"الناس إلّي فوق".. فيلم سوري يدخل عالم الليل والمهمشين في دمشق

تعيش المدن الكبيرة عالمين متناقضين كليا، أحدها نهاري يمثل حركتها المعروفة من الغالبية والآخر ليلي يجمع المهمشين في الحياة النهارية والذين جار عليهم الزمان، وهي الصورة التي ينقلها لنا الفيلم الوثائقي القصير “الناس إلّي فوق” الذي يدخل مغامرة تقصي تفاصيل حياة هؤلاء الناس والتعرف على عوالمهم الغريبة والمؤلمة.
يدخل الفيلم الوثائقي القصير “الناس الي فوق” على امتداد اثنين وعشرين دقيقة إيقاعات حياتية مختلفة، يعيشها مهمشون في مجتمع المدينة الليلي، يبدو فيه الليل سيّد الموقف، مسرح الأحداث فيه مدينة دمشق، حيث تتشابك في ثيمة الفيلم مصائر عدد من الأشخاص الذين يقدمون طيفا من نسيج اجتماعي يعيش تفاصيل خاصة به، يمتلك رغم الهامشية التي يعاني منها حيّزا هاما من الوجود.
بصيغة سردية هادئة يكشف الفيلم أوراقه واحدة تلو أخرى. فالبداية مع راقصة شابة يصورها في غرفتها في الملهى الذي تعمل فيه، لتتحدث عن فجيعة الطلاق بين والديها والألم الذي سببه لها بعد أن تركاها لمصيرها المأزوم، ومن ثم مشروع الزواج الفاشل الذي خاضته، لتنكسر مجددا مع شريك ظنته سيكون سندا لكنه ما كان كذلك. وكانت الراقصة الأنثى الوحيدة بين العديد من الشخصيات الذكورية التي ظهرت في الفيلم، وعبرت بعفوية عما يدور في خاطرها وهي تحكي بوجع عن آلامها وانكساراتها. وظهرت في اللقطة الأخيرة من الفيلم مع ولادة فجر يوم جديد وهي تتجه نحو سائق دراجة نارية يسير بها إلى بيتها ومسارها الحياتي القلق، وهي تزيل ما تبقى من مكياج على وجهها، في إشارة إلى إزالة الحاجز المجمل المؤقت الذي تضعه خلال رقصها في الملهى والذي سرعان ما تتخلى عنه وتعود إلى حقيقة حياتها القائمة على الألم.
وبالمزيد من التدفق في العرض يقدم الفيلم عددا من الشخصيات الذكورية التي تعيش على نبض إيقاع الليل. واحدة منها تمثل بائع صبار تكسرت أحلامه العائلية بانفصاله عن زوجته، وعدم القدرة على تأسيس بيت جديد، ليجد نفسه بائعا ليليا للصبار، النبات الشوكي الذي تآلف معه وصار قادرا على نزع أشواكه بنفسه، كما قدم الفيلم شخصية لرجل بات وحيدا بعد أن تخلت عنه أسرته، فبات يفترش مقعدا في موقف لسيارات النقل في مركز المدينة، يعيش مرارات الخيبة جرّاء أناس قذفوه خارج حيواتهم بعد أن كبر.
ويركز الفيلم الوثائقي على شخصية ثالثة تمتهن نقل الناس على دراجة نارية في محاولة منه للتخفيف عنهم من استغلال أصحاب سيارات الأجرة كونه يتقاضى أجرا أقل، فيه شيء من الدعم الإنساني للناس في محنتهم المالية.
وتظهر شخصية مباغتة في الفيلم، تمثل تعايش إنسان مع الخطر والألم، هي شخصية العتال، فرغم جسمه الهزيل لكنه يعمل في مهنة قاسية تستلزم القوة الجسدية، وما يزيده شقاء أن طلقا ناريا سكن في رأسه منذ أعوام نتيجة الحرب في سوريا، ولم يمكن إزالته بسبب خطورة العملية الجراحية عليه. يعيش الرجل بذكرياته عن الحادثة، بينما استقرت الطلقة في رأسه فتركت فيه نزيفا صحيا ونزيفا متواصلا من الألم النفسي، لكنه اعتاد على وجودها في رأسه، وعاد بما أمكنه من قوة ليمارس عمله الليلي الشاق في سوق الخضار والفواكه.
