"النهر وأنا" كتاب في حضور التشكيلي الراحل رافع الناصري

نظمت دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة العراقية مؤخرا، في قاعة عشتار، ندوة استذكارية خاصة عن مسيرة وتجارب الفنان الراحل رافع الناصري، تحدث فيها كل من الأساتذة النقاد عادل كامل، وعاصم عبدالأمير وجواد الزيدي وصلاح عباس.
وأقيم على هامش الندوة أيضا حفل توقيع كتاب خاص عن الفنان الناصري، المعنون بـ”رافع الناصري، النهر وأنا.. عشق على مرّ السنين” الذي أصدرته دائرة الفنون التشكيلية بالتعاون مع دائرة قصر المؤتمرات، في وزارة الثقافة، وهو من تحرير وإعداد الشاعرة والناقدة مي مظفر زوجة الفنان الراحل، والناقد صلاح عباس -صاحب فكرة إعداد هذا الكتاب- وقد ضم مجموعة من المقالات النقدية، والشهادات الحية، التي كتبها البعض من زملائه الفنانين وتلامذته والنقاد، وهم كل من الأساتذة: ضياء العزاوي، ومي مظفر، وفاروق يوسف، وعادل كامل، وعاصم عبدالأمير، وإبراهيم رشيد، وعمار داود، ومظهر أحمد، وسامر أسامة، وهناء مال الله، فضلا عن موضوع كتبه الفنان الراحل بقلمه عن بداياته، كما احتوى الكتاب على مجموعة كبيرة من أعماله المنتخبة، وسيرة دقيقة التوثيق للفنان الراحل، مع صور أرشيفية شخصية، على مدى مسيرته الطويلة.
مسيرة فنان
يفتتح الكتاب بمقدمة من تأليف جمال العتابي، حيث يؤكد على أن هذا الإصدار يأتي كمحاولة للاطلاع على تجربة الفنان العراقي الراحل رافع الناصري، ثمّ ينوّه بمجهودات كافة فريق العمل الذي أنجز هذا الكتاب الأشبه بالوثيقة.
وضمّ الكتاب نصوصا بقلم الراحل ياسر الناصري متحدثا عن مسيرته، التي عنونها “النهر وأنا.. عشق على مرّ السنين”، التي بدأت في مدينته تكريت، مع النهر والسباحة والحصى والرمال، حتى انتقاله إلى بغداد، فقد كان بيته يقع على ضفة النهر التي لا يفصلها عنه سوى ممرّ للمشاة، وكان سعيدا جدا بذلك مع أصدقائه. ويحكي رافع الناصري عن ذكرياته مع الماء الذي صادفه في بحيرات وأنهار ببكين وباريس ومصر، حيث شكل الماء رافدا من روافد مخيلته.
رافع الناصري يتميز برفعة الروح، فهو شخصية عراقية أصيلة، رقيق وحساس بشكل لا يصدق، وقوي وصلب لا يستسلم
وتحت عنوان “لندع الجمال الذي نعشق كائنا بما نفعل”، انسجاما مع مقولة ابن الرومي، كتب الفنان ضياء العزاوي في الكتاب عن رحلة الناصري إلى البرتغال (1967 - 1969) والتي ساهمت في تحولات علاماته وما تضمنته من صراعات في التكوين الفني ضمن نتاجاته في اللوحة، فكان سفر الناصري إلى البرتغال بمثابة العصا التي كسرت كل ضوابطه الصينية على صعيد التكوين والموضوع.
كما كتبت الناقدة مي مظفر مساهمتها في الكتاب بعنوان “النهر الأول: رافع الناصري.. الغربة وتحولات الأسلوب”، حيث أكدت على الرغم من أن الناصري قد غادر بغداد في 1991، فقد كانت تحاصره هواجس الخوف من مستقبل مظلم، منذ الحرب العراقية الإيرانية، حتى تجلت بوادر التعبير عن تلك المشاعر في سلسـلة أعماله الموسومة “أدعية لبغداد”.
ويقول الناصري في مقدمة دليل معرضه الشخصي الذي أقامه في عمان 2010، تحت عنوان “ما بعد الزمن”: في الغربة، ومع تقدم سنوات العمر، يتداخل الزمن تلقائيا ما بين ماض وحاضر، وما بين قديم وحديث، حينها تتوالى الصور والذكريات والأحداث الكبيرة والصغيرة، لتشكل الملامح الرئيسية لكل حالة إبداعية، وفي الفن تمتزج الأفكار والألوان والأشكال مع ذلك الزمن فتكوّن حالة واحدة تستمد حياتها من تلك التجليات الإنسانية لتصبح لوحة، وفي أعمالي الفنية التي أنتجتها في السنوات السبع الأخيرة جزء من هذا التماهي مع الزمن.
