النرجسيون يخلقون عالمهم الموازي في العالم الافتراضي

باحثون: التطور التكنولوجي أسهم في صعود الغرور، ومواقع التواصل خلقت عالم آخر للأشخاص النرجسيين الذين يريدون أن يجعلوا أنفسهم محورا للعالم.
الاثنين 2019/04/08
الهوس بحب الظهور يطفئ لحظات الاندماج في الأكل

تخبر نوعية التغريدات التي ينشرها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي وصورهم الشخصية ومدى كثافة أعدادها، عما يدور في حياتهم الشخصية أكثر من الكلمات نفسها. وتكشف كيف يحاول الأشخاص النرجسيون خلق “الواقع” الذي يريدونه، والذي يصبح في بعض الأحيان عاملا مساعدا لهم على الوصول إلى ما يريدون.

أضافت التكنولوجيا خيارات جديدة وعديدة، ساعدت الناس في التعبير عن ذواتهم ومشاغلهم بطرق مختلفة، إلا أنها ساهمت بما أتاحت من فرص للترويج للذات، في خلق عالم آخر للأشخاص النرجسيين الذين يريدون أن يجعلوا أنفسهم محورا للعالم، وتواجدهم فيه في غاية الأهمية.

ويعتقد الخبراء أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت بمثابة المرآة التي يرى من خلالها البعض أنفسهم ويسعون لنيل الاهتمام والظهور في دائرة الأضواء بشتى الطرق.

ويعيد هذا الأمر إلى الذهن قصة الأسطورة الإغريقية عن الصياد الذي يُدعى “نرجس” أو “نرسيسوس” الذي هام بنفسه حبا إلى درجة الاعتداد بالنفس والغرور، غير أن النرجسيين المهووسين بذواتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ليسوا أسطورة أو خرافة، إنهم أكثر عددا من أي وقت مضى على الإطلاق.

ويكفي القيام بجولة سريعة في فضاء منصات التواصل الاجتماعي، لاكتشاف كيف يحاول النرجسيون صناعة واقع يصب في صالح الحفاظ على الصورة التي كونوها عن أنفسهم ويريدون تثبيتها في عقول الأشخاص المحيطين بهم.

وهناك الكثير من الأدلة في الدراسات الحديثة التي أجريت حول مواقع التواصل الاجتماعي، ومن بين هذه الأدلة زيادة عدد الكلمات التي تدل على التمركز حول الذات في التغريدات، فضلا عن زيادة الهوس بالتقاط الصور الذاتية والحرص الدائم على مشاركة كل المواضيع والأفكار المتعلقة بالحياة الشخصية مع الغير لحظة بلحظة، ما دعا الباحثين للاستنتاج أن التطور التكنولوجي قد يكون أسهم في صعود النرجسية والغرور.

ورصدت دراسة قام بها باحثون من جامعتي سوانزي الإنكليزية وميلان الإيطالية التغيرات التي رافقت 74 شخصا تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما لمدة 4 شهور، فتوصلت إلى أن الأشخاص الذين يستخدمون وسائل التواصل بصورة مفرطة، ويقومون بنشر صورهم ومقاطع فيديو تتعلق بهم، أظهروا زيادة في صفات الأنانية لديهم بنسبة 25 بالمئة.

النرجسيون يميلون وفق اختبارات طورها علماء النفس إلى النشاط الزائد على مواقع التواصل
النرجسيون يميلون وفق اختبارات طورها علماء النفس إلى النشاط الزائد على مواقع التواصل

وبينت نتائج الدراسة أيضا أن من يستخدمون وسائل التواصل لنشر التعليقات المكتوبة بشكل أساسي، مثلما هو الحال في تويتر، لم تظهر لديهم في الغالب هذه التغيرات.

إلا أن الباحثين أشاروا كذلك إلى أن صفات الأنانية قد تتطور مع الوقت لدى المجموعة الأخيرة، وأن الزيادة في نشر التعليقات المكتوبة تعني زيادة في الاتجاه نحو الأنانية.

كما ربطت جين توينغ، أستاذة علم النفس بجامعة سان دييغو، بولاية كاليفورنيا، بين وسائل التواصل الاجتماعي والنرجسية، وفي مقال لها نشرته في جريدة “نيويورك تايمز”، وصفت توينغ مواقع التواصل الاجتماعي بـ”وقود النرجسية”، غير أنها أقرت أيضا بعدم وجود أدلة كافية لتثبت مثل هذا الأمر.

واستندت أبحاث جين توينغ إلى “اختبار الشخصية النرجسية”، وهو عبارة عن استبيان تطلب فيه من المشاركين الاختيار بين 40 زوجا من العبارات التي تعبر عنهم، إحداهما تغلب عليها نبرة الأنانية مثل “سأحقق نجاحا باهرا”، والأخرى معتادة مثل “لا أهتم كثيرا بالنجاح”.

وتوجد الكثير من الدراسات التي تؤكد أن معدل النرجسية يتزايد بشكل ملحوظ في العالم، وقد أثبتت البيانات التراكمية أن الأشخاص النرجسيون أكثر قدرة على خلق “الواقع” الذي يريدونه، والذي يصبح في بعض الأحيان عاملاً مساعداً لهم على إيصال أفكارهم إلى حيث يريدون.

