النهضة التونسية: بلدية العاصمة ولجنة المساواة

بمنأى عن الاستحقاق الجندري الذي حققته حركة النهضة من خلال إيصال أول امرأة إلى رئاسة بلدية تونس العاصمة، فإنّ غرضا سياسيا عميقا يحفر في المنوال الإخواني تحقق عبر اعتلاء السيدة سعاد عبدالرحيم لمشيخة تونس العاصمة. وهو غرض استحث الحزب إلى إصدار بيان احتفائي في ساعة جدّ متأخرة من الليلة قبل الماضية، ما يؤكد القيمة الدلالية لوصول الحزب إلى حاضنة الحاضرة وإلى بطون الدولة العميقة والعتيقة.
بيان مشيخة العاصمة الصادر في ليلة القبض على بلدية تونس، وظّفت من خلاله النهضة سعاد عبدالرحيم لثلاثة أغراض على الأقلّ، الأوّل كامن في تقديم الحجة بأنها في قلب دائرة اتخاذ القرار في تونس حكما تشريعيا وحكومة وحكما محليا. الثاني متمثل في التأكيد على دعمها للمرأة للوصول إلى المراكز القيادية. أما الثالث وهو الأهمّ فهو ضرب تقرير لجنة الحريات والمساواة واستهدافه في مقتل.
ذلك أن حركة النهضة استغلت وصول سعاد عبدالرحيم إلى رئاسة بلدية تونس، للتدليل على أن موقفها الناقد لمضمون التقرير والتي وصفت بعض مفاصله بأنه استهداف للأسرة ولوحدة المجتمع، إنما يعود لأسباب موضوعية متعلقة بالأمن الهوياتي والسلم المجتمعي والنمط الحضاري، وغير متعلق بمسلكية النهضة حيال المرأة.
ولأنّ التجربة السياسية علمت حركة النهضة الكثير من الدهاء والتقية التواصلية فإن عبارة الرفض وكلمة الانتقاد لمقترحات المعارضة والمجتمع المدني، تقسمها النهضة إلى أجزاء وعلى مراحل وأطوار واستراتيجيات، والأكثر من ذلك أنها تأتي بنماذج موازية قريبة لمنوالها الفكري ومتاخمة للخلفيات المعرفية لقواعدها، الأمر الذي يُفقد المبادرة الأصلية جوهرها وكينونتها ويدخلها في دهاليز الزمن التفسيري والتفكيكي وورطة النماذج الهجينة.
ولئن أكد بيان النهضة على المساواة بين الجنسين، فإنه شدد في المقابل أنه مع منوال مساواتي يوصل المرأة إلى المواقع القيادية العليا، ولكنه في المقابل ضد منوال يمسّ من منظومة الإرث والزواج والعدّة والشهادة والطلاق وغيرها من أنظمة الأسرة في المدونة النصية الدينية.
من الواضح أن النهضة التي كثيرا ما ناورت بخطاب المقاصدية الدينية وبتقديم الحمائم على الصقور، في ملف تقرير المساواة والحريات الفردية، بل وذهبت في بياناتها الأولى إلى الانتصار التجريدي إلى فكرة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، اختارت الانزياح بشكل شبه نهائي إلى معارضة المضامين الأساسية للتقرير والتي تتعارض مع منظومة الأسرة في الإسلام. صحيح أن البيان اختار مسلكيات ناعمة للتعبير عن رفضه على غرار عبارة “تونس دولة مدنية لمجتمع مسلم”، ولكن الصحيح أيضا أن عبارات حضرت سابقا على غرار الدعوة إلى نقاش عميق حول المسألة المساواتية في تونس وقضايا الإرث غابت عن بيان القبض على مشيخة تونس.
وجدت حركة النهضة في ضعف نداء تونس وانشقاقاته المطردة واهتمام الرئيس الباجي قايد السبسي بترميم حزب عاجز عن تأمين مرحلة ما بعد الأب المؤسس في ظلّ هوان الورثة، طريقا معبدا لإعلان موقف ما كانت لتبديه في ظرف التقية والكمون.
والحقيقة أن حالة التململ التي تبديها معظم الأطراف السياسية حيال التقرير، إضافة إلى المعارضة القوية التي أعلنها فقهاء المؤسسة التقليدية (جامع وجامعة الزيتونة)، دون نسيان ضعف النقاش المدني حول التقرير الذي لم يحظ بما يكفي من حوار وتشريك مباشر للفاعلين صلب المجال الديني والاجتماعي والقانوني، سمحت للنهضة بأن ترخي شيئا من كوابح التحفظ والاحتراز.
والحقيقة أنّ الحوار المجتمعي الواسع يكون على مضامين المشاريع الكبرى قبل تحوّلها إلى نصوص أو مشاريع نصوص، وهو ما يخلق التوافق والتفاهم الأغلبي، أما أن يكون النقاش حول أفكار معدة سلفا وتحمل في طياتها حمولة الأيديولوجيا فيكون بذلك مدعاة إلى الانقسام والتشرذم على أكثر من صعيد.