النهضة تواجه مصيرا غامضا بعد الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيّد

مع مرور قُرابة الأسبوعين عن اتخاذ الرئيس التونسي قيس سعيّد قرارات أضعفت كثيرا حركة النهضة الإسلامية، تتصاعد التساؤلات بشأن مستقبلها السياسي، لكن الثابت أن ليس لها الكثير من الخيارات في التعامل مع عزلتها الخارجية التي تتزامن مع أزمة داخلية عاصفة حول رئاسة الحركة في ظل تشبث رئيسها راشد الغنوشي بالبقاء وهو ما يخالف نظامها الأساسي الداخلي.
تونس - تُواجه حركة النهضة الإسلامية في تونس تحديا وجوديا، حيث فتحت المرحلة التي دشنها الرئيس قيس سعيّد بقراراته التي أصدرها في الخامس والعشرين من يوليو الباب بمصراعيه أمام التساؤلات بشأن مستقبل الحركة السياسي.
وباتت الحركة التي تصدرت المشهد السياسي في البلاد وكانت حاضرة في جل الحكومات التي قادت البلاد بعد انتفاضة الرابع عشر من يناير 2011 في موقف ضعيف بعد تجميد أعمال البرلمان وإقالة حليفها رئيس الحكومة هشام المشيشي ورفع الحصانة عن النواب وبدء فتح ملفات قضائية لسياسيين.
والجمعة رفضت الحركة وضع أحد أبرز قيادييها أنور معروف وهو وزير سابق أيضا قيد الإقامة الجبرية، كما لوحت باللجوء إلى القضاء الإداري للطعن في هذا القرار الذي تقول السلطة القضائية إنه لا دخل لها فيه فهو من مشمولات وزير الداخلية.
كما باتت الحركة تواجه تحقيقا قضائيا جديدا في ما يشتبه أنه عقد لوبيينغ أبرمته مع شركة أميركية للعلاقات العامة في التاسع والعشرين من يوليو الماضي أي بعد أيام قليلة عن إعلان الرئيس سعيّد عن قراراته.
غير أنه ليست النهضة فحسب من تواجه امتحان الاستمرار في المشهد السياسي، فزعيمها راشد الغنوشي الذي يرأس البرلمان المُجمد والذي دخل في صراع صلاحيات مع الرئيس سعيّد يواجه هو الآخر شبح الخروج من الساحة السياسية في ظل عزلة خارجية ومحاولات داخلية لاستبعاده من رئاسة الحزب.
تحجيم نفوذ النهضة
بالرغم من أن الإجراءات التي اتخذها سعيد أخيرا أبعدت حركة النهضة عن دوائر الحكم وهزتها داخليا وخارجيا ما جعل مستقبلها على المحك، إلا أن مراقبين يرون أن هذه الإجراءات ستساعد على تحجيم نفوذ النهضة فقط لا إقصاءها نهائيا من المشهد.
وعادت النهضة التي تأسست قبل أربعين عاما إلى الحياة السياسية في تونس إثر ثورة 2011، وكانت جزءا من كل البرلمانات ومعظم الحكومات منذ ذلك الوقت، ثم تراجع حضورها بشكل لافت، وانتقل تمثيلها البرلماني من 89 نائبا في العام 2011 إلى 53 (من أصل 217) في الانتخابات التشريعية في العام 2019.
وظهرت دلائل قوية في السنوات الأخيرة على أزمة داخلية يمر بها الحزب، بينها استقالات قيادات مؤسسة من الحركة رافضة لبقاء راشد الغنوشي البالغ من العمر 80 عاما على رأس الحزب منذ أربعين سنة.
ومع إعلان الرئيس سعيّد قراراته الاستثنائية بتجميد أعمال البرلمان الذي تملك فيه النهضة أكبر كتلة لمدة ثلاثين يوما وإقالة حليفها رئيس الحكومة هشام المشيشي وتولي السلطة التنفيذية بنفسه، خرج الخلاف الداخلي في الحزب إلى العلن، وتجلى في استقالات جديدة ومواقف رافضة لخيارات الحزب السياسية.
ويرى البعض أن هذه الأزمة الداخلية على خلفية الأزمة السياسية الوطنية قد تهدد موقع الحزب في المشهد السياسي.
ورد الحزب على سعيّد باعتبار قراراته “انقلابا على الثورة والدستور”، ودعا أنصاره إلى الخروج للتظاهر و”الدفاع عن الشرعية”، لكنه سرعان ما تراجع عن هذه الدعوة تجنبا للعنف، كما قال.
