"الميتا شعرية" تردّ الاعتبار للتراث العربي

ظاهرة نقدية مستمرة بدأت منذ الجاهلية وتبلورت مع العباسيين وشعراء الحداثة.
الأحد 2022/03/13
الشاعر الحديث لم يولد من عدم (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

راج لدى البعض التقليل من صفة الناقد وتهميش دوره واعتباره مبدعا فاشلا ضلّ طريق الكتابة فنصّب نفسه حكما على الإبداع، يقوِّم هذا ويشيد بهذا. ولكن لو نظرنا إلى تراثنا النقدي لاكتشفنا أن صفة الناقد لا تنفصل عن المبدع أصلا، فكلاهما وجهان لعملة واحدة. فالإبداع الجيد لن يخرج إلا إذا مرّ على سُلطة الناقد الذي يشذّبه ويقوّمه، قبل أن يخرج على الملأ، والكثير من المرويات تؤكد الميل إلى الأخذ برأي المبدع/الناقد لا العالم بأمور الفن في التحكيم.

روي عن البحتري عندما سُئل في مفاضلة عن أي الشعراء أفضل: مسلم بن الوليد أشعر أم أبي نواس، “فمال إلى أبي نواس، لأنه حسب رأيه، يتصرف في كل طريق، ويتنوّع في كل مذهب، إن شاء جدّ وإن شاء هزل”، لكن السائل أخبره أن أحمد بن يحيى ثعلب، لا يوافقه هذا الرأي  ويرجح كفة الشاعر الآخر، عندئذ قال البحتري مقولته المشهورة، وهو في قوله يحتكم إلى التجربة الشعرية، “يَعرِفُ الشعر مَن دفع إلى مضايقه”.

الاحتكام إلى الأدباء هو الأصل عند الجاحظ، إذ يقول “طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيده فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلّق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبدالملك الزيات”.

عبيد الشعر

الاحتكام إلى الأدباء هو الأصل
الاحتكام إلى الأدباء هو الأصل

الشاعر الناقد هي صفة قديمة، مارسها الشعراء منذ العصر الجاهلي، أولا على أنفسهم، حيث كان الشعراء يهتمون بالقصيدة وينظرون في خصائصها ومواطن الجمال والقبح فيها، حتى سماهم الأصمعي بعبيد الشعر كما هو مشهور عند عموم الباحثين، ومثلما مارسوها على أشعارهم قبل خروجها إلى الجمهور، مارسوها على غيرهم في الأسواق الأدبيّة والمنتديات التي تحفل بالشعر، ويتبارى فيها الشعