الهدايا الدبلوماسية رسائل مشفرة مدسوسة في العسل

من المتعارف عليه في دبلوماسية الزعماء تبادل الهدايا الرمزية، كتعبير عن التقدير والامتنان غالبا، لكن ظلت بعضها على مدار التاريخ تحمل رسائل خفية ومعاني ودلالات مشفرة، تعكس أبعادا رحبة من تحالفات وتجاذبات وعداءات، وتطرح تلك الهدايا في النهاية لغة دبلوماسية مرنة تنجح في فعل ما قد تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
القاهرة - بين سيوف مذهبة وحيوانات أليفة وكتب ومقتنيات نادرة، عالم متفرّد في عالم الدبلوماسية الخاصة التي تؤرخ لعقود من التفاهمات والتواصل، وأخرى أتت لتطوي صفحة من مشاحنات وأزمات، احتاجت وقتا طويلا لاحتوائها.
تمثّل هدايا الزعماء شكلا في ظاهره ودّ ومحبّة، لكنه أحيانا يحمل في باطنه أهدافا مراوغة، وبعضها أطلق العنان نحو رؤى خفية، والبعض الآخر مثّل محاكاة لأزمنة من المؤامرات والدسائس.
آخر الهدايا المعلنة والتي أعادت إلى الأذهان زخم عالم الرموز والشفرات المثيرة، لوحة زيتية لنهر النيل أهداها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أديس أبابا، على هامش اجتماعات الاتحاد الأفريقي، في 10 و11 فبراير الجاري.
خلقت تلك اللوحة اهتماما لدى الإثيوبيين والمصريين معا، وتشاركوا الصورة وسط حالة تباين واضحة، تتراوح بين فهم طبيعة الهدية ومغزاها، والثناء على الرسائل المشفرة التي تحملها، والتي لم تفلح الكثير من الكلمات في التعبير عنها.
التاريخ شاهد على الكثير من القصص الطريفة والعجيبة حول الهدايا الدبلوماسية
حملت الصورة، التي رسمها فنان إثيوبي يدعى آولو هاربرت ألو، شلالا متدفقا يصب من هضبة الحبشة إلى نهر النيل منبع النهر الرئيسي لمصر، وعلى يمين المياه السريعة تقف أهرامات الجيزة الثلاثة، وعلى اليسار تظهر مسلة أكسيوم الإثيوبية التي أنشئت 1709 قبل الميلاد، وبدا أبرز ما في اللوحة المركب الشراعي الصغير الذي يجوب النهر، وتلونت شراعه بألوان علميْ إثيوبيا ومصر. علّق مواطنون من إثيوبيا على الصورة بأنها رسالة رمزية شديدة الخصوصية، في وقت يعيش فيه البلدان فترة قلقلة بسبب الخلاف حول سد النهضة الإثيوبي، والذي تراه القاهرة تهديدا لأمنها المائي.
بدت اللوحة من أكثر الأشكال تعبيرا عن العلاقة الحالية بين القاهرة وأديس أبابا، وقدّمت وجهيْن متشابكيْن من التفاهمات، من خلال الرمز إلى التآخي والتلاحم بين البلدين عبر مركب واحد يحمل العلمين، كرسالة بأنّ المصالح مشتركة والعداء يضرّ بالبلديْن.
وفي الوقت ذاته ظهر وجه آخر للوحة، عبّر عنه البعض بالتركيز على ظهور الأهرامات وجها لوجه أمام المسلة الإثيوبية، وجاء متعمدا فيه وضع الأيقونتين بحجم واحد، رغم اختلاف القيمة التاريخية لكل منهما، والحجم الفعلي.
رسائل عميقة
مثّلت بعض الهدايا في العلاقات الدولية رسائل عميقة بين الزعماء، ورغم كونها بمعناها الواسع تصبّ في شكل الإعراب عن الامتنان والتقدير، لكن جاء بعضها حاملا لبعض الأفكار الدالة على القوة والمنافسة والمناطحة، وأحيانا لتبرز التحالف والتوافق أمام كيان آخر. واشتهرت روسيا بأسلوب الهدايا متعددة المعاني، وأبرزها كانت إهداء الرئيس السوفييتي الأسبق نيكيتا خروشوف كلبا للرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، في لقاء تاريخي جمع بينهما عام 1961.
