الناقدة حصة المنصوري: قصيدة النثر حررت الشاعرة القطرية

انعكس التطور الكبير الذي عرفته منطقة الخليج العربي على واقع المرأة ولاسيما المبدعة، فقدمت العديد من النساء تجارب فنية وأدبية مميزة لها بصمتها، إذ تستفيد من التيارات الفكرية العالمية مثل النسوية، ولكنها لا تتخلى عن خصوصياتها، وهو ما نلمحه مثلا في تجارب شاعرات عديدات.
تنفتح الشاعرة القطرية على تجليات القصيدة داخل المشهد الشعري العربي، سواء كانت كلاسيكية أو تفعيلية أو نثرية، وهي في انفتاحها تتماس مع أحدث تجليات الرؤية والخصوصية الفنية، لتكتب ما يعتمل في الروح في مواجهة الواقع الحياتي الخاص والإنساني العام، وفي هذه الدراسة العميقة “النسوية في شعر المرأة القطرية” تقدم الناقدة القطرية حصة المنصوري قراءة تحليلية للنسوية الخليجية عامة والقطرية خاصة حيث تتبعت أهم مظاهر النشاط النسوي في كل دولة من دول الخليج العربي كالتالي “المرأة الإماراتية، المرأة البحرينية، المرأة السعودية، المرأة العمانية، المرأة الكويتية”.
اختارت المنصوري ثلاثا من الشاعرات القطريات المعاصرات، زكية مال الله وحصة العوضي وسعاد الكواري، اللاتي تميز نتاجهن الشعري بمستوى من النضج والتنوع كنماذج تبحث فيها عن ملامح وتجليات النسوية، ومدى ما تمثلته الشاعرة القطرية من مبادئ وأفكار النظرية النسوية التي عرفتها النساء الأخريات في العالم الغربي، وفي الدول العربية الأخرى، وذلك انطلاقا من الاعتماد على منهجين رئيسيين هما المنهج التأريخي والمنهج التحليلي النقدي.
وضع المرأة
المتتبع للحركة النسوية في الأدب العالمي سيرصد الكثير من الإنجازات الحقيقية المضافة إلى رصيد الحضارة الإنسانية
أكدت المنصوري أنها حرصت على أن تكون هذه النماذج التطبيقية المختارة دقيقة في عكس واقع الشعر القطري النسوي المعاصر، فهؤلاء الشاعرات عايشن قيام نهضة الدولة القطرية الحديثة، وعاصرن أهم أحداثها، ورصدن التحولات التي مرت بها البلاد على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي، فالدكتورة مال الله شاعرة وأديبة، صاحبة أول ديوان شعري مطبوع، وهي ذات إنتاج أدبي كبير، حيث كتبت المسرحية الشعرية، والرواية الشعرية، والملحمة الشعرية، والقصيدة النثرية الطويلة، وترجمت أشعارها إلى لغات عالمية، ومن دواوينها التي وظفت في هذه الدراسة “أسفار الذات”، “في معبد الأشواق”، “ألوان من الحب”، “من أجلك أغني”، “في عينيك يورق البنفسج”، “نزيف الوقت”، “وردة النور”، “مرجان الضوء”، “دوائر”، “على شفا حفرة من البوح”، “نجمة في الذاكرة”.
أما الشاعرة حصة يوسف العوضي فهي قاصة وشاعرة وكاتبة قطرية، من أوائل رائدات الشعر والأدب الحديث في دولة قطر، ولها رصيد أدبي كبير، وجه في مجمله إلى الطفل، ومن دواوينها الشعرية التي وظفت في هذه الدراسة “ميلاد”، “كلمات اللحن الأول”، “انتظار”، “أوراق قديمة”، “بقايا قلب”.
