الهندسة الوراثية ثورة علمية أم تهديد للبشرية

العلاج الجيني يضع المرضى أمام خيارات علاجية أحلاها مر، وتقنية تعديل الجينات تثير مخاوف أخلاقية وتهدد مستقبل العالم.
الأربعاء 2018/11/14
تقنية تعديل الجينات تهدد بمستقبل قاتم

علماء الهندسة الوراثية على أعتاب أكبر ثورة في تاريخ علم الأحياء البيولوجي، ستحمل في طياتها فوائد جمة للبشرية وستستفيد منها لعلاج أمراض خطيرة، حيث أحدثت تقنية “كريسبر” منذ اكتشافها تحولات جوهرية في أبحاث الطب الحيوي، ويأمل الباحثون في استخدام هذه التقنية لتعديل جينات البشر، بغرض القضاء على الأمراض وإكساب النباتات قوة تحمُّل والتخلص من مسبِّبات الأمراض، والكثير من الأهداف الأخرى. ورغم إمكانيات تقنية كريسبر الواعدة، يشعر الكثير من العلماء بالقلق بسبب عوامل السلامة التي قد تطرأ خلال هذه التجارب، كما لا تخلو من المحاذير الأخلاقية، لا سيما مسألة تعديل الجينات في الخلايا النطفية أو في البويضة، لأنها قد تزيد احتمالات التلاعب في صفات الأطفال، حتى وإن كان الغرض منها القضاء على الأمراض الوراثية، بينما يشعر آخرون بالقلق من تَسَبُّب الكائنات المعدَّلة وراثيّا في إحداث اضطرابات أو انهيارات في الأنظمة البيئية كلها.

زادت في الآونة الأخيرة حدة الجدل من الإمكانيات المخيفة للعبث بالحمض النووي للإنسان، بهدف تحسين صفات البشر الوراثية مثل الذكاء واللياقة البدنية وممارسة الرياضة بأكثر كفاءة، بل وحتى الحس الأخلاقي.

وتعتبر معرفة وفهم الحمض النووي وكيفية تأثيره على الإنسان، بلا شك محطة مفصلية في مجال علم الجينوم الذي يتوقع أن يحدث ثورة في عالم الطب.

وسواء استخدمت المعلومات الجينية للأفضل أم للأسوأ، فإن العلماء الآن قد نفذوا أكبر عملية اختراق للحمض النووي بمنتهى الكفاءة، وأعادوا كتابة حروفه، وتحميله بأوامر مرغوب فيها لتصميم نظم جديدة من الحياة.

وأجريت التجارب على النباتات والحيوانات، والآن يجري دفع عجلة التكنولوجيا لتطبيقها على الإنسان.

تقنية "كريسبر"

يعود الفضل في ذلك، لتقنية ثورية اكتشفها اليابانيون سنة 1987، وأطلق عليها اسم “كريسبر” وهي مستوحاة من نظام طبيعي دفاعي تستخدمه البكتيريا لحماية نفسها والقضاء على الحمض النووي للفيروسات.

وتعتمد على إنزيم يدعى “كاس 9” لقطع الحمض النووي للفيروس في الأماكن المستهدفة بدقة وإعاقة نسخه وتكاثره.واستلهم العلماء تلك الطريقة الدقيقة لتعديل جينات الكائنات الحية، وتمكنوا من تنقية المليارات من الحروف للشفرة الوراثية وتحديد هدفها الوراثي.

ويعتقد الخبراء أن هذه التكنولوجيا التحويلية الجديدة، أداة سحرية لحل المشكلات، وقد تغير بشكل جذري طرق مكافحة الأمراض المستعصية في مجال الطب الحديث، كالإيدز والتهاب الكبد الفيروسي والسرطان.

وقد تكون وسيلة جيدة لعزل الجينات المعيبة التي تسببها الأمراض الوراثية مثل مرض السكري والتليف الكيسي، وتتيح في المستقبل إمكانية تصنيع لقاحات وأدوية تخفف من معاناة وآلام الملايين من البشر.

وهناك تصور متزايد لدى الأوساط العلمية بأن توظيف التقنية في المجال الزراعي قد يحدث “ثورة خضراء” تحقق الأمن الغذائي المستدام، من خلال إنتاج محاصيل وفيرة وغنية بالبروتينات والمعادن والألياف ومضادات الأكسدة والعديد من الفيتامينات الضرورية للجسم.

توظيف تقنية 'كريسبر' في المجال الزراعي قد يحدث 'ثورة خضراء' تحقق الأمن الغذائي المستدام، من خلال إنتاج محاصيل وفيرة وغنية بالبروتينات والمعادن والألياف ومضادات الأكسدة والعديد من الفيتامينات الضرورية للجسم

ولعلها تساعد أيضا في تحصين المحاصيل من الأمراض والآفات، وتكييفها مع الجفاف والظروف المناخية القاسية والصعبة وخصائص التربة المختلفة.

