النسوية ما بعد الاستعمارية تحاول الخروج من المركزية الغربية

سبع عشرة كاتبة يطالبن بالتفكير عالميا والتصرف محليا.
الثلاثاء 2024/01/16
النسوية مطالبة بتجاوز حدود الغرب

لئن توسعت الحركات النسوية وطورت من خطابها ليكون شاملا لمختلف الثقافات، فإن هناك اليوم نوعا من الفهم المغلوط لدى الكثير منهن، والذي أعاد حصر الخطاب النسوي في المركز الغربي، وصنع نوعا من التصدع في الحركة النسوية، وهذا ما تحاول قراءته وتجاوزه سبع عشرة كاتبة في مقالات جمعها كتاب “نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد – استعماري ونسوي”.

 تتجاوز الكتابات النسوية حدود الأقاليم والقوميات والقارات. إذ تغيرت الكتابات النسوية لتكون أشمل وفي مجالات أوسع.

انطلاقا من هذه الرؤية اجتمعت على تأليف هذا الكتاب “نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد – استعماري ونسوي” سبع عشرة كاتبة، وقد حررته الباحثتان أوما ناريان وساندرا هاردينج، وترجمته الباحثة يمنى طريف الخولي.

زعزعة المألوف

تؤكد الخولي أن كل مقال من مقالات الكتاب بمنزلة وحدة مستقلة، يمكن أن يبدأ أو ينفرد بها القارئ. ومع هذا يتجلى أحد جمالات الكتاب الكثيرة في حوار داخلي عميق بينهن، يصنع وحدة عضوية ومنهجية تحتذى، فتبدأ الكاتبة مما انتهت إليه جهود أخرى، تنصت إلى قول آخر لتصدق عليه أو تستشهد به أو تنقده أو ترفضه، أو تحاول أن تتقدم ببديل أفضل. يمتد هذا إلى محاورة أخريات وآخرين وإسهامات مختلفة ذات صلة بالميدان.

وتؤكد الخولي في تصديرها للكتاب، الصادر عن مؤسسة هنداوي، أنه “لئن كانت النسوية تمثيلا لروح الفلسفة الراهنة بشكل عام، فإنها تحديدا وتعيينا تمثيل قوي لما بعد الحداثة بشكل خاص، فيعرض فلسفة تختلف روحها عن الروح المعهودة في الفلسفة الحديثة، أو كما تقول المحررتان ‘إثارة تساؤلات مستجدة والانشغال بأشكال مستجدة من الحوار ومناقشة موضوعات مستجدة مع أطراف جدد'”.

النسوية إذا تحددت بحدود ضيقة فسوف تصطنع لنفسها “آخر” من النساء اللائي يخفقن في تفهم طريقهن للتحرر

من بين الأقلام المشاركة أليسون جاغار وسوزان أوكين وأوفيليا شوته ولورين كود وأوما نارايان، وتلفت محررتا الكتاب إلى أن قدرا لا يستهان به من التفكير النسوي في يومنا هذا إنما يمارس فعله عبر الحدود، بطرق من شأنها أن تزعزع أطرا فلسفية وسياسية مألوفة. إنه يتجاوز تشكلات المساق التقليدي للدرس النظامي، مستعيرا المقاربات المنهجية لمجالاته ولأموره العينية معا، ودامجا ومبدلا إياها.

فضلا عن ذلك، تتزايد الكتابات النسوية المعنية بعوامل من قبيل الطبقة والعرق والإثنية والتوجه الجنسي والدين، تلك العوامل التي تشكل بأساليب متعددة حيوات الجماعات المختلفة من النساء والرجال داخل الثقافات المعاصرة والدول القومية في عصرنا الراهن. وأيضا تتجاوز الكتابات النسوية حدود الأقاليم والقوميات والقارات، ما دام النسويون قد وجدوا أنه لا بد من “التفكير عالميا، والتصرف محليا” طبقا للشعار الرائج.

