"الهروب من الذاكرة" مقاومة روائية لمتلازمة ستوكهولم

الحكايات الخالدة هي الأكثر غرائبية. بهذا المنطق يجدد الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد إبداعاته فيغوص في محيطات الخيال بحثا عن حكايات مُدهشة وخلابة، يكتب فيها بلا انقطاع ولا تردد ولا لحظات لالتقاط الأنفاس. “العرب” كان لها هذا الحوار معه.
يختطف السرد الروائي إبراهيم عبدالمجيد فيمضي مُدونا أكثر من مئة وخمسين ألف كلمة، حتى يجد نفسه مضطرا للعودة إلى شكل الرواية الثلاثية التي يمكن فصلها وطباعتها في ثلاثة أجزاء نظرا لضخامتها.
هكذا جرى الأمر في الرواية الأحدث له التي حملت عنوانا لافتا هو “الهروب من الذاكرة”، وأسفله ثلاثة عناوين فرعية أخرى هي العائد إلى البيت في المساء، طريقان للهروب، ولأن في الدنيا نساء. وصدرت مؤخرا عن دار المتوسط للنشر بميلانو في إيطاليا.
تحمل الرواية التي تقع في أكثر من سبعمئة صفحة من القطع المتوسط غلافا بسيطا، ويتضمن عبارة “الهروب من الذاكرة” مكتوبا مرتين مشطوبتين، ومرة ثالثة دون شطب كأنها محاولات مستميتة للهروب من الذكريات، ونسيان ما مضى.
عجائب مدهشة
يقول إبراهيم عبدالمجيد في لقاء خاص مع “العرب” إن “الرواية الجديدة قائمة على حكايات غرائبية مُدهشة تمثل سردا لتفاعلات عدة نماذج بشرية، تقاوم القهر الإنساني بأنماط متباينة، منها ما هو إيجابي، وما هو سلبي، لتتشابك المصائر وتتناقض النهايات في حكايات جديدة مثيرة للدهشة”.
ويشير إلى أن الخيال يسحب المُتيمين به، فيمضي بهم إلى حيث أرادوا ونحو ما لم يريدوا أيضا، ويستغرقهم أو يستدرجهم حتى تمتلئ الصفحات، حكايات تلو أخرى، تتنوع فيها المشاعر الإنسانية، لكنها تتفق جميعا في الغرائبية أو الواقعية السحرية.
ويكشف الروائي المصري أن اللجوء إلى فكرة الثلاثية هو لجوء شكلي في المقام الأول، انطلاقا من تجربته السابقة في ثلاثية المكان عن مدينته الأصلية الإسكندرية، موضحا أن العمل الأخير يمثل ثلاثية زمانية عايشها وانفعل بها، ووجد أن إصدارها في ثلاثية مجمعة يمثل ضرورة ملحة، خاصة في ظل تحمس دار نشر كبيرة وصاعدة وقادرة على توزيع إصداراتها في كافة الأقطار العربية بشكل جيد.
صدرت ثلاثيته السابقة “لا أحد ينام في الإسكندرية”، “طيور العنبر” و”الإسكندرية في غيمة” على مدى خمسة عشر عاما وصدر كل جزء في كتاب منفصل، ثم جمعت في مجلد واحد، لكنه رأى أن الزمن تغير والتقدم في العمر جعل من الأفضل أن يقرأ الناس ثلاثيته الزمانية دفعة واحدة.
ويؤكد لـ”العرب” أنه لا يرى أن هناك موجة ما تدفع المبدع للعودة إلى الثلاثيات والتي ظهرت لأول مرة في العالم العربي عندما أصدر الروائي نجيب محفوظ في الخمسينات رواياته الثلاث “بين القصرين”، “قصر الشوق” و”السكرية”، ومن بعده عرف الجمهور ثلاثيات كثيرة ربما أبرزها ثلاثية “أرض السواد” للروائي السعودي عبدالرحمن منيف.
ويضيف أن حجم العمل ليس له علاقة بقيمته، فبعض الأعمال تحتاج لحكي متسع، وبعضها يمكن تكثيفه في مئتي صفحة، والعبرة في النهاية هي وصول المتعة إلى القارئ.
وقضى عبدالمجيد عاما ونصف العام في كتابة عمله الأحدث، بدأ في أكتوبر 2019 وانتهى منه في فبراير الماضي بعد رحلة بحث طويلة في متلازمة ستوكهولهم، وما عارضها من نظريات علمية، لأن العمل انطلق من فكرة معارضة تعاطف المقهور مع القاهر عبر تبرير فعله والاستسلام التام له.