وسعاد الكواري شاعرة قطرية مبدعة اختارتها حركة الشعر العالمي، في تشيلي، سفيرة للشعر العربي ممثلة لدولة قطر بين ثمانية عشر شاعرا عربيا تم اختيارهم سفراء للشعر، ممثلين لبلدانهم، وثلاثة آلاف وخمسمئة شاعر من القارات الخمس، كما أن لها العديد من المشاركات الأدبية في الصحف المحلية والعربية، وهي ذات نشاط ثقافي واسع، حيث أشرفت على العديد من الفعاليات الثقافية لاسيما الإشراف على الصالون الثقافي بوزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية، ومن دواوينها الشعرية التي وظفتها هذه الدراسة “لم تكن روحي”، “وريثة الصحراء”، “بحثا عن العمر”، “باب جديد للدخول”، “ملكة الجبال”، “تجاعيد”. ويذكر أن هؤلاء الشاعرات لسن الشاعرات القطريات الوحيدات، فهناك تجارب أخرى لم يتناولها نطاق الدراسة هذا إما لقلة نتاجها، أو لأنها تكتب بقلم الشعر العامي بعيدا عن الفصحى التي تعتبر من مقومات الاختيار وأحد محدداته الرئيسية.
وفي الجزء التمهيدي للدراسة تناولت المنصوري إشكالية مصطلح النسوية، واستعرضت مجموعة من الآراء لمنظرين عرب وغربيين، حيث توصلت إلى أهم المنطلقات التي أسهمت في بلورة الفكر النسوي؛ فوجدت أنها تصب في مسارين: الأول هو الاستلاب اللغوي والثقافي الذي ظلم المرأة على امتداد تاريخها الطويل. والثاني هو التحريض الفكري الذي مارسه الاستعمار وموالوه على الدول المستعمرة. وانصبت غايات النسوية وأهدافها على تحقيق حياة أفضل للمرأة، وخلق هوية إنسانية جديدة لها فطالبت بحقوقها في التعليم، والعمل، والمشاركة السياسية، وممارسة حقها في التعبير الأدبي والنقدي.
وقالت المنصوري إن المتتبع للحركة النسوية سيرصد الكثير من الإنجازات الحقيقية المضافة إلى رصيد الحضارة الإنسانية، وهذه الإنجازات مطردة النمو يقود بعضها إلى بعض نحو الغاية العظمى وهي رفاهية الإنسانية وسلامها، فقد تجلت الإنجازات النسوية في مجالات عدة منها: الأدب واللغة، والمجالات: الاجتماعية، الأكاديمية، والبيئية، والتأريخية والفلسفية، والسياسية، والفنية. وعلى الرغم من تنوع النسويات في العالم واختلاف مسمياتها وتفريعاتها المتعددة كالليبرالية والاشتراكية والراديكالية والبيئية والسوداء والإسلامية والوجودية إلا أن ما يجمع بينها يظل ثابتا وملحا، يرعاه التوجه العالمي الجديد للنسوية عابرة القارات، وهو المطالبة بالحقوق الإنسانية ونبذ كل أشكال التمييز والتعصب.
ورأت أن الحراك النسوي العربي بدأ مع بدايات عصر النهضة، متأثرا بدعوات تحرير المرأة التي قادها بعض المفكرين الرجال كقاسم أمين، وانصبت مطالب النساء العربيات على نيل الحريات، التي تكفل لهن الحق في الإسهام الفاعل في بناء أوطانهن، فأنجزن في مجالات عدة منها: التعليم وتطوير المناهج، النضال الوطني والعمل السياسي، إصلاح القوانين، محاربة البغاء، وأخيرا الإسهام في ثورات الربيع العربي.
وعلى الرغم من هذه الإنجازات إلا أن تحسن أوضاع المرأة العربية ظل سائرا بخطى بطيئة؛ فدعوة التحرر لم تجد قبولا في أي مجتمع ظهرت فيه على مدى تاريخ النسوية كله. وقد تأخر ظهور النسوية الخليجية كحركة اجتماعية وأدبية؛ لطبيعة هذه البلدان المحافظة، ولما يمارسه هذا المجتمع المحافظ على أفراده من حتمية الخضوع لسلطة العادات والتقاليد الموروثة، التي يرى في بقاء استمرارها رسوخا لهويته وكيانه.
وقد تبين من خلال البحث أن بعض الدول الخليجية بادرت إلى تحسين وضع المرأة، وتوفير كامل حقوقها كوفاء بالتزاماتها للمواثيق الدولية، مما جعل الحراك النسوي يأخذ منحى آخر، يقترب كثيرا في ملامحه من النشاط النسائي العام، الذي يختلف عن التيار النسوي في توجهه وغاياته. وقد حظيت المرأة القطرية بعناية مثلى من مراكز السلطة العليا.