وتجتمع شخصيات الفيلم على عتبة الألم النفسي الذي عانت منه جميعها، لكن وجود شخصيتي اللحامين بدى خارجا عن النص، كونهما لا يمثلان حالة الوجع الإنساني النفسي كما بقية الشخصيات، وكان حديثهما في الفيلم عن الاعتياد على حالة ذبح الخراف والعجول بعد تردد وخوف في المرات الأولى.
لكن لمخرج الفيلم فراس محمد تفسيرا يخالف ذلك حيث يبين “كان هذا واحداً من أهم الأسئلة المطروحة خلال مرحلة التحضير، كيف ندخل إلى صباح العاصمة دمشق، ما هو مدخلها النهاري الأنسب خصوصا بعد استعراض شخصيات الليل ورصد انتهاء أعمالها، فكان الجواب على شقين، الأول أن النهار هو مساحة الراحة والعودة بالنسبة إلى شخصيات الليل، في الوقت الذي يظهر فيه اللحامان وقد بدءا عملهما للتو، بهواجس جديدة وأحلام جديدة تتسم بشيء من الدموية التي صبغت بوحهما، وفي نفس الوقت غياب تام للإحساس بما يحمله كلامهما من عنف وهما محاطان بهذا الكم الهائل من اللحم الميت، وهذا ما يخلق إحساسا بالاختلاف عما سمعناه وشاهدناه ليلا، وليكون ربما شكلا من أشكال التناقض في هذه المدينة، هما لديهما رفاهية مشاهدة وتذكر مناماتهما، رفاهية لا يملكها من يعمل طيلة الليل”.
الليل هو البطل
يظهر الليل بطلا لمسرح الأحداث في الفيلم وهو الخيار الأصعب في فن السينما كونه يتطلب جهدا وخيالا أكبر في تهيئة الحالة المشهدية لأنه يشكل حالة أفقر بصريا وأضيق مكانيا.
ويقول فراس محمد عن ذلك لـ”العرب” “طبيعة الفيلم وتعاقب الليل والنهار فرضا شكل السرد داخل الفيلم وحتى نوع الإيقاع، الليل الصاخب وصولا إلى النهار الهادئ الذي ترتفع وتيرته بالتدرج، هذا التعاقب وضعني أمام مقاربة أو مقارنة بين هذين الزمنين، سواء من الناحية البصرية أو الحالة المجتمعية، حتى ولو كانت نتيجة هذه المقارنة غياب الاختلاف بين الليل والنهار إلا من ضوء الشمس، وهو العنصر الذي يُستخدم في السينما عادة لمنح الأشياء قيمتها الدرامية وهذا ما تم العمل عليه بجهد كبير من مدير التصوير القاسم أحمد، والفيلم، محاولة لإضاءة هذا الظل الذي يخفي عالماً متكاملا، وهو دعوة لرصد عالم قد يعتبره الكثيرون غير موجود لمجرد أنه ينمو في الليل”.
وظهرت في الفيلم خلفية غنائية شديدة الالتصاق بالبيئة المكانية والحياتية التي رصدها بصريا، فظهرت أغان شعبية ومواويل كثيرا ما توجد في الأسواق ومراكز النقل العامة، وحمل مشهد النهاية توليفة مبتكرة لمعنى أغنية ساخرة قدمها مونولوغست سوري شهير هو سلامة الأغواني الذي قدم يوما أهزوجة شهيرة حملت اسم “الحق لا عليك ولا علي” التي يتندر فيها من قساوة الحياة ومراراتها.
تجارب متنوعة
يقول فراس محمد عن تناوله لموضوع الصوت في فيلمه واعتماده على صيغة وجود الغناء الشعبي كخلفية للمشاهد البصرية “الفيلم تعامل مع موسيقى المكان، بما فيها نمط الأغاني الشعبية المستخدمة في تلك الأماكن، تعزيزاً لواقعية ما نراه على الشاشة، ومحاولة لتوظيف تلك الأغاني وتلك المؤثرات السمعية الحقيقية في دراما شخصيات الفيلم وهذا ما تم العمل عليه برفقة مهندس الصوت رامي الضللي، وانتهازا لفرصة توجيه تحية للمونولوغست السوري الراحل سلامة بيك الأغواني الذي اشتهر بأغانيه الحاملة للهم الاجتماعي”.