اعتبر البعض من المراقبين وقتها أن الكلب رمز سياسي مفعم بكثير من الإشارات والمضامين، هدية أفضت لإذابة أول حلقات جليد الحرب الباردة بين البلدين.
وتكرّرت رسائل روسيا غبر المباشرة مرات كثيرة، واهتم بها الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين تحديدا. ولعل أشهر هداياه الرمزية؛ كانت إهداء الرئيس الإيراني حسن روحاني درعا فارسيا قديما في زيارته لموسكو منذ حوالي عامين، ثم حمل الرئيس الروسي معه إلى طهران أقدم مخطوطة للمصحف الشريف، والتي كان يتم الاحتفاظ بها في روسيا ليقدّمها إلى قائد الثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي.
وبدا الدرع الحربي النحاسي المزخرف بأيقونات من الحضارة الفارسية متسقا مع الاجتماع الذي جمع البلدين ودارت حوله تفاهمات مشتركة في سوريا، ليقدّم رمزية متعمدة، مفادها أن طهران وموسكو يجمعهما أمن ودفاع مشترك يؤديان للتوصل إلى اتفاق عسكري موحّد في الأراضي السورية، وضعته الجغرافيا السياسية قبل المتغيّرات العالمية.
وأهدى بوتين البندقية الروسية الشهيرة “كلاشنكوف” إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في زيارته الأولى لموسكو بعد توليه سدة الحكم عام 2014.
وظهر السلاح وكأنه عربون للرغبة في ترجيح كفة التسليح المصري نحو روسيا بدلا من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
كما أهداه نموذج لمركب جنائزي فرعوني يعود تاريخه إلى نهاية العصر الانتقالي الأول حوالي 2100 قبل الميلاد، بحسب الخبراء الأثريين.
كل هذه الهدايا لها دلالات دبلوماسية عميقة مغزاها تعزيز العلاقات بين البلدين، وهي علاقات قديمة توثقها الهدية الأخرى التي أهداها الرئيس الروسي بوتين إلى نظيره المصري، وتتمثل في صورة تذكارية فريدة للزعيم الراحل جمال عبدالناصر والرئيس السوفييتي الراحل نيكيتا خروتشوف تم التقاطها في 11 مايو 1964.
يقول أسامة السعيد مدرّس العلوم السياسية بالجامعة البريطانية في القاهرة، إنه على مدار التاريخ القديم والمعاصر، ظلت الهدايا بين القادة عنوانا لقواعد السياسة الحكيمة، وخصّصت جامعات في أوروبا بعض المواد والعلوم التي تُدرّس الهدايا الملكية والرئاسية، باعتبارها شفرات تاريخية رمزية تحلل العلاقات بين الممالك والدول السابقة، وتفرض دراسة تفسيرية لنظم الحكم القديمة.
وأوضح السعيد لـ”العرب”، أن التاريخ شاهد على الكثير من القصص الطريفة والعجيبة حول الهدايا الدبلوماسية التي تحمل في طياتها الكثير من الرموز، منها إهداء محمد علي باشا، الوالي المصري في بداية القرن التاسع عشر، زرافة لملك فرنسا، ورغم عدم شهرة مصر في امتلاكها زرافات، كانت رسالة تدل على هيمنتها في ذلك الوقت على القارة الأفريقية.
وأضاف أن “الهدايا المقدمة لكيانات أو أشخاص تبرز حسن النية، وتعدّ مسألة شائكة لدرجة أن هناك دساتير تحظر على أي شخص في الحكومة تلقي هدية من جهة أجنبية، لوجود نوايا متعددة للهدايا، بعضها يعبّر عن رشوة سياسية، وآخر يبرز إهانة متعمدة”.
من أبرز الوقائع الشهيرة لهدايا عُدّت مهينة، كانت الهدية التي قدمت للرئيس التركي طيب رجب أردوغان، من نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي، وحملت رسالة كتبها السلطان العثماني سليمان القانوني ردا على استغاثة الملك فرنسيس الأول عندما وقع أسيرا في يد الأسبان وقام بالفعل بتحريره، وإهداء الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز كتابا عن الهيمنة الغربية على أميركا اللاتينية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
أبلغ من الكلمات
يمنح حمل الهدايا المزيد من الزخم للعلاقة بين أي بلدين، ويعزز التواصل بينهما، وأحيانا يصعب وصف العلاقة بين الدول والشعوب بالكلمات، وتصبح وقتها الأشياء المادية أكثر تعبيرا وعمقا، كما عبّرت اللوحة الإثيوبية المهداة للرئيس السيسي.