وهناك مساع في المملكة المتحدة لخلق سلالة من الشعير قادرة على صنع سماد المونيوم الخاص بها من النيتروجين في التربة.

ويعد ذلك حافزا قويا للمزارعين، في ظروف التربة الفقيرة وضعف الموارد المالية المتاحة لشراء الأسمدة الاصطناعية.

وليس من المستبعد أن تمهد تقنية “كريسبر” في الخضروات سبيلا لتلبية الاحتياجات الفردية، التي تتماشى مع نوع الجسم والنظام الغذائي المتبع، ومساعدة الأشخاص الذين لديهم حساسية مفرطة من عنصر غذائي محدد.

وفي هذا الإطار، تشمل الإصدارات الجديدة من القمح أنواعا لمقاومة الأمراض الفطرية، وأخرى أقل نسبة في الكربوهيدرات وأعلى في الألياف الغذائية.

وتعقد آمال على إمكانية إسهام هذه التكنولوجيا الواعدة في تصميم ميكروبات وبكتيريا تنتج الوقود الحيوي والمواد الكيميائية المختلفة، وتحد من الاحتباس الحراري عبر امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، وتساهم في التخلص من النفايات السامة وغير القابلة للتحلل.

غاي ريفز: بمجرد أن تصمم فيروسا ينتشر عن طريق الحشرات، يصعب تصور كيف ستتحكم فيه، حيث لم تطلق فيروسا قابلا للانتقال فقط، بل أفرجت عن مرض
غاي ريفز: بمجرد أن تصمم فيروسا ينتشر عن طريق الحشرات، يصعب تصور كيف ستتحكم فيه، حيث لم تطلق فيروسا قابلا للانتقال فقط، بل أفرجت عن مرض

وربما سيكون بوسع العلماء في يوم ما تعديل الحمض النووي للبشر لتطوير “صفات وراثية مفضلة” مثل الذكاء واللياقة البدنية، وهو أمر قد يبدو صعب المنال، ولكن هناك من بدأ أولى التجارب في هذا المضمار.

وقد نكون على أعتاب ثورة في تاريخ علم الأحياء البيولوجي، تحمل في طياتها فوائد جمة ووعودا وإمكانات عظيمة للبشرية لا يمكن تخيلها.

 ولكن بالتوازي مع هذا التفاؤل، هناك جانب آخر مظلم يدق ناقوس الخطر حيال التبعات المحتملة التي من الممكن أن تترتب عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا، وليس مستبعدا حدوث خلل يصعب التنبؤ به، يتسبب في عواقب وخيمة.

وعلى سبيل المثال، يعد عدم وجود ضوابط تنظم الأغذية المعدلة جينيا، أمرا مثيرا للقلق والجدل، فبإمكان الشركات السعي وراء تحقيق الأرباح دون الاهتمام بالعيوب والآثار الجانبية طويلة الأمد التي قد تطرأ نتيجة التعديل الجيني للمحاصيل.

انتقاد تقنية التعديل الجيني

تقابل أيضا أفكار استخدام الحشرات ناقلات التعديل الجيني كأسلحة ضد الأمراض، بالنقد والرفض أحيانا من قبل بعض العلماء نظرا لما قد تفضي إليه من أضرار غير قابلة للتدارك للبيئة، أو أن يتم تغيير مسارها نحو تطوير أسلحة بيولوجية تضع الاستقرار العالمي تحت المحك.

وعلى سبيل الذكر، يسعى العلماء للتعويل على الحشرات المعدلة وراثيا لمكافحة مرض الملاريا.

وهو مرض يسببه كائن طفيلي (بلازموديوم)، يتسلل داخل كريات الدم الحمراء فيدمرها، ويترافق ذلك مع أعراض أهمها الحمى وفقر الدم، وينتقل الطفيلي عبر لسعات بعوض من فصيلة الأنوفيلة.

وتمكن علماء بجامعة “امبريال كولدج” في لندن مؤخرا، من تغيير التركيب الوراثي لإنتاج بعوض عقيم، باستخدام أداة تحرير الجينات الثورية “كريسبر” مع تقنية “محرك الجينات” وهي تقنية في الهندسة الوراثية تسمح بنقل جين معين على نحو تفضيلي إلى الأجيال الموالية عبر التكاثر الجنسي.

وسيؤدي البعوض المحور وراثيا في حال إطلاقه في البرية، إلى نشر جين العقم بشكل مستمر بين أجيال البعوض بحيث تنهار وتنقرض السلالة الناقلة للملاريا بشكل كامل.