صوت الأنثى

أوضحت المنصوري أن الشاعرة القطرية استلهمت من النسوية كثيرا من ملامحها الخاصة في المضمون وفي السمات الفنية، كما اتضح لنا من الأمثلة المذكورة في مختاراتها السابقة من نتاجها الثري، إلا أنها نسوية، خلت من روح التمرد ولبست في كثير من وجوهها خصائص الأنثوية المتسمة بالحياء والخجل والاحتشام، فعوضت شعرية الخطاب فيها عن صوت الاحتجاج والرفض النسوي المعهود. كما أن الشاعرات أنفسهن عبرن جميعا، في الاستبانة التي وجهت إليهن، عن الرفض القاطع لتصنيف أدبهن ضمن التيار النسوي أو غيره من التيارات الأدبية، حيث أجمعن على أن الأدب له طابع إنساني، وتصنيفه لا يتناسب مع هذا الطابع الواسع في امتداده، والرافض لكل تحجيم وتحيز.
وأضافت “لقد دفعني موقف الشاعرات الرافض للتصنيف النسوي، مع ما وجدت من ملامح خاصة في نتاجهن تنتمي إلى السمات العامة للنسوية أن أعتبر التجربة القطرية ممثلة للوجه الأنثوي للنسوية، فقد جاءت مفعمة بروح المرأة المتزنة؛ ذات الالتزام الإيجابي نحو نفسها ووطنها بعيدا عن إيحاءات النسوية السالبة القائمة على الرفض والتمرد، فكأن الشاعرة القطرية أخذت الجانب الناضج ذي الإشراق من التجربة النسوية، فقطفت الثمرة بعد اكتمال نضوجها، لاسيما وأن مجتمعها المدني قد كفل لها حقوقها، فانعدمت مبررات المطالبة بالحقوق التي كانت السمة البارزة في المرحلة الأولى لانطلاقة النظرية النسوية”.
الشاعرات صورن جميع المشاعر ممكنة التشكل في نفس الأنثى كالحب والحزن والشعور بالغربة والتشاؤم لكن بروح إيجابية
وتابعت “لو تتبعنا المضامين التي عنيت بها تجربة الشاعرة القطرية لوجدنا أنها تصب جميعا في مجال الطرح الرؤيوي الإيجابي الذي يهتم بالبناء أكثر من الاهتمام بالهدم والتقويض، ففي مجال الذات هي متسقة مع ذاتها، همها البحث عن المعرفة لتحقيق الكينونة الأنثوية المثالية. وفي مجال العلاقة مع الآخر كان الرجل يمثل لها الملهم والحبيب وكانت المرأة هي الأم والصديقة التي تعطي وتحتوي الآخر وتسامحه، فعلى الرغم من وعيها العميق بما كان عليه تاريخ الأنثى القديم من استلاب وخذلان على يد الرجل، إلا أنها تتجاوز تلك الظروف السالبة إلى خلق عالم واسع من الأمل يتعايش الجنسان فيه بشكل تكاملي مثالي”.
وبينت المنصوري أنه “في مجال المشاعر نجد الشاعرة القطرية متسقة مع ذاتها في رحلة الحياة، فقد صورت جميع المشاعر ممكنة التشكل في نفس الأنثى: كالحب والحزن والشعور بالغربة والتشاؤم إلا أنها لم تتخل عن إيجابيتها المعهودة فدائما ما يكون الأمل هو المرفأ الأخير الذي ترنو إليه السفن. وفي موقفها من الزمن والمكان عكست تجربة الشاعرة القطرية وعيا بسرمدية الزمن وأبديته كما أثبتت قدرة فائقة في رسم الأفنية المكانية متعددة الأبعاد بشكل يتناسب مع محمول التجربة الشعرية المتفردة. وحين عبرت عن مستلزمات الأنوثة كالجسد والأمومة، تفننت في تصوير عالمها الأنثوي بكل متعالقاته، مع حرص على استنهاض هذا الجسد الضعيف والتمرد عليه، للتخلص من عوامل نقصه وضعفه، والانطلاق به إلى عالم الكمال من خلال فعل البوح والكتابة وممارسة الأمومة. كما توسلت الشاعرة القطرية بعناصر الطبيعة التي تعد بيتها الأصيل ووطنها، فكانت بمثابة المتنفس والمأوى لها من ناحية، والمحرض المحرك على الفعل والإنجاز من ناحية أخرى.