ولم تحمل اللوحة أغراضا مسيئة، ولخّصت شكل العلاقة بين البلدين وما مرّت به من مشاحنات على مدار السنوات الماضية، والوصول لبعض النقاط من التفاهم مع تولّي آبي أحمد رئاسة الحكومة، ودخول كل من الإمارات والسعودية على خط الأزمة لإذابة جانب من التوترات الإقليمية.
وتنطوي الهدايا الدبلوماسية على رسائل للشعوب في بعض الحالات، وليس الحكام فقط، تماما كما فعل آبي أحمد، المعروف عموما بانتهاج الرسائل الرمزية سبيلا سياسيا، عندما استخدام ملابسه ومقتنياته التي تصاحبه في زيارته الخارجية لبث إشارة للشعب الإريتري، خلال زيارته التاريخية إلى أسمرة والتوقيع على اتفاق سلام بين البلدين، وقتها اختار آبي أحمد ارتداء الزيّ الشعبي والتراثي في إثيوبيا، والذي يتشابه كثيرا مع الزيّ الإريتري.
ورأى خبراء وقتها، أن اللباس رسالة للتلويح بأن الشعب الإريتري امتداد لنظيره الإثيوبي، والتدليل بأن التشابه في التراث والثقافة أكبر دليل على ارتباط مصير الشعبين، وهو ما نجح فيه آبي أحمد عبر هديته لمصر.
وبشكل عام تمثّل الرموز السياسية نهجا ثابتا في تحقيق اختراق جذاب لعقول العامة للتوعية بفكرة أو تحقيق “بروباغندا” متعمدة ومبيّتة. تقول دراسة بريطانية أعدّت في جامعة “ويست برومتش” عن دلالة الشفرات التاريخية وتأثيراتها على السلوك البشري، إن الرمزية إحدى الأيقونات الأساسية في تاريخ البشر وتكوين الحضارات، ولم تخلُ حضارة قديمة من فكرة ترسيخ قواعدها عبر الهدايا ليست فقط بين الملوك، لكنها من العامة إلى حكامهم، ويأتي في هذا الإطار الأوسمة الرئاسية التي تُقدّم إلى الأبطال من الشعب في جميع الميادين حتى الرياضية.
وتعزز الدراسة رؤيتها بالحضارة الفرعونية التي كان من المعتاد فيها أن يقدّم كهنة المعبد تمثالا لحيوان فرس النهر للملك الفرعون قبل فيضان النيل من كل عام، كدلالة رمزية على أن قدوم الخير رهينة كرمه وحكمه القوي لشعبه.
ويرى عزت الشافعي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة شبين الكوم بالمنوفية (شمال القاهرة)، إن الهدايا مقياس لفترات القوة والضعف، وكذلك هي تفسير دقيق لطبيعة الشعوب في تلك الفترة.
ويستدلّ الشافعي بالقصة الشهيرة لساعة مائية ضخمة من نحاس يضاهي ارتفاعها حائط الغرفة، أهداها الخليفة هارون الرشيد لشارلمان إمبراطور الدولة الرومانية عام 807 ميلادي، كإحدى وسائل التباهي بعظمة وتقدّم الحضارة الإسلامية وقتها أمام أوروبا المتخلفة، التي لم تكن تعرف شيئا عن الساعة المائية إلى درجة أن الإمبراطور كسرها لفهم طبيعة عملها ظنا منه أن الشيطان يسكنها.
وأوضح لـ”العرب”، أن الحضارة الرومانية القديمة اشتهرت بالهدايا الأقرب إلى ألغاز، حتى أن بعض الحكام اتخذوها لعبة مسليّة، وكانوا يتبادلون الهدايا الغامضة والمشفرة عن قصد ليرون إذا كان نظراؤهم من الحكام قادرين على فهمها أم لا.
تبقى الهدايا في النهاية من جسور التواصل السياسي والشعبي، ولغة سلمية بديلة للعراك، وباتت كل دولة تمتلك سلاحا بارزا من الرد قد لا يحمل إدانة بكونها رسالة متعددة الأوجه أم مجرد هدية قيّمة تعبّر عن صداقة غير مشبوهة.