وتعد تلك الخطوة في نظر القائمين على المشروع تطورا تكنولوجيا مذهلا، يحمل في طياته آمالا لاجتثاث وباء ابتليت به البشرية لقرون، وأصاب ما يقارب 216 مليون شخص، وأدى إلى نحو 445 ألف حالة وفاة سنة 2016، معظمها من الأطفال دون سن السادسة.

أما منتقدوه وخاصة الناشطون في مجال البيئة، فيقابلون الفكرة بعدم الترحيب، وحذروا من العواقب والمخاطر التي قد تهدد النظم البيئية.

تهديد البيئة

العالم بلغ مستوى غير مسبوق من السيطرة على التركيب الجيني للأنواع
العالم بلغ مستوى غير مسبوق من السيطرة على التركيب الجيني للأنواع

تسعى أيضا وكالة الأبحاث التابعة لوزارة الدفاع الأميركية “داربا”، لاستخدام الحشرات التي تحمل فيروسات معدلة وراثيا وتوزيعها في البيئة لتغيير الخصائص الجينية للنباتات، وذلك في إطار مواجهة التهديدات الطبيعية المحتملة، وتكييف المحاصيل مع ظروف استثنائية خلال الموسم لجعلها مقاومة للجفاف والفيضانات والمرض.

وبدلا من التعويل على البذور المحورة، سيرسل المزارعون أسرابا من الحشرات المعدلة وراثيا إلى محاصيلهم، فتصيبها بفيروس ينتقل إلى الجينات من أجل تكييفها مع الظروف القاصية.

وتم إنشاء المشروع سنة 2017، وتؤكد داربا أن الأبحاث سليمة من الناحية الأخلاقية، والبرنامج يهدف إلى الدفاع عن الولايات المتحدة ضد نقص الغذاء الرئيسي الذي يمكن أن يهدد الأمن القومي.

وتشير الوكالة إلى أن البرنامج مفتوح بالكامل وتحت إشراف وزارة الزراعة ووكالة حماية البيئة وإدارة الغذاء والدواء التي تنظم المنتجات الغذائية والصحية.

وينطوي المشروع على سيناريوهات طوارئ مختلفة يمكن من خلالها تعطيل الفيروس بسرعة.

وبحلول 2021 تخطط داربا لاختبار الحشرات الحاملة للفيروسات على المحاصيل في البيوت المحمية.

وسيلة جيدة لعزل الجينات المعيبة التي تسببها الأمراض الوراثية
وسيلة جيدة لعزل الجينات المعيبة التي تسببها الأمراض الوراثية

ولكن وفقا لمجموعة من الباحثين والمحامين المستقلين، فإن برنامج أبحاث داربا لتطعيم جينات المقاومة النباتية عن طريق الحشرات، قد يمهد الطريق لفئة جديدة من الأسلحة البيولوجية المحظورة بموجب القانون الدولي لعام 1975، والتي يمكن اعتبارها أسلحة دمار شامل تهدد البشرية.

ويحذر النقاد من أن مشروع الأمن الغذائي الذي تموله داربا، والذي لم ينتقل بعد من المختبر، قد يحفز البلدان على تطوير برامج مماثلة ويطلق العنان لسباق تسلح بيولوجي. ويمكن تحويل هذه التقنية لأغراض مسيئة، كتدمير المحاصيل من خلال إرسال الفيروسات عن طريق أسطول من الحشرات المعدلة وراثيا، والتي تحمل مرضا خطيرا إلى حقل مستهدف ليسبب عقما للبذور أو يقتل النباتات، ويولد بذلك نقصا فادحا في الغذاء.

ويقول غاي ريفز الباحث في معهد ماكس بلانك لعلم الأحياء التطوري في ألمانيا، والذي ساهم في الانتقاد “بمجرد أن تصمم فيروسا ينتشر عن طريق الحشرات، يصعب تصور كيف ستتحكم فيه”.  وأضاف “لم تطلق فيروسا قابلا للانتقال، لقد أفرجت عن مرض”.

واقترح العلماء تعزيز طرق حماية المحاصيل من خلال الرش الجوي، لكن المديرين التنفيذيين لبرنامج داربا يعتبرون أن هذه الأدوات باهظة الثمن وغير دقيقة.

ورغم أن آثار تعديل الحمض النووي على المدى البعيد لم تتضح بعد، إلا أن العالم بات على أعتاب عصر سيمارس فيه البشر مستوى غير مسبوق من السيطرة على التركيب الجيني للأنواع، نظرا لسهولة الوصول إلى أدوات تعديل الجينات والانخفاض الكبير في تكلفتها، وهذه التطورات مثلما تدعو للتفاؤل فإنها تثير الخوف والقلق من مستقبل قاتم، قد تفلت فيه هذه الثورة العلمية الواعدة من قبضة المخابر والأطر التنظيمية، ولا تعترف بالحدود الأخلاقية والاجتماعية والقانونية.

12