ويقول أستاذ التاريخ المعاصر والمحلل السياسي عبداللطيف الحنّاشي “لن تكون النهضة كما كانت منذ العام 2011. هذا أكيد، ستكون أضعف”، معلّلا ذلك بحدة “الزلزال الداخلي” بين من يدعم بقاء الغنوشي وتنامي شق آخر يدعو إلى رحيله، غير أن الغنوشي قال في وقت سابق إن حزبه “مستعدّ لأي تنازل، إذا كانت هناك عودة إلى الديمقراطية”.
ويرى الباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي أن “ما حدث مع الرئيس أظهر النهضة في حالة ضعف كبير، فهي لم تعد ممسكة بخيوط اللعبة السياسية عكس ما كانت عليه في الماضي”.
ويضيف أن “تحجيما للدور السياسي للحزب” قد يحصل، “لكن إقصاءه تماما من المشهد صعب”، مضيفا أن “لديها من الانغراس والعمق الشعبي ما يسمح لها بمواصلة تواجدها”.
الخروج من الأزمة

في مواجهة أزمتها لا تملك حركة النهضة الكثير من الخيارات، وهو ما جعلها تلجأ إلى دعوات للحوار والإعراب عن استعدادها لتقديم تنازلات في محاولة لاستنساخ تجارب سابقة في هذا الصدد وهو ما يرفضه سعيّد.
وكانت النهضة قد قرّرت عندما كانت في الحكم في العام 2013 وإثر أزمة سياسية حادة أججتها اغتيالات سياسية طالت معارضين لها، الخروج من الحكم والمشاركة في حوار وطني انتهى آنذاك بتشكيل حكومة تكنوقراط.
إثر ذلك ومن أجل ضمان البقاء في السلطة، شكلت ائتلافا “هجينا” مع حزب “نداء تونس” الليبرالي العلماني في العام 2014، وتقرّبت من رئيسه الراحل الباجي قائد السبسي حيث عقد الطرفان توافقا استمر حتى وفاته. وفي انتخابات 2019، تحالفت مع حزب “قلب تونس” الذي يلاحق رئيسه نبيل القروي بتهم فساد وتبييض أموال.
ويملك حزب النهضة خبرة في “التكيّف مع الأزمات وامتصاصها، لأنه مهيكل ومنظم”، حسب الحنّاشي. وخفّف مجلس الشورى في الحزب بعد اجتماعه الخميس من حدة خطابه ضد سعيّد، ودعاه إلى حوار وطني وتعيين رئيس حكومة جديد، وأقر بضرورة القيام بمراجعات لسياسة الحزب المنتهجة في السنوات الأخيرة وتحمّل مسؤوليته واستعداده للاعتذار عن الأخطاء المرتكبة.
وهذه الخطوة في تقدير الحنّاشي “انحناء للعاصفة لتجاوزها”، لكن سعيّد يشدد على أنه “لا رجوع إلى الوراء”.
مستقبل الغنوشي
بموازاة الأزمة الخارجية في ظل القطيعة مع الرئيس سعيّد وتبرّؤ الأحزاب السياسية من النهضة على غرار حليفها القوي في البرلمان المجمد قلب تونس تجد النهضة نفسها أمام زلزال داخلي في ظل حراك يستهدف تنحية قيادة الحزب.
وبذلك وجد الغنوشي نفسه في عين العاصفة، حيث يدفع العديد من القياديين نحو إبعاده من رئاسة الحزب وهو ما فجر انقساما داخليا بين مؤيد له ورافض لبقائه في رئاسة الحركة خاصة أن النظام الداخلي للحزب لا يتيح له إمكانية الترشح مجددا لرئاسته.
ويرى أنصاره أن له فضلا كبيرا في نجاح بقاء الحركة في السلطة طيلة السنوات العشر الماضية وتأمين الانتقال الديمقراطي في البلاد، بينما ينتقد آخرون “سلطته الأبوية” على الحزب الذي أصبح “مشروعا شخصيا” له ودفع العديد من القيادات على غرار حمادي الجبالي ولطفي زيتون وعبدالحميد الجلاصي وزبير الشهودي إلى الاستقالة.
وكان من المفترض أن يكون المؤتمر الحادي عشر للحزب في العام 2020 الأخير لرئاسة الغنوشي وأن تنتخب فيه قيادة جديدة، لكن تم تأجيله للعام 2021 بسبب انتشار وباء كوفيد – 19 في البلاد، بينما علّل مراقبون السبب المباشر للإرجاء بإيجاد طريقة لبقاء الغنوشي في الزعامة.
ويقدّر الحناشي أن الغنوشي “سيخرج ولكن في صورة مشرفة له”، لأنه “أصبح عبئا على جزء من النهضة وقياداتها”.
ويوضح الخلفاوي أن “مستقبل الغنوشي كلاعب سياسي متصدر للمشهد السياسي انتهى وأصبح من الماضي”، مستبعدا إقصاءه تماما لأن “القوى الإقليمية والدولية ليست مُجمعة على ذلك”.