واحتفت كل شاعرة بالموروث التراثي، لاسيما النسوي منه، فوظفت ثقافتها في ذلك بحكمة ووعي لخدمة أنوثتها في تعميق رؤيتها الشعرية المتنامية؛ لتربأ بها عن أي وسم قد يسمها بالسطحية والضآلة. وفي مضمون القول وميلاد القصيدة حاولت أن تناهض القيود من خلال فعل البوح، فحملت القصيدة أسرارها، واتحدت بها لإحداث توازن رؤيوي يهدف إلى معالجة القضايا بتطويع الحرف وأدوات الكتابة.
ومن حيث السمات الفنية لخطاب الأنثى الشاعرة القطرية فقد أشارت المنصوري إلى أن القاموس اللغوي الأنثوي جاء محملا بطاقات الشعور العالية من خلال الألفاظ اللينة السهلة والموحية في آن واحد، حيث ركزت الأنثى على ألفاظ تعزز ثيمات معينة مثل: الأنا، البوح، الصمت، الأمومة “وما يتعلق بها من حبل وإرضاع”، الألوان، الطبيعة، وألفاظ تعكس البيئة المحلية بمدلولاتها البرية والبحرية: كالنخلة، وشجر السمر، واللؤلؤ، والشراع، وأدوات الأنوثة والجمال، وألفاظ الحداثة والمعاصرة.

أما من حيث التراكيب الأسلوبية فقد نوعت الأنثى في بنائها الأسلوبي بين الجمل الفعلية والاسمية، كما طرقت باب الأساليب الأخرى كأسلوب النداء وأسلوب الاستفهام والنفي والنهي والأمر لتحقيق غايات يجليها السياق في كل، وقد بيناها في مواضعها بالدراسة، إلا أني لمست أن هذه الأساليب لا تخلو أحيانا من التورط في فخ السرد الذي لا يضيف للمعنى إشراقة بقدر ما يؤدي إلى الغموض والتعميه. وفي جانب الصور الفنية تميز خيال الأنثى بالتقاط التفاصيل والدقائق ونسجها في صورة كلية نابضة بالحياة والحركة، فتعمد أحيانا إلى تراسل الحواس لتخلق الزخم الحركي الناطق، وتلجأ في أحيان أخرى إلى تقنيات عالية الحرفية، كالانزياح الذي يقوم على صناعة الأنثى البارعة في مزج العناصر المتباعدة لخلق خيال جديد غير مسبوق، إلا أن هذه البراعة لا تخلو من مخاطرة قد توقع الآفاق الشعرية في دائرة غموض جديد غير مستحب. وفي مجال الموسيقى الشعرية وجدت أن الشاعرة القطرية عرفت جميع الأنساق الشعرية، فنظمت بالشعر العمودي، وكتبت شعر التفعيلة، إلا أن جل تجربتها اقترنت بالشعر المنثور، أو قصيدة النثر التي تناسبت إمكاناتها الهائلة مع تجربة الأنثى الحداثية المعاصرة، كما عزفت قصائدها على أوتار إيقاع داخلي يتجلى في أنماط عدة منها: الإيقاع الصوتي، والحواري، والسردي، وجاءت أغلب هذه الإيقاعات متسقة مع المحمول الدلالي الذي عبر عنه المضمون.
ولفت إلى أن الشاعرة القطرية برعت في الاستفادة من مساحة الحرية التي وهبتها لها قصيدة النثر، فراحت تصوغ نصوصها بتشكيلات فنية مختلفة، يحكمها ذوق الأنثى ذو الدربة العالية على إدارة الأطر الفنية الجمالية للأفضية المكانية، التي تحيط بعالمها الواقعي والشعري، فجاءت قصائدها كاللوحات الفنية، التي يعبر فيها الفضاء عن محمول خاص كما يعبر المكتوب تماما.