الهشاشة النفسية والانتحار

في العاشر من سبتمبر كل عام يحيي العالم اليوم العالمي لمنع الانتحار، وهو يوم توعوي بمخاطر تزايد هذه الظاهرة خاصة في صفوف الشباب.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 700 ألف شخص حول العالم يموتون كل عام بسبب الانتحار، في ما يزيد عدد الذين يحاولون الانتحار عن ذلك الرقم بكثير.
تظل هذه التقديرات نسبية، فهي قديمة وتعود إلى العام 2019، ونحن نعلم جيدا أن العالم منذ ذلك التاريخ إلى اليوم شهد تحولات مصيرية، بدأت بأزمة جائحة كوفيد – 19 التي زادت انغلاق الانطوائيين على أنفسهم وبتنا اليوم نتحدث عن تداعيات نفسية خلفتها الجائحة لدى نسب كبيرة من البشر حول العالم.
والغريب أن منظمة الصحة العالمية اتخذت خلال السنوات الثلاث من 2020 إلى 2023 شعار “خلق الأمل من خلال العمل” كشعار لليوم العالمي لمنع الانتحار، وقالت إن ذلك يتضمن رفع مستوى الوعي بمنع الانتحار والحد من الوصم المرتبط به. أيّ أمل كان من الممكن أن يخلقه العمل في ظل الجائحة والناس محاصرون بفكرة الموت من كل اتجاه؟ وأيّ عمل عموما يمكن أن يراه الشباب اليوم خير وسيلة للهرب من فكرة الانتحار؟
مجرد جولة سريعة على مواقع التواصل أو حديث سريع مع الأصدقاء، أجد فيه أغلبهم يعاني من عمله، يريد تركه لكنه لم يجد بديلا يرضيه، يفكر يوميا في الاستقالة منه، يعمل كل يوم ويصاحبه شعور بالقلق وعدم الاستقرار، إذ من السهل أن يتم الاستغناء عنه وهضم حقوقه المادية والمعنوية.
قد يكون الشباب في البلدان ذات التعداد السكاني القليل أقل تعرضا لضغوط العمل والبحث عن عمل مثل تلك التي يعاني منها نظراؤهم في الدول شديدة الكثافة السكانية، وتلك التي انهارت اقتصاداتها مثل لبنان ومصر وسوريا، هناك سادت النظرة السوداوية على عقول الشباب فعزفوا عن الحياة بأغلب ملذاتها، وعزفوا أيضا عن الزواج.
في ما مضى، كان لديّ صديق شاعر دائم الحديث عن “العدمية” و”العبثية” وأن لا فائدة من الحياة. في عز نجاحاته وراحته المادية، كانت نظرته سوداوية لكل ما حوله، حتى أنني قررت إنهاء صداقتي به. هذه النظرة/الفكرة أجدها اليوم لدى أغلب من أحادثهم، فماذا أفعل، هل أهرب منهم جميعا؟
حتى الفنانون والمفكرون والمثقفون ممن ينظر إليهم بأنه أكثر وعيا وثقافة من غيرهم، يقدمون على الانتحار، وعادة ما تنجح محاولتهم من المرة الأولى، ويتركون لنا رسائل مؤلمة. كتلك التي تركتها الفنانة داليدا (1933 – 1987)، “سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل”. جملة كتبتها داليدا في العام 1987، وأصبحت الأنسب للتعبير عمّا يشعر به الكثير من الشباب اليوم.
في كتابه “الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر”، يقول الدكتور إسماعيل عرفة إن إحدى نتائج هشاشتنا النفسية هي أننا نقوم بتضخيم أيّ مشكلة تظهر في حياتنا إلى درجة تصويرها ككارثة وجودية، في عملية تسمّى في علم النفس بـ”الألم الكارثي”.
هذه العملية هي عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة، تجعلك تؤمن أن مشكلتك أكبر من قدرتك على التحمل، فتشعر بالعجز وتظل تصف المشكلة بألفاظ سلبية مبالغ فيها لا تساوي حجمها في الحقيقة، فيزيد ألمك وتتعاظم معاناتك، ثم ماذا؟ ثم تغرق في الشعور بالتحطم الروحي والإنهاك النفسي الكامل، وتحس بالضياع وفقدان القدرة على المقاومة تمامًا، وتستسلم لألمك وتنهار حياتك كلها.
في لحظة الانهيار تلك، يختار الكثيرون الانتحار، وإن فشلت محاولاتهم أعادوها، وكأنهم يقولون للعالم نحن هنا، نحتاج أن يرانا أحدهم ويسمعنا، ويفهمنا ويشعر بمعاناتنا، وينتشلنا من الذهاب إلى الموت قبل أن يأتينا في موعده الإلهي المحدد.