النقاب و"الميني"

خفت السجال بشأن حادثة الأستاذة والطالبة والنقاب بجامعة الجزائر المركزية، لكن الإشكال يبقى قائما في المجتمع الجزائري حول تسيير التعدد والاختلاف، بعيدا عن الضغائن السياسية والأيديولوجية، فكلما حدث صدام ثارت ثائرة المصطفين خلف المفاهيم والقيم الصماء.
وجد أنصار التيار الإسلامي في حادثة طرد أستاذة لطالبة من المدرج الجامعي بالجزائر العاصمة، بدعوى ارتداء النقاب الذي يخفي الهوية الشخصية، فرصة لإخراج ركام التطرف الأيديولوجي والتحامل على كل من يخالفهم الرأي والرؤية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أنصار العلمانية الذين وجدوا في الحادثة فرصة أيضا للتهويل والتحذير من عودة الزمن الأفغاني إلى البلاد، واصطفوا دون قيد أو شرط مع الأستاذة.
الإدارة من جانبها تدخلت لتطويق البؤرة، واستدعت الطرفين وتم الاستماع إليهما، لكن خفوت السجال تحت ضغط تدافع الأحداث صرف أنظار الكل عما تقرره إدارة الجامعة ولا أحد سأل عنه بعد ذلك.
لكن يخطئ من يعتقد أن الأمر مجرد سحابة عابرة، بل هو أزمة عميقة تترجم حجم الصراع الأيديولوجي الدفين، الذي يهدد التماسك الاجتماعي، ويغيّب لغة التعدد والاختلاف، لأن المعادلة بسيطة جدا، وهي أنه يستحيل أن يكون ملايين البشر داخل أي بلاد على تفكير واحد وقناعات واحدة، وإنما الاختلاف هو حكمة ربانية قبل أن تكون قاعدة بشرية.
بين مناصر للطالبة المنقبة وبين مناصر للأستاذة، غاب صوت الحكمة والعقل في النقاش المثار، فتحدث البعض عن الدواعي الدينية والحضارية والحرية الشخصية، وتحدث البعض الآخر عن حق المجتمع في احترام الحياة الجماعية والقانونية، وعن الغزو المذهبي للبلاد.
لكن الصوت الثالث بدا خافتا رغم أهمية تسمية الأشياء بمسمياتها، وهي أن الحرية الشخصية قيمة إنسانية تسقط على الجميع مهما كانت توجهاتهم وخلفياتهم؛ فكما يحق لطالبة ارتداء النقاب، يحق لطالبة أخرى ارتداء “الميني” (التنورة القصيرة)، إذا تم قياس الأمر بهذه المسطرة، لكن إذا أُدخلت المعايير الأخرى فمن حق المجتمع والأستاذة معرفة هوية أي فرد ومن واجب أي فرد إبراز هويته للمجتمع، فباسم الحجاب والنقاب ارتكبت الموبقات، ومن حق المجتمع أيضا أن يحترم ذوقه وتقاليده وطابعه المحافظ.
كان بإمكان الأستاذة الجامعية أن تقنع طالبتها وتناقشها في حقها في أن تعرف هوية الفرد الذي أمامها بدل أن تطردها، وكان بإمكان الطالبة -التي ترتدي زيّا تزعم أنه رمز العفة والطهارة والاحتشام والالتزام بالأوامر الدينية- أن تدرك أنه من حق الآخرين في الأماكن العمومية أن يعرفوها من هي.
الإفراط في التدين قاد إلى التطرف الإسلامي، والإفراط في إساءة الأدب للذوق العام قاد أيضا إلى علمانية متطرفة، وذلك أن اختلال القيم المشتركة أفرز منظومة اجتماعية متعجرفة، بدل الاحتكام إلى حرية التعدد والاختلاف والاحترام المتبادل، فلا أحد بإمكانه إيقاف الأرض عن الدوران.
الحرية الشخصية قيمة اجتماعية وجماعية، لكنها تنتهي عندما يبدأ حق الآخرين، فمن حق الفتاة أن ترتدي النقاب، لكن أين حق المجتمع في معرفة هوية الفرد في المكان العمومي، فباسم النقاب ضبطت كثيرات يغشُشْن في الامتحانات، وباسم النقاب أيضا ارتكبت جرائم الاختطاف والسرقة، وأحسن هدية يمكن أن تقدمها هذه الفتاة لقناعتها ولدينها هي أن تتفادى اللبس والشكوك.
ومن حق الأخرى أن ترتدي “الميني”، لكن ليس إلى درجة استفزاز الذوق العام، فللجامعة حرمة وللمجتمع حق في احترام أعرافه، وليس من حق أي أحد أو طرف أن يفرض تصوره وأيديولوجيته على الآخرين، فالحرية مبدأ لا معنى له إذا انفرد به البعض وحرم منه البعض الآخر.