الميديوقراطيا نظام أفرز نخبوية من نوع جديد

مخطئ من يؤمن بوجود نمط حياة عام تأخذ فيه النخب السياسية والثقافية صوت الشعب بعين الاعتبار.
الأحد 2021/04/11
حتى الرداءة لها نخبتها (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

غالبا ما نسمع ونقرأ عن غياب النخبة أو فشلها في أداء دورها. فما هي النخبة ومن يمثلها؟ هل نعني بها النخبة السياسية أم الثقافية؟ هل ترغب الأولى حقا في تغيير ما يجري في بلداننا نحو الأفضل، أم أنّها لا تروم سوى تحقيق مصالحها، وتمكين أتباعها من مراكز النفوذ والسلطة، ولو على حساب مصير البلاد؟ وهل تملك الثانية قدرة على الدّفع إلى حل الصّعاب، وقوة الضغط على الحكام، أم أن دورها يقتصر على نقد الأوضاع القائمة والتنديد بما يحصل من انحرافات في تسيير شؤون الدولة؟

يعرّف معجم لاروس النخبة بكونها مجموعة أشخاص يحظون داخل مجتمع ما بمكانة بارزة ناجمة عن خصال ذات قيمة على المستوى الاجتماعي، كالنخبة الثقافية والنخبة السياسية. وهي في وجه من الوجوه شريحة من الشعب لها مكانة في قمة السلم التراتبي، وهي التي تمسك عادة بالسلطة.

ويفترض مصطلح النخبة مبدأ الأفضلية والاختيار أو الانتخاب. والعبارة في مقابلها الفرنسي مستمدة من اللاتينية electus اسم مفعول من الفعل eligere ومعناه اقتطف أو اختار. ومنها نتجت فكرة التفوق، لأن من نختاره هو الأفضل والأصلح والأحسن، أو هكذا يفترض أن يكون. نجد ذلك حتى في الأنظمة الديمقراطية، والحال أن الديمقراطية، نظريا على الأقل، تشترط المساواة بين سائر المواطنين، فالمساواة، طبيعية أو مدنية أو سياسية أو اجتماعية، هي مطمح كل المجتمعات ولكن لا الثورة الفرنسية ولا الثورة الروسية أفلحتا في تحقيق ذلك.

في الغرب مثلا، صارت الجدارة méritocratie مقدَّمة على المساواة، لأن المجتمعات الغربية صاغت تقنيات اصطناعية للترقي الاجتماعي: تقنيات مادية قائمة على الممتلكات، وتقنيات ثقافية قائمة على العلم والمعرفة. وصار الإفراط في الاستئثار بالوسائل الغايةَ المنشودة، ما جعل تلك التقنيات تتجمع بين أيدي النخبة (التي تملك المال أو المعرفة) فمن يملك الوسيلة يملك الغاية.

ولم يخل مفهوم النخبة، برغم بساطته الظاهرة، من تباين في تحديده، فهذه عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي هاينيش مثلا تتحدث عن نظريتين ومفهومين للنخبة، مفهوم أحادي يعتبر النخبة فئة اجتماعية أحادية تستند إلى وظيفة السلطة، وهو مفهوم يتبناه ماركس وتشارلز ورايت ميلز وبورديو؛ ومفهوم تعددي تفقد فيه النخبة صفتها الأساسية لتصبح “نتوءًا” داخل عدة فئات اجتماعية، حيث تتميز برصيدها البشري أو برصيدها الثقافي.

وبصرف النظر عن تعدد المفاهيم يمكن القول إن النخبة لغةً هي المختار من كل شيء، يصحّ ذلك على مستوى فئة اجتماعية، أو قطاع مهني أو صناعي أو مالي أو سياسي أو ثقافي، فالمقصود بها أشخاص لهم في مجال معيّن مركزٌ متقدّم حازوه بفضل تحصيلهم العلمي أو ثرائهم أو انتمائهم إلى القوى المتنفّذة والعائلات الحاكمة.

 وسواء استُعملت بصيغة المفرد “نخبة” أو بصيغة الجمع “نخب” فهي تعني “قشدة” القوم في مختلف المجالات، وعادة ما توضع في مقابل كتلة صمّاء من الأفراد، أو السواد الأعظم من المواطنين الذين ينتمون إلى طبقات شعبية، تقع بالضرورة في أسفل السلّم الاجتماعي.