|
“شيء منه يقع في السماء” كان عنوان مساهمة الناقد فاروق يوسف، حيث يلفت الناقد إلى أن ضربة رافع الناصري على سطح اللوحة هي أشبه بالموجة التي تمحو ما قبلها، ومع ذلك فلا يزال هناك شيء من الطبيعة التي محاها يتثاءب بين يديه، فقد تعلمت فرشاته دروسا في السفر عبر الزمن، تنسى لتتذكر وتتذكر لتنسى، أمّا تجريدياته فتشف عن طبيعة يخالها المرء قد ذهبت بعيدا، وقد أخلص رافع الناصري للرسم بالقوة نفسها، فقد كان مخلصا للطبيعة، إذ كان الناصري رساما للمعاني التي لا يمكن أن ندركها إلا بعد تحررنا من قيود وجودنا الأرضي، شيء منه يقع في السماء.
ويؤكد الناقد عادل كامل، أن رافع الناصري، على مدى نصف القرن الذي أمضاه في الفن، لم يتخل عن دور “المعلم” لنفسه، وللآخرين، فالمعرفة عنده ممارسة يومية، وهي تحافظ على شرعيتها حيث امتدت ضمن الحكمة القائلة: إن الفن هو العمل الذي يقابل الفراغ أو الكسل.
ويركز الناقد عاصم عبدالأمير، على أن “رافع الناصري قطاف النَزَع الأخير، إذ يعتبر انضمامه إلى جماعة الرؤية الجديدة عام 1969، يعدّ تدشينا لإطلاق أطروحته الجمالية تماشيا مع جيل يريد أن يرى نفسه ضمن ركب التخاطب مع الآخر، آخذا بعين الاعتبار جوهر الفعل الجمالي، والخطاب بوصفه نظاما بصريا له ضرورياته، وليس في الإصغاء للوازم التشخيصية وميكانيكيتها المقيدة.
ويحيلنا الفنان إبراهيم رشيد إلى أن “رافع الناصري فنان الواقعية الشعرية”: كان فنان الطبيعة والواقعية الشعرية المدهشة، بصره لم يكلّ من استقطاب كل تلك الصور التي عايشها وتجذرت ونمت في ذاكرته، فوضعها في لوحة هي أشبه بأفق يمضي نحو آفاق غير منتهية، أصابعه لم تملّ يوما من تغيير ما هو نمطي وتقليدي، لقد تحدّى الأشكال والألوان المتوارثة والتقليدية، وابتكر أسلوبا جديدا يجمع بين تقنيات فن الحفر “الكرافيك” وفن الرسم بـ”الأكريليك”، وتميز به وحده ليحتل مكانا رائدا في حداثة الفن التشكيلي العراقي والعربي.
كان الناصري فنان الطبيعة والواقعية الشعرية المدهشة، لم يكل من استقطاب كل تلك الصور التي عايشها
ويدلي البعض من تلامذة الناصري الملازمين له، بشهاداتهم الحية في حق أستاذهم، فقد قال الفنان سلمان داود: رافع الناصري معلمي ودليلي إلى رفعة الروح الخلاقة، فهو شخصية عراقية أصيلة، رقيق وحساس بشكل لا يصدق، وقوي وصلب لا يستسلم، متفائل دائما، وكلما ألتقيه أتفاجأ بالشحنة الإيجابية التي اكتسبها منه بسبب طبيعته الحيوية لكونه مسكونا بالأمل، وكم أدهشني تألقه وتفجر طاقته الإبداعية، إنه لم يستسلم أبدا، حتى في محنة مرضه اللعين كان يعمل ويعمل بأناقة ودقة، فالعمل عنده عبادة ومنتهى السعادة.
ونقف عند شهادة أخرى من تلميذه الفنان مظهر عارف قائلا: حياة الفنان رافع الناصري وأعماله، وهو رائد فن الكرافيك في العراق، ألهمت العديد من الطلاب والفنانين العراقيين على حدّ سواء، وشاعت شهرتها من خلال إنجازاته الرائعة في الفن البصري، لقد كان فنانا مثاليا وإنسانا صادقا.
ويستذكر تلميذه الفنان سامر أسامة أنه كان للأستاذ الناصري الفضل الأول في جعل قسم الكرافيك مختلفا عن بقية أقسام المعهد، فبالإضافة إلى نوع العمل التقني، وصرامة تقاليده التي كان الأستاذ الناصري يشدد عليها لتكون بذلك كالطقوس الممارسة في أماكن العبادة، فقد كانت الحرية هي ما يؤكد على تقديسها وممارستها في العمل والفكر.
وتختم الفنانة هناء مال الله معبرة عن اعتزازها: كنت محظوظة جدا عندما تلقيت دروسي على أيدي فنانين معاصرين كبار ومؤثرين كالأستاذ رافع الناصري.