يتقاضون رواتب أقل من نظرائهم الذين أحرزوا درجات أعلى.

وعلق روث عن ذلك بقوله “بالرغم من أن تأثير تلوث الهواء كان قصير الأجل، في هذه الحالة، إلا أنه أثر على مستقبل الطلاب على المدى الطويل لأنهم تعرضوا للهواء الذي يحتوي على مستويات مرتفعة من الملوثات في هذه المرحلة الحاسمة في حياتهم”.

وأيدت دراسة أخرى أجريت عام 2016 النتائج الأولية التي توصل لها روث، إذ أثبتت أن الهواء الملوث يؤثر على أداء العاملين.

وفي عام 2018، أجرى فريق روث البحثي تحليلا لسجل الجرائم والجنايات في 600 دائرة انتخابية بلندن، ولاحظوا أن ارتفاع مستويات التلوث اقترن أيضا بزيادة في عدد الجنح والمخالفات، في المناطق الغنية والفقيرة على حدّ السواء.

وراقب الفريق سحابة من الهواء الملوث لرصد تأثيرها على مناطق معيّنة على مدار أيام.

وقال روث “لقد تعقبنا سحابة من الهواء الملوث يوميا وتابعنا مستويات الجرائم في كل منطقة تصل إليها هذه السحابة، فلاحظنا بالفعل أن معدلات الجريمة كانت ترتفع في المناطق التي تغطيها”.

الصحة النفسية تختلف من مكان إلى آخر
الصحة النفسية تختلف من مكان إلى آخر

وخلصت دراسة أجراها فريق بحثي بقيادة جاكسون لو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حلل فيها بيانات من سجلات جميع مدن الولايات المتحدة الأميركية تقريبا على مدى تسع سنوات، إلى أن تلوث الهواء كان مؤشرا على ارتفاع معدل ارتكاب الجنايات والجرائم الخطيرة، مثل القتل الخطأ والاغتصاب وحوادث السطو وسرقة السيارات والاعتداءات. وسجلت أعلى معدلات الجريمة في المدن الأكثر تلوثا.

ودعم هذه النتائج بحث آخر اُجري حول تأثير التلوث على المراهقين، وزيادة احتمالات مخالفتهم للقواعد والآداب العامة، مثل ارتكاب الغش والتغيب غير المبرر عن المدرسة، والسرقة، وتخريب الممتلكات، وتعاطي المخدرات.

وركزت ديانا يونان، من جامعة جنوب كاليفورنيا، وسائر الفريق البحثي على تركيزات الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، وراقبت التأثير التراكمي للتعرض لهذه الملوثات لدى 682 مراهقا على مدى 12 سنة. ولاحظ الباحثون أن احتمالات ارتكاب المخالفات تزداد في المناطق التي ترتفع فيها مستويات التلوث.

وتؤكد الأبحاث، بشكل عام، أن المساحات الخضراء مفيدة لسكان المدن، إذ يتعرض من يعيشون بجوار المتنزهات أو الأشجار لمستويات أقل من تلوث الهواء والتلوث السمعي الناتج عن الضجيج، ويستمتعون بتأثير المتنزهات في تبريد الهواء، وهذا الأثر تزداد أهميته كلما ارتفعت حرارة الأرض.

أكثر من نصف سكان العالم يعيشون الآن، في المدن، ويتنقل أكثرهم يوميا عبر طرق مزدحمة وملوثة بالمعادن السامة

وقالت دراسة أعدتها منظمة الحفاظ على الطبيعة والمعروفة باختصار (تي.أن.سي)، ومقرها الولايات المتحدة الأميركية، إن معدل تخفيض جسيمات التلوث بالقرب من شجرة يتراوح بين 7 و24 في المئة.

وجسيمات التلوث المعروفة بـ(بي.أم) هي جسيمات ميكروسكوبية، تعلق في رئات الأشخاص الذين يتنفسون الهواء الملوث.

وقال روب مكدونالد، المشرف على الدراسة، إن أشجار المدن تجلب بالفعل العديد من الفوائد، للأشخاص الذين يعيشون في المناطق الحضرية.

وشدد مكدونالد على أن دراسة فوائد الأشجار في 245 مدينة حول العالم أظهرت انخفاض تكلفة الأشجار، مقارنة بالوسائل الأخرى في تبريد وتنظيف الهواء.

ويمكن أن تساهم الجهود الحضرية لزيادة المساحات الخضراء في إضفاء صورة إيجابية على أي مدينة. ففي برلين مثلا، صوت المواطنون ضد تطوير مطار تمبلهوف السابق، كما أنه تم تحويل الأراضي التي بها نفايات صناعية في منطقة روهر إلى منتزهات.

أما الارتباط التاريخي للدول العربية بالحدائق والمساحات الخضراء، فيكاد يصبح شيئا من الماضي بسبب النمو السكاني والزحف العمراني في العصر الحديث اللذين قلّصا من حجم المساحات الخضراء في معظم المدن العربية، لكن من المؤكد أن اللجوء إلى الحياة الطبيعية هربا من قسوة الحياة العصرية ذات الطابع المادي المفرط، سيظل من الأمور التي تستحق العناء، وهو ما عبر عنه عالم التاريخ الطبيعي الأميركي جون موير بقوله “عليك أن تظل قريبا من قلب الطبيعة، وأن تخفف من كل شواغلك والتزاماتك من حينٍ لآخر، لتطهر روحك من كل ما يشوبها تماما”.

17