ولكنّها تأخذ عندنا معنى السائس والمسوس، حسب التقسيم الذي ارتآه عالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو، بين نخبة حاكمة ودهماء محكوم فيها.

فهل تنطبق صفة “نخبة” على من يحكمون تونس اليوم، وأغلبهم ليس له ما يميزه عن الدهماء سوى انتمائه إلى حزب وصل إلى السلطة بالرشوة وشراء الذمم والتلاعب بالصندوق واستغلال جهل العامة وفقرها؟ فلا تفوّقَ دراسيّا لأفرادها، ولا فكرَ سياسيّا، ولا مشروعَ تنميةٍ لإخراج البلاد مما تعانيه، ولا كاريزما تؤهلهم كي يُحسَبوا على النخبة. وقد رأينا واحدا ممن يزجّ بهم تجوّزًا ضمنها، بعد أن عُيّن وزيرا للخارجية في استهتار واضح بالأعراف الدبلوماسية، لا يعرف عاصمة تركيا، ولا طول سواحل بلاده، بل لا يفرّق بين كلام الجاحظ وكلام الله، رغم انتمائه إلى تنظيم ديني إخواني.

Thumbnail

ولئن اتُّفِق في مرحلة ما على الاستعانة بذوي الخبرة في المجالات العلمية والتقنية والمالية، أولئك الذين أطلِقت عليهم صفة “التكنوقراط”، فراج الحديث عن نخبوية الـ”ميريتوقراطيا” أي حكم ذوي الجدارة والاستحقاق، وسرعان ما بان فشلهم هم أيضا، لأنهم لم يتعودوا على تسيير مفاصل دولة ينهشها الفساد في كلّ زاوية؛ فإنّ ما آل إليه الأمر الآن يصحّ فيه ما وصفه الكندي ألان دونو بـالـ”ميديوقراطيا” أي نظام الرداءة، الذي أفرز نخبوية من نوع جديد، لا يجمعها سوى الجهل والفساد وضيق الأفق والدجل بكل معانيه.

 الأولى أي نخبوية الجدارة أو الذكاء، تفترض حيازة أفرادها صفات مخصوصة، أهمها قوة الشخصية، والنباهة، والفكر الوقّاد، وبُعد النظر، فضلا عن التحلي بالأخلاق الفاضلة وإيثار الصالح العام على المنفعة الشّخصية، على غرار ما تصوّره أفلاطون، أوّل من وضع فلسفة سياسية عن النخب، حيث الفيلسوف/ الملكُ والحرّاس هم الشخصيّات المفاتيح لنخبة مهمتها ضمان العدل في المدينة وفرض احترام القوانين.

 أما الثانية أي نخبوية الرداءة، فهي عنوان منظومة سياسية تشجع الرديئين، وتعلي من شأن من ليس لهم كفاءة، وبذلك تغيب الجدارة ليحل محلها تفضيل الأقارب والأنصار والموالين في مفاصل الدولة، وتمكينهم من شتى الوظائف دون خبرة ولا مؤهلات.

المثقفون، أو جانب منهم على الأقلّ، يصنَّفون هم أيضًا ضمن النخبة، ولكنهم ليسوا كلهم يعملون على التغيير ويدفعون إليه، إذ منهم فئة أرستقراطية تكتفي بمتابعة الأوضاع من أبراجها العاجية ونقدها في كتب ومجلات لا تلامس من يملك القدرة على قلب الطاولة وما عليها على رؤوس الحكام، أي الشعب. ومنهم فئة تناضل بالفكر والمراس، للتنبيه إلى الأخطاء، والتحذير من مغبة اتباع سياسات تضرّ باقتصاد البلاد، ولكن دورها، على أهميته، يظلّ قاصرا عن تغيير مجريات الأحداث، وإيقاف الانحدار إلى الهاوية.