ويرى فريق من الباحثين الأميركيين أن الرجال الذين يكثرون من نشر صورهم على شبكات التواصل، إنما يعانون في معظمهم من نسب عالية من النرجسية، ولديهم سمات شخصية مختلفة عن غيرهم ومعقدة.

النرجسيون يحاولون صناعة واقع عبر مختلف المنصات الاجتماعية يصب في صالح الحفاظ على الصورة التي كونوها عن أنفسهم ويريدون تثبيتها في عقول الأشخاص المحيطين بهم

واعتبرت الباحثة جيسي فوكس، أنه لا توجد مشكلة في التقاط صور السيلفي، وإنما تكمن المشكلة الرئيسية في كثرة الصور التي ينشرها الرجال على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تظهر تمتعهم بنسب عالية من النرجسية، وهو اضطراب في الشخصية يتميز صاحبه بالغرور والأنانية، ويعتقد أنه أفضل من الآخرين.

وهذا الرأي عارضه البعض من خبراء علم النفس، إذ تشير بعض أبحاثهم إلى أنه كلما زادت الصفات المحمودة لدى المرء، كحسن الظن بالآخرين، والود وسماحة الخلق، زاد نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن ثمة نظرية أخرى فسرت كيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة التمحور على الذات وخصوصا في صفوف الشباب، ويطلق على هذه النظرية “حركة الاعتداد بالنفس”، وتشدد هذه النظرية على أن ضعف الثقة بالنفس هو مصدر الكثير من المشاكل التي تواجهها المجتمعات، من بينها الإدمان ومعاداة المجتمع.

ووفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة “سكوب” للأعمال الخيرية لخدمة المعاقين وشمل 1500 مستخدم، فإن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في جعل أكثر من نصف مستخدميها غير راضين عن أشكالهم، إذ أكد نصف هؤلاء ممن تبلغ أعمارهم بين 18 و34 عاما، أن هذه المواقع تجعلهم يشعرون بأنهم لا يتمتعون بأي جاذبية.

وفي عالم يشوبه القلق المتزايد بشأن المظهر، بات من الصعب اليوم على المراهقين أن ينأوا بأنفسهم عن الصور وغيرها من الأمور التي تغذي لديهم النظرة السلبية لأجسامهم، وكلما زادت المدة التي يقضونها على الإنترنت كلما قلت ثقتهم بأنفسهم.

مشاركة صور السيلفي على المواقع ترتبط بالحب الزائد للذات
مشاركة صور السيلفي على المواقع ترتبط بالحب الزائد للذات

وأكد هاري براندت، مدير مركز الاضطرابات الغذائية بالولايات المتحدة، أن مواقع التواصل الاجتماعي تمنح المشتركين الكثير من الوقت لتقييم أجسامهم وانتقاد الحال الذي آلت إليه، وتزيد من رغبتهم في التشبه بأشخاص آخرين.

ولفت براندت إلى أن 80 بالمئة من عينة الدراسة التي أجريت على 600 مستخدم لـ”فيسبوك” والذين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و40 عاما، يدخلون إلى الموقع الشهير فيسبوك مرة واحدة على الأقل في اليوم، وهذا يجعل من الصعب عليهم عدم إلقاء ولو نظرة خاطفة على صور أشخاص آخرين، ومقارنة أنفسهم بهم.

وأوضح أن 44 بالمئة ممن خضعوا للدراسة يتمنون لو أنهم كانوا يتمتعون بوزن مثل أصدقاء لهم، في حين قال 32 بالمئة إنهم يشعرون بالحزن بعد إجراء مقارنة أنفسهم مع الآخرين.

وفي إشارة إلى مدى تأثير المواقع الاجتماعية على الحياة النفسية بينت جامعة كوينزلاند الأسترالية في دراسة لها أن عدم إبداء الأصدقاء إعجابهم أو تعليقاتهم على أنشطتهم وصورهم يعزز الإحساس لديهم بالتجاهل ويؤدي بالتالي إلى تدني الثقة بالنفس.

وتفيد براهين علمية أخرى بأن جوانب بعينها من “النرجسية” تظهر كوسيلة للتعويض عن شعور الشخص بضعفه أو افتقاره للكفاءة على نحو شخصي.

وإذا لم يعوض هؤلاء النرجسيون أنفسهم عن شعورهم بالنقص، تزيد الاحتمالات -على المدى البعيد – بألا يبلوا بلاء حسناً في الحياة، خاصة إذا ما تحولت مجرياتها لتمضي في اتجاه معاكس لهم.

وعلى كل حال، ليس من قبيل المفاجأة أن تصبح وسائل التواصل الاجتماعي مرآة تعكس أشياء أكثر أهمية عن شخصيات مستخدميها، وإذا كان هناك ما يمكن استخلاصه من الدراسات التي أجريت في هذا الصدد، فهو أن المستقبل سيحمل لنا المزيد مما يمكن لنا أن نستمع إليه، بشأن التغييرات التي ستحدثها المواقع الاجتماعية في حياة الأجيال، والتي لا نعلم عنها اليوم الكثير.

12