النجم البرتغالي الآفل كاردوسو يستعيد ألقه في باريس

يعتبر أماديو دي سوزا كاردوسو (1887/1918) الذي يقام له حاليا معرض استعادي في “القصر الكبير” الباريسي أشهر فنان في البرتغال، رغم مسيرته القصيرة، فقد عبَر الدنيا مثل نجم آفل، متوهج السطوع وجيز الأمد، حتى لكأن حياته ممهورة بالسرعة، إذ قضى نحبه في سن الحادية والثلاثين نتيجة إصابته بوباء الحمى الأسبانية التي اجتاحت شبه الجزيرة الإيبيرية قبل الحرب العالمية الأولى.
وهو ما يعني أن تجربته الفنية لم تتعد عشر سنوات، ولكنها كانت تجربة ثرية أبدع خلالها لوحات عديدة متميزة، بوّأته مكانة مرموقة في حركة الطليعة الباريسية في مطلع القرن الماضي، مع أنه كان يرفض الانتماء إلى أيّ تيار من التيارات التي ظهرت في تلك الفترة. ورغم الأعوام الثمانية التي قضاها بمونبرناس، قلب الحركات الطليعية النابض في تلك الفترة، ورغم الموقع البارز الذي احتله وقتها، فإن الفرنسيين يجهلونه.
خلافا للكثير من معاصريه من الفنانين، ينحدر أماديو من وسط اجتماعي ميسور الحال، فأبوه كان منتج خمور ثريّا في قرية قرب أمارانته شمالي البرتغال، وهو ما مكّنه من القدوم إلى باريس عام 1906 ليقيم فيها على نفقته حتى اندلاع الحرب عام 1914، ويمارس نشاطه الفني دون ضغط الحاجة، التي واجهت الكثير من الفنانين.
بدأ حياته الفنية برسوم كاريكاتيرية كان ينشرها في الصحف والمجلات البرتغالية، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة الفن المعماري نزولا عند رغبة أمه، ولكن سرعان ما بهرته باريس بتنوع جالياتها ونشاطها الفني الحثيث اللذين يناقضان الحياة البورجوازية المحافظة التي تركها في منبته الأصلي، حتى أن لوحاته الأولى صدمت أهل الفن وهواته في برشلونة لخروجها عن السائد، فلم يلبث أن تخلى عن الدراسة ليتفرغ للفن وحده منذ عام 1910.
خالط في أول نزوله بباريس حلقات المثقفين البرتغاليين المهاجرين، ثم انضم إلى الوسط الفني الباريسي، وتعرف على مجموعة من الأدباء والفنانين، فرنسيين وأجانب، كبليز سندرار وأبولينير وأوتو فروندليخ وأمبرتو بوكيوني ودييغو ريفيرا وفرنسيس بيكابيا ومارك شاغال، وخاصة النحات الروماني قسطنطين برانكوزي والرسام ذي الأصول الإيطالية أماديو موديلياني، اللذين ظلا حتى وفاته من أوفى أصدقائه.
أماديو دي سوزا كاردوسو، الذي يقام له حاليا معرض استعادي في “القصر الكبير” الباريسي، يعتبر أشهر فنان في البرتغال، رغم مسيرته القصيرة
طوال مسيرته القصيرة، استفاد من مختلف التيارات الطلائعية دون أن يستقرّ على أيّ منها، بل كان ينهل منها عناصرها ثم يتصرف فيها ويخضعها لرؤيته الخاصة، فهو يتملك جمالية الحركات دون أن يتبعها تماما، وفي هذا كتب إلى عمه فرنسيسكو، وهو من القلائل الذين شجعوه، يقول “يبدو لي فطنا ذلك الذي، إذا ما أحب بقوة أثرا فنيا، يحاذر أن يقلّده”.
واقتحم أماديو التكعيبية التي تأوّلها بحرية، بإضافة الحركة واللون، والمستقبلية التي أخذ منها السرعة، والأورفية (التي تغلّب اللون على كل العناصر التقليدية الأخرى كما نراه في أعمال سنيا وزوجها روبير دولوني) كي يجرب أثر الضوء على الأشكال، ثم التعبيرية الألمانية في وقت لاحق، والمقاربة الساذجة لهنري روسو الشهير بالديواني روسو، وحتى اللوحات اليابانية النافرة.
ورغم وقوفه على تلك التجارب، فإنه لم يتبع أيّا منها، لأنه كان يؤمن بأن المدارس ماتت، وأن الأجيال الجديدة مدعوة إلى الاشتغال على الجِدّة وحدها، وقد حرص في سلسلة لوحاته التي تَمثّل فيها جسد الأنثى، أن ينأى بنفسه عن صديقه موديلياني، وكان في أوج شهرته، فاتخذ له أسلوبا مخصوصا ينهل من الموروث البرتغالي ومن حداثة البيئة الفرنسية، ما جعل البعض من النقاد يقول إنه عرف كيف ينهل من شتى المدارس دون أن يتقيد بإحداها.
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد إلى البرتغال ولم يغادره حتى وفاته، هناك، ظل يشتغل في مرسم بناه له أبوه في ضيعته، فواصل التجريب دون توقف، مستلهما أعماله الجديدة هذه المرة من المخيال الشعبي لجهته، حيث الشخصيات بألبسة تقليدية وآلات موسيقية، في تشكيلات من الألوان الفاقعة، وأغان تقليدية تتموّج كلماتها داخل إطار اللوحة.
وابتكر أيضا وجوها وأقنعة سمّاها “رؤوس محيط” وتتكون من أشكال تكاد تكون هندسية وبقع من الألوان الفاقعة، قبل أن يبدع ملصقات مزينة مزج فيها عدة عناصر: رمل، مرآة صغيرة، قلادة، مزق من إعلانات إشهارية، وكانت تلك آخر أعماله، فقد كان يعدّ نفسه للرجوع إلى باريس حين غيّبه الموت، تاركا مئتي لوحة، وعددا من الرسوم المائية. وسعى منظمو المعرض إلى إظهار التطور الأسلوبي في أعماله، ومختلف المؤثرات التي تعبُر تجربته، من بناء سيزان إلى ألوان دولوني إلى المنظورية العمودية للرسامين الإيطاليين البدائيين الذين اكتشفهم أثناء رحلة إلى بروكسل عام 1910.