لمّا كان النّظام الديمقراطي يقوم على التمثيل النيابي الذي يمر عبر الاقتراع، فإن الحكم لا تقرره النخب المثقفة، بل عامة الشعب التي لا تميز أحيانا بين الغث والسمين

أولا، لأنهم يتوسلون بخطاب يتوجه إلى النخبة السياسية أكثر مما يتوجه إلى الطبقات الشعبية، ويميلون إلى المكتوب أكثر من المنطوق. فما وزن خطاب ثقافي متعال، لا تفهمه الغوغاء، أمام قفّة انتهازي يغري بها أهل الجوع لتحقيق مأرب، ورشاوى مهرّب، ووسائل إعلام محترفِ تهرّبٍ جبائيّ وتبييض أموال؟

ثانيا، لأنهم لا يملكون الوسائل المادية الكفيلة بتحقيق حضور أوسع، وإيصال أصواتهم إلى كل الشرائح المجتمعية، ومن لم يملك عصب الحرب لا يحلم بكسب مآلها. ومن يملك الوسيلة يملك الغاية، كما أسلفنا.

ثالثا، بعض من يتصدر المشهد اليوم في مكافحة الفساد وفضح السياسات العقيمة، التي تخرب اقتصاد البلاد ومكتسباتها المادية والقانونية والتشريعية، كان يضفي على استبداد النظام البائد شرعية، ويغمض عينيه عن تجاوزات العائلة الحاكمة، ونهبها المال العام، واستئثارها بكل الصفقات. فأي مصداقية بعدئذ لمن كان بوق دعاية لذلك النظام، يرسم تصوره الثقافي، ويحرر خطبه، ويحظى بكرمه؟

ولمّا كان النّظام الديمقراطي يقوم على التمثيل النيابي الذي يمر عبر الاقتراع، فإن الحكم لا تقرره النخب المثقفة، بل عامة الشعب التي لا تميز أحيانا بين الغث والسمين، بين صاحب المشروع الذي يمكن أن يساعدها على الخروج من ضيقها، وبين من يزيّن لها المستقبل فلا تظفر منه بغير السراب. ففي غياب الوعي، من الطبيعي أن تفوق أصوات عشرة حمير صوت عالم، كما قال أينشتاين، ولنا في سيرة أكاديمي تونسي تقدّم مرة لمنصب رئيس شعبة دستورية أيام المخلوع، فمُني بالهزيمة أمام رجل أمّيّ، إذ كان الأكاديمي المثقف يخاطب عقول العامّة، بينما كان منافسه الأمّي يخاطب بطونهم، بذبح العجول والخرفان وإقامة المآدب.

وفي كل الأحوال، مخطئ من يؤمن بوجود نمط حياة عامة تكون فيه النخب السياسية والثقافية مهيأة لأخذ صوت الشعب بعين الاعتبار، وترجمة ذلك بكل شفافية في شكل قوانين وسياسات عامّة. لأن النخب، في شتى عناوينها، تعتقد أن الشعب ليس مطبوعا على إسماع صوته، بل جُبل على أن يكون محطّ أنظار النخبة بفروعها وقت الحاجة، فهي التي تزعم أنها تنير له واقعه في يومه وغده، ثمّ توجهه الوجهة التي ترتضيها له. قد توهمه، في هذه المناسبة أو تلك، بأنها تسمع شكاواه ومطالبه، ولكنها في الواقع تجد ألف علّة للتنصّل من وعودها، وتجاهُلِ ما يريده الشعب فعلا، لكونه في تصور تلك النخب غوغاء مشتتة، قصيرة النظر، عديمة الكفاءة، لا تعرف ما تريد بالضبط، ولا ترتيبَ أولوياتها بشكل عقلانيّ.

وإذا كان ماركس يفسر تلك الظاهرة اقتصاديا، ويرى أن الإمساك برافعة الآلة الاقتصادية يمنح الطبقةَ التي تمسكها السيطرةَ على جهاز الحكم، فإنّ فيلفريدو باريتو يعتقد أن كل المجتمعات نخبوية، ولا تختلف إلا في الأسلوب؛ فالنخب، سواء لجأت إلى الحيلة أو العنف، لا غاية لها إلا تكريس الهيمنة. بل إن الديمقراطية البرلمانية في رأيه ليست سوى خدعة موصوفة لما يسميه “حكومة أثرياء وغوغائية”.

10