ويكشف الروائي المصري أسباب اللجوء إلى إصدار روايته هذه المرة خارج مصر، قائلا “في ظل تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة وانفتاح الحدود وتحرر الثقافات لم يعد مكان صدور أي كتاب له أهمية كبيرة، لأن الكتاب يصل ببساطة من أي مكان إلى آخر عبر منصات رقمية وتطبيقات ميسرة، وصار بوسع أي شخص يبحث عن أي كتاب في العالم الوصول إليه إذا توافرت الإرادة لديه لذلك”.
وأوضح أنه لمس في “دار المتوسط” اهتماما أكبر بتصميم الأغلفة وتنسيق النصوص ومراجعتها بشكل جيد، والتسويق الفعّال، مع الإيمان التام بحرية المبدع وعدم التدخل في نصوصه.
وإبراهيم عبدالمجيد روائي مصري من مواليد الإسكندرية سنة 1946، حصل على عدة جوائز عربية في الأدب أبرزها: جائزة الشيخ زايد، جائزة كتارا، جائزة ساويرس، جائزة نجيب محفوظ وجائزة الدولة المصرية. صدرت له أكثر من عشرين رواية ومجموعة قصصية ترجم معظمها إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية.
ومن أبرز أعماله “السايكلوب”، “بيت الياسمين”، “هنا القاهرة”، “المسافات”، “العابرة” و”ما وراء الحكايات”، وحولت روايته “في كل أسبوع يوم جمعة” إلى مسلسل درامي عرض على منصة شاهد التلفزيونية، وله كتاب بعنوان “أنا والسينما”.
طرق لمقاومة القهر
تتناول الرواية الأحدث حكاية مجدي هبة الله، وهو مدرس مثقف يحب الفن والحياة، ويبحث هو وزوجته زينب عن إجابات لتساؤلات وجودية شتى من خلال حكاياته ولقاءاته مع مجموعة من المثقفين من ذوي التوجهات المتباينة، حيث ينتمي البعض إلى اليمين والبعض الآخر إلى اليسار أو الوسط، لكنهم يعانون جميعا من مشاعر الحبس النفسي، ويسعون لمقاومة القهر بالنسيان تارة، وبالمواجهة تارة أخرى، وبحب النساء مرات ومرات.
يتفق جميع المثقفين المحيطين بالبطل المقاوم وزوجته على أنهم شخوص مُدهشون وغرائبيون في أعمالهم وأقوالهم وتصوراتهم، فمنهم مثلا مَن يقرر الهروب من الواقع بالسفر إلى الأندلس فيغادر مصر ويمر على ليبيا وتونس والجزائر وقت الثورات والحروب الأهلية ويتابع تبدلات الحياة فيها قبل أن يصل إلى المغرب، ومنه يعبر إلى بلاد يتصورها الأندلس التي طالما كتب عنها وعشقها، ومنهم مَن يسير في المساء متتبعا وجوه النساء بحثا عن إمرأة تسعده ليلتقي بواحدة هرب زوجها وانضم إلى تنظيم داعش وتتصور أن أي شخص قادم هو زوجها الفار، ومنهم كذلك شخص آخر مؤمن بالفن والنساء إلى أقصى مدى ممكن ويعتبرهما الحياة وسواهما لا شيء.
ويؤكد عبدالمجيد أن هؤلاء الشخوص لافتون بغرائبهم وخروجهم عن الصورة النمطية للبشر، لكنهم موجودون بالفعل في ما بيننا، وأنه شخصيا تقابل مع بعضهم وتعايش مع مَن يشبهونهم في مراحل عديدة في حياته.
المبدع الحقيقي هو ذلك الملتفت لغير المعتاد من الأفعال، والمنتبه للاختلاف الإنساني، والباحث دوما عن الجديد
ويشير إلى أنه ضمّن في نصه الأخير الكثير من مشاهد سيرته الذاتية، وكتب عن شخوص عرفهم، وحكايات رأى الاستفادة منها في العمل الفني، وهو أمر ضروري، بدلا من انطفائها في حكايات المجالس فقط، قائلا “إن حياة أي روائي تندمج مع النص في كثير من الأحيان لتعود شخصيات عديدة للحياة بعد رحيلها لتخلد إلى الأبد.”