وكان الشغف بالسينما والإيمان بفكرة إنجاز الفيلم الدافع الأساسي لفريق العمل لكي يقدم فيلما دون وجود منتج يدعمه ماليا، ورغم تمكن المخرج من الاتفاق مع جهة إنتاجية قدمت الدعم وعلى ما يبدو لم تكن قادرة على إتمامه بالشكل المرضي لها إنتاجيا، الأمر الذي دفع بمعظم فريق العمل إلى المشاركة في الفيلم تطوعا.
ويقول المخرج السوري “الفيلم صوّر ضمن ظروف شبه مستقلة إلى درجة أن جزءا كبيرا من فريق الفيلم تخلى عن أجره لاستكمال تصويره والعمليات الفنية، ولكن ما كان الفيلم ليصل إلى بر الأمان لولا التبني الكامل لفريق الفيلم وتعاملهم مع الفيلم كمغامرة سينمائية يجب خوضها إلى النهاية دون التنازل عن القيمة الفنية، وهذه حقيقة فرضها الفيلم نفسه وفرضتها متعة العمل على شخوصه الغنية وحكاياتهم الكاشفة لعلاقتهم وعلاقتنا بدمشق”.
الشغف بالسينما والإيمان بفكرة إنجاز الفيلم كان الدافع الأساسي لفريق العمل لكي يقدم فيلما دون وجود منتج يدعمه ماليا
وتحمل عبارة “الناس الي فوق” العديد من وجهات النظر التي يمكن أن نفسرها، ويبدو أن هذا التعدد في الإمساك بجوهر الفكرة كان خيارا أوجد حالة من التشويق لدى جمهور السينما لمتابعته ومعرفة ما سيقدمه. وما زاد في حالة الارتباك تلك وجود اسم مسرحية وفيلم يدوران في فضاء مشابه. ففي عام 1957 ظهرت مسرحية في مصر كتبها نعمان عاشور، وهو مسرحي شهير كان أحد أهم المؤلفين في مصر في فترة ستينات القرن العشرين، وضع عددا من المسرحيات الشهيرة منها “سيما أونطة” و”عائلة الدوغري” و”بلاد بره”.
وحققت المسرحية التي أخرجها كمال ياسين وشارك فيها سعد أردش وعبدالمنعم مدبولي ومحمد رضا وصلاح منصور وناهد سمير نجاحا جماهيريا، فتلقفتها الفنانة المصرية ماجدة وقدمتها عبر شركتها عام 1960 من خلال فيلم حمل ذات الاسم، كتب السيناريو الخاص به وأخرجه كامل التلمساني وشارك في بطولته يوسف بك وهبي وماري منيب. وشاركت فيه حينها الفنانة السورية سلوى سعيد وقدمت دور الفتاة لطيفة.
وقدم النص في شقيه المسرحي والسينمائي حكاية عن مجموعة من الناس الذين يعيشون في بيت واحد يتكون من طابقين. السفلي الذي يضم مجموعة من المسحوقين والمنهكين من متاعب الحياة، والعلوي الذي يضم العالم الثري والصاخب والنشيط.
ويطرح النص سؤالا إنسانيا كبيرا وعميقا يتعلق بإمكانية أن تحقق علاقات الحب الناشئة بين الطرفين اختراقات للحواجز الموجودة بين العالمين. في ذات الاتجاه، يذهب فيلم “الناس الي فوق” لفراس محمد وهو يقدم رؤية محددة لأناس مهمشين، يعيشون بين الناس جغرافيا لكنهم بعيدون عن الحياة العامة كونهم يشكلون نسغا حياتيا مختلفا يتشكل في حياة الليل، وهو محاولة للمكاشفة بين عالمين واحد ليلي وآخر نهاري ويقدم رصدا لما يكونه ليل دمشق للعديد من النماذج البشرية المتفرقة فيها.
ويشارك الفيلم في الدورة الثالثة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية في أول عروضه العالمية في الدورة الحالية وضمن المسابقة الرسمية، وهو من إنتاج “ستوريز فيلم” وتأليف وإخراج فراس محمد، مدير التصوير القاسم أحمد، وموسيقى رامي الضللي، ومدير الإنتاج نورس حنبلي، وتعاون فني إبراهيم عيسى ويالا فهد، ومونتاج علي الرفاعي، وتصحيح لون رامي نضال، ومشرف إضاءة فادي نصراوي.