 إن ما يحدث “هنا” يمارس تأثيره فيما يمكن التفكير فيه وما يجري فعله “هناك”، والعكس بالعكس. تضطلع هذه النوعية من الكتابات النسوية بالإفصاح عن رؤية سياسية تتجاوب مع الاختلاف الذي تحدثه مثل تلك الارتباطات المتداخلة في منظورات المنظرين النسويين وفي مصالح النساء على السواء. إن هيئة أطر المفاهيم التي ترشد السياسات العامة يمكن أن تكون مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الرجال والنساء جميعا، ليس فقط بصفة محلية ولكن أيضا في الدول القومية الأخرى.

وتبين الخولي أن “الكاتبات المشاركات جعلن بؤرة اهتمام أفكار مقالاتهن مسائل فلسفية تخلقها زوايا النظر الجديدة في مذاهب نسوية تتنامى من حولنا متبنية التعددية الثقافية والعولمة وما بعد الاستعمارية. فـجميعهن معنيات باستكشاف مؤسسات التعددية الثقافية والعولمة وما بعد الاستعمارية، وثقافاتها وممارساتها، وكيف تخلق فرصا سانحة لإثارة تساؤلات مستجدة، وللانشغال بأشكال مستجدة من الحوار ومناقشة موضوعات مستجدة مع أطراف جدد، وتنظيم أشكال مختلفة من العلاقات الاجتماعية مغايرة لكل ما كان مألوفا أو ممكنا”.

النسوية ومركزية الغرب

ب

ترى أليسون م. جاغار في مقالها “عولمة الأخلاقيات النسوية” أن “جماعات النساء اللائي ينشدن استبعاد حيواتهن من دائرة فحص نقدي تقوم به نسويات من الخارج يتقدمن بعدة حيثيات لهذه الرغبة. تجادل جماعات المومسات بأن النسويات من الطبقة الوسطى يجهلن الظروف الحقيقية لحياة البغاء، وتجادل نساء شمال أفريقيا بأن النسويات الغربيات لا يفهمن الدور الذي يقوم به استئصال البظر وخفض الشفرتين في الثقافات الأفريقية. وفي كلتا الحالتين، نجد أن الجماعات التي لاقت ممارساتها تحديا ومناوأة من الخارج تزعم أن الناقدات تلقين صورة خاطئة”.

تبين جاغار أن “في بعض الأحيان يعبرن أيضا عن انشغالهن بأن المناقشة المفتوحة لمسائل معينة قد تكون لها عواقب ضارة بمجتمعهن المحلي؛ مثلا بعض السحاقيات ينزعجن من أن لفت الأنظار إلى الممارسات السحاقية المثيرة للجدل قد يزيد حدة الهجوم من أنصار الزواج بين الجنسين، وتخشى بعض النساء الأميركيات الأفارقة من أن مناقشة العنف الذي يمارسه الرجال الأميركيون الأفارقة قد تؤدي إلى الفرقة في مجتمعهن المحلي. وهذه الحجج في الأعم لا تقنع النسويات من الخارج اللائي يلاقي تدخلهن رفضا”.

وتتابع “قد يكون ردهن بأنهن يألفن الثقافات أو الثقافات الفرعية موضع البحث. وقد تحاج أخريات بأن الخبرة الأولية التي يمر بها أهل هذه الثقافات لا تمثل سلطة قاطعة، لافتات الأنظار إلى أن الضحايا عادة ما يلتمسن المبررات لانتهاكهن، وبالمثل لاختياراتهن بأن يبقين في أوضاع تسمح بانتهاكهن. وأيضا قد يعترض أهل الخارج على ما يتصورنه خطأ في المجتمع المحلي ككل يدفع ثمنه بعض النساء فيه. بل إنهن قد يجادلن بأن تجاهل محنة مثل أولئك النساء يعد عنصرية وتمركزا حول العرق، على قدر ما يوحي هذا بازدواجية المعايير الأخلاقية وفقا للمستويات العالية من الانتهاك والاستغلال التي تعد ‘مقبولة ثقافيا’ بالنسبة إلى بعض النساء وغير مقبولة بالنسبة إلى نساء أخريات”.

ويتركز مقال سوزان أوكين “النسوية وحقوق الإنسان للمرأة والاختلافات الثقافية” حول أوجه النجاح الفعلي في العالم الواقعي، والتي أحزرها مجتمع الخطاب النسوي العابر للقوميات أنه مجتمع من النشطاء والمفكرين المنشغلين ببرامج حقوق الإنسان العالمية والقومية، وكيف يجعلونها مستجيبة لتأزمات المرأة ومصالحها.

 وتؤكد أن بعض انتهاكات حقوق الإنسان المعترف بها عموما تتخذ أشكالا مرتبطة تحديدا بالجنوسة، هذه الأشكال لم يكن معترفا بأنها نماذج لانتهاك حقوق الإنسان. في العادة يرتكب هذه الانتهاكات أقوى أعضاء الأسرة في حق الأضعف. مثلا، من المعترف به بشكل عام أن الرق انتهاك أساسي لحقوق الإنسان. لكن حين يزوج الأب الابنة مقابل المال، أو حتى حين يبيعها لقواد لا يعتبر هذا الأنموذج حالة من حالات الرق. إذا دفع الزوج لزوجته مهرا، أو تزوجها من دون موافقتها وهي بالغة راشدة، أو إذا أبقاها داخل جدران المنزل، ومنعها من الالتحاق بعمل مدفوع الأجر، أو استولى على أجرها، وإذا ضربها لأنها لا تطيعه أو لأن حظها عاثر، فلن يعترف بأن هذه المظاهر للعبودية تعد انتهاكا لحقوق الإنسان في مناطق عديدة من العالم.

ثمة منظور نسوي بعد استعماري يناضل ليكون واعيا بالاختلافات بين النساء، من دون استنساخ التصورات الماهوية

وتضيف “الواقع أن معظم هذه الأفعال تعد في بعض المناطق مقبولة تماما داخل حدود السلوك العادي للآباء أو الأزواج والملائم ثقافيا. وأيضا حتى وقت حديث، قليلا ما كان ثمة اعتراف بأن النساء تخصيصا أكثر عرضة للوقوع في براثن الفقر، ويحتجن إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، من قبيل الرعاية الصحية، بسبب قدراتهن البيولوجية الإنجابية، وبالمثل بسبب اضطلاعهن فعليا في كل المجتمعات بمسؤولية أكبر عن الأطفال”.

وتبين أنه حتى معظم نشطاء حقوق الإنسان، وإلى وقت قريب جدا، لم يكونوا يرحبون بالاعتراف بالعديد من الانتهاكات التي تقرها الثقافات وبحالات إهمال المرأة بوصفها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من هذا، فإنه في وقت حديث، وخصوصا خلال العقد الأخير من السنين، تعرض هذا الفهم لتحد قوي. مثلا استغرق الأمر الانتظار حتى العام 1995 في بكين ليعترف المجتمع الدولي بحق المرأة في رفض الجماع. وحتى آنذاك، كانت ثمة معارضة من بعض الجهات، من ضمنها الفاتيكان، حيث كان ممثلوها “يعارضون صياغة” هذه المادة.

وفي مقالها “الغيرية الثقافية: التواصل العابر للثقافات والنظرية النسوية في سياقات الشمال – الجنوب” تستكشف أوفيليا شوته طائفة أخرى من المسائل المتصلة بالحوارات بين النسويين المتمركزين في مواضع مختلفة، مستخدمة مفاهيم عن الغيرية والاختلاف تعد مفاهيم فينومنولوجية – وجودية وبعد بنيوية، وذلك لكي تنظر في مسائل التواصل العابر للثقافات.

وتشير إلى أن النسوية إذا تحددت بحدود ضيقة، فسوف تصطنع لنفسها “آخر” من النساء اللائي يخفقن في تفهم طريقهن للتحرر أو يخفقن في الاعتراف به. وعلى وجه الخصوص، سوف تهبط بالعديد من نساء الأقطار الشرقية والجنوبية إلى مرتبة “الآخر”، إنهن النساء اللائي لا تتوافق رؤاهن توافقا تاما مع مقولات النسوية الغربية. وفضلا عن هذا، إذا وضعت النسوية الغربية لنفسها تعريفا ضيقا أو تعريفا في مصطلحات قد لا تفهمها تماما أو لا تعرف قيمتها نساء البلدان الشرقية والجنوبية ـ ولدينا عامل اللامقايسة الثقافية ـ فإن نساء هذه البلدان قد يرفضن النسويات الغربيات بوصفهن “آخر”. وهذا النمط المحتمل من الاستبعاد المتبادل قد يعود بنا إلى طريق مسدود بين نسوية الشمال ونسوية الجنوب، بين الشرق والغرب.

بعض انتهاكات حقوق الإنسان المعترف بها عموما تتخذ أشكالا مرتبطة تحديدا بالجنوسة، هذه الأشكال لم يكن معترفا بأنها نماذج لانتهاك حقوق الإنسان

ويتناول مسائل الاختلاف الثقافي مقال أوما ناريان “ماهية الثقافة ومغزى التاريخ: نقد نسوي للماهوية الثقافية”، إذ تقول “إن اختزال ‘الإمبريالية الثقافية’ في مشكلة ‘فرض التماثل’ يخفي أهمية الدور الذي لعبته خلال عصور الاستعمار صور من ‘الاختلافات الثقافية’ الماهوية التي تحمل تقابلا حادا بين ‘الثقافة الغربية’ وبين مختلف أشكال ‘الآخر’ بالنسبة إليها، سواء في التبريرات المختلفة للحكم الاستعماري أو في الكتابات عن مختلف الحركات القومية التي تحدت الاستعمارية ونزعت إلى الخلاص منها، وهي صور عادت لتطفو على السطح في محاولات ما بعد الاستعمارية للانشغال بمسائل الاختلاف الثقافي”.

وترى أن ثمة منظورا نسويا بعد استعماري يناضل ليكون واعيا بالاختلافات بين النساء، من دون أن يعاود استنساخ تلك التصورات الماهوية عن الاختلافات الثقافية، ويعوزه الاعتراف بأن المواجهات الإمبريالية تعتمد على “تأكيد الاختلاف” وإلى أي حد كان هذا. وهي في الواقع مواجهات قد اعتمدت على التقابلات الحادة المطلقة بين الثقافة الغربية و”الثقافات الأخرى”، وفضلا عن أي شيء سُجل بيت الشعر الذي قاله كبلنغ “ألا، إن الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا” في مرحلة تاريخية كان الشرق والغرب فيها منغمسين في مواجهة خطيرة طال زمانها.

وتضيف “كان هذا التناقض بين الثقافات الغربية وغير الغربية الذي يرد ذكره مرارا وتكرارا بنية استعمارية لها دوافع سياسية. ادعاء التفوق الذي نسبته الثقافة الغربية لنفسها قام بدوره كحيثيات للاستعمارية ومبررات لصلاحيتها. وعلى أي حال، لم يكن للصورة الاستعمارية التي رسمتها الثقافة الغربية لنفسها إلا تشابه واه مع القيم الأخلاقية والسياسية والثقافية التي تسود الحياة فعلا في المجتمعات الغربية”.

وتقر بأنه “على هذا يمكن تقديم الحرية والمساواة كنماذج قياسية ﻟ’القيم الغربية’، وعلامة دامغة على تفوقها الحضاري، في اللحظة نفسها التي كانت الأمم الغربية فيها منهمكة في الاستعباد، والاستعمار والنهب، وإنكار الحرية والمساواة ليس فقط على المستعمرين، بل أيضا على قطاعات عريضة من الغربيين أنفسهم، تتضمن النساء”.

وترى أن في هذه البنية ﻟ”الثقافة الغربية”، جرى بمنهجية بالغة تجاهُل التماثلات العميقة بين الثقافة الغربية وبين العديد من الثقافات التي تعتبرها “ثقافات أخرى”، تماثلات من قبيل الأنساق الاجتماعية التراتبية، والفوارق الاقتصادية الضخمة بين الأفراد، وسوء معاملة المرأة وإجحاف حقوقها. هذه الصورة الاستعمارية للتناقضات الحادة بين “الثقافة الغربية” وما سواها من ثقافات أخرى تنتج أيضا عن تمثيلات بالغة التشوه لمختلف “الثقافات المستعمرة”، وغالبا كنتيجة لما يتمسك به المستعمرون من قوالب نمطية متحيزة مدفوعة بالأيديولوجيات، بل أيضا كنتيجة للحركات القومية المضادة للاستعمارية التي تحتضن ما تتضمنه تلك القوالب النمطية من جوانب منسوبة إلى ثقافاتها الوطنية وتحاول إذكاء قيمتها.

13