ويتابع “المبدع الحقيقي هو ذلك الملتفت لغير المعتاد من الأفعال، والمنتبه للاختلاف الإنساني، والباحث دوما عن الجديد، وهو ما يتجلى بوضوح في كل أمر مستغرب، وكل هروب في عالمنا العربي تتبعه مآس، وكل تغيير تصحبه فاجعة، وفي كثير من الأحيان نجد أمامنا التاريخ الذي نهرب منه”.
ويقول إن “البعض يرى الهروب أو النسيان طريقا للمقاومة، وهناك مَن يجد في الفن ملجأ ودافعا للصمود، وهناك من يجد في المرأة بكافة تناقضاتها وجمالها الإنساني سندا صالحا للمواجهة”. وعلى حد قوله في الرواية “لأن في الدنيا نساء، فقد تكفي قبلة واحدة لتلتهمك المتاهة، وقبلة ثانية لتغادر البلاد، وتكفي ضحكة عالية لتتغير حياتك تماما”.
تحاول الرواية تقديم ثيمة جديدة تعتمد على بداية كل فصل بحلم غريب ترويه أصوات متداخلة تتبادل الظهور مع الراوي العليم، ويقول في إحداها “كان هناك فارس عظيم عرف بوجود مدينة خالية ولم يصدق فركب فرسه وذهب إليها وظل ينادي أهلها ولا يرد عليه أحد. وكرر النداء مرات ومرات وهو يتصور أن الناس نيام ولكنه لم يجد أي تحرك، فلا أحد يرد ولا أحد يصحو. ومر به العمر ولم يعرف أن المدينة خالية”.
عبثية العالم الساحرة
يرى عبدالمجيد أن العبثية هي العنوان الأسمى لكثير من تشابكات البشر وحراكهم، ولا خلاص بين يمين ويسار، بين ذاكرة ومحاولة نسيان إلا بالهروب من الحلم.
ويعترف أنه كان أحد المولعين بالخيال الساحر، وبحكايات الدهشة المستمدة من الواقع منذ بدأ مشروعه الإبداعي، ومن قبل أن يعرف العالم العربي شيئا عن الواقعية السحرية من خلال كتابات الروائي العالمي غابرييال غارسيا ماركيز، والخيال يتسع كبحر بلا ضفاف كلما التفتنا إلى الغريب من البشر والأفكار والحكايات، مكررا أن السحر الحقيقي للرواية هو الخيال.
ويشدد على أنه أحب علم النفس والفلسفة وقضى فيهما سنوات طويلة قارئا وباحثا ومُطلعا، ليُعيد رسم الكثير من القضايا الحياتية من خلالهما فاتحا الباب لعواصف الخيال لتُعيد ترتيب الصور الإنسانية المدهشة.
ويؤكد أن معدل كتابة الكاتب يختلف مع الوقت، إذ يشعر كلما تقدم في السن بضرورة الإسراع بطرح كل ما يدور في رأسه من أفكار وتدوينها وكأن هناك من يلاحقه، فالروائي مهما أنتج من أعمال يشعر كثيرا أنه لم يقدم ما يرضيه، وثمة حكايات أخرى تستحق أن تخرج من رأسه إلى الورق ليقرأها الناس، لأنه يتعذب كثيرا كلما انحبست داخله هذه الحكايات.
ويذكر عبدالمجيد أنه استفاد من العزلة التي فرضتها ظروف الجائحة على البشر في الجلوس كل يوم لساعات طويلة للكتابة متفرغا تماما والغوص والاندماج التام في حيوات شخوص روايته، وأنه يحب الكتابة بالليل، حيث يشعر فيه بتحقق الألفة في ظل الوحدة التي تمثل بداية حقيقية للتحرر، والكتابة بالنسبة إليه هي السعادة القصوى، وفيها يحيى الحياة، ويتذوق طعمها بحلوها ومرها، وصعودها وهبوطها، وفرحها وحزنها.
ويشير الروائي المصري إلى أنه سخّر حياته كلها للكتابة، ولم يشغل نفسه أبدا بمشكلات وصراعات الحياة الثقافية من حوله، وكان دوما يستغرب صراعات الأدباء والمثقفين على المناصب والجوائز وغيرها، وكثيرا ما قال لنفسه إن كتابة رواية واحدة هي أفضل من كل شىء.
إبراهيم عبدالمجيد روائي مصري من مواليد الإسكندرية سنة 1946، حصل على عدة جوائز عربية في الأدب أبرزها: جائزة الشيخ زايد، جائزة كتارا، جائزة ساويرس، جائزة نجيب محفوظ وجائزة الدولة المصرية.