النظام يريد انتزاع أريتريا من خارطة الثقافة العربية

فكرة الوطن تبدو غائمة عندي وعند أجيال عديدة من الإرتريين الذين عاشوا حياة الشتات. نحن نتعرف على الوطن بأضداده، باللجوء ومراراته، بالنزوح والقهر ومفارقة مواطن النشأة، ولا يأتي الوطن ليعوّض كل ذلك، بل هو في شكله الحالي ليس إلا امتدادا لهذه المعاناة.
بهذا البوح يبدأ الروائي والصحفي الإرتري حجي جابر حديثه لـ”العرب”. وحجي جابر هو روائي وصحفي إرتري من مواليد مدينة مصوع الساحلية عام 1976، عمل لسنوات طويلة في الصحافة السعودية، قبل أن يلتحق بالعمل التلفزيوني سواء في التلفزيون الألماني الناطق بالعربية أو في قناة الجزيرة، صدرت له رواية “سمروايت” التي حازت جائزة الشارقة للإبداع، ثم تلتها رواية “مرسى فاطمة” وقريبا ستصدر روايته “مغزل اللعب”.
الانطلاق من الواقع
في أعماله الأدبية هناك دائما وطن بديل، وفي هذا السياق يقول ضيفنا “إنّ الأمر الواقع يفرض شروطه علينا، ومنها أنّ الإنسان قد ينشأ في بلد آخر يستقي منه كل شيء إلا اكتمال فكرة المواطنة كحقيقة ملموسة، لكن هذا لا يلغي الانتماء الوجداني لهذا المكان، الذي هو ليس وطنه آخر المطاف، فالوطن البديل هنا يتشكّل وجدانيا”.
عن معنى أن يكون أديبا من إرتريا، يقول جابر إنّ ذلك يعني له الكثير حتما، فإرتريا تعاني التهميش والإقصاء من النظام الذي يحكمها قبل الآخرين، وهذا يجعل مهمة الأدب والأديب مضاعفة، خاصة حين يكون باللغة العربية، حيث البيئة الثقافية لأكثر من نصف السكان دون أن يكون لهم المنبر المناسب الذي يقابل تطلعاتهم.
في “سمراويت” الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع يتناول حجي جابر قصة إرتري يعيش في السعودية، فكان نصف إرتري ونصف سعودي في بحثه عن فكرة الوطن، وفي “مرسى فاطمة” كان واضحا أين يقف الجلاد وأين تقف الضحية، فلا حياد حين نتحدث عن الظلم، كما يؤكّد ضيفنا، الذي سيصدر قريبا روايته الجديدة “لعبة المغزل” -كما يكشف لأول مرّة- حيث يتحدث فيها عن التزييف الذي طال ويطول كل شيء في إرتريا، الماضي، والحاضر، الزمان والمكان، الوجوه.
كاتب يستقي أعماله من واقع إرتريا الحالي، لكنه يسعى إلى وضع بصمته، ولا يقوم مقام الكاميرا في نقل كل ما يحدث
تناوله وانحيازه للمهمّشين واضح بين سطور أعماله، هذا الانحياز يقول عنه إنّ الحياة التي عاشها هي التي فرضته، فهو- أي ضيفنا- مهاجر منذ بداية وعيه، كان ولا يزال يعيش في بلاد الآخرين، يتقيّد بالأنظمة، ولا يرفع صوته، وحين يغضب، يغضب في صمت، إلى غير ذلك مما يفعله الغرباء عادة، حتى يواصلوا حياتهم بشكل شبه طبيعي، فحياته كما يراها ليست طبيعية، فهي شبيهة بذلك.
الزمان والمكان في أعمال حجي جابر ثنائية لمن أراد البحث في تركيبتها فالزمان عنده مجرّد والمكان تفرض شروطه الحكاية، يتساءل ضيفنا، ماذا يمكن أن يقال عن مخيم الشجراب في شرق السودان مثلا؟ أو معسكر التجنيد “ساوا” في إرتريا؟ وفي إطار المكان يبرز الحديث عن العاصمة أسمرا، وهي فتنة الشرق الإفريقي وروما الصغرى كما يصفها.
إرتريا والعرب
حديثه عن أسمرا دفعنا إلى سؤاله عن إرتريا في محيطها العربي، عرقيا واقتصاديا وسياسيا، كيف يراها اليوم حجي جابر، ليؤكّد أنّ هناك محاولات حثيثة من قبل النظام الحاكم في إرتريا لانتزاع البلاد من محيطها العربي، وتشويه هوية معظم سكانها، أو جعلها باهتة في أحسن الأحوال، ويقابل هذا موقف لا مبالاة من قبل العرب، الذين بالكاد يحسنون نطق اسم إرتريا.
|
هذا الوضوح المطلق في شعوره تجاه وطنه يسوقنا إلى الحديث عن دور الأديب في ظل ما يحدث حولنا، إن كان الأدب يستطيع إنجاز ما فشلت فيه السياسة كما يرى حجي جابر الذي يقول: إنّ السياسة لم تفشل، لقد حقّقت أهدافها بكل دقة.
ضيفنا قادم من خلفيّة صحافية إلى الأدب، وفي هذه النقطة يقول إنّه استفاد كثيرا من أدواته الصحفية، فالصحافة فن، وهو يقف ضد من ينظر إليها باستصغار أو يهوّن من شأنها، يعترف حجي جابر أنّه لم يكن صحفيا لما استطاع أن يكتب “مرسى فاطمة” بالشكل الذي خرجت به، فقد لجأ إلى ما يشبه التحقيق الاستقصائي حتى ينجز شيئا عن أماكن لم تسبق له زيارتها وعن أحداث لم يعشها وتقع في مناطق مغلقة، كمعسكر التجنيد الإجباري في ساوا.
حجي جابر الذي فاز بجائزة الشارقة للإبداع، نسأله عن رأيه بالجوائز العربية في ظلّ كل ما يقال حولها، ليؤكّد أنّ الأمر معقد بعض الشيء. فالجوائز -كما يراها- مهمة لتحريك الراكد وبعث الحياة في الوسط الأدبي، لكنها بشكلها الحالي بدأت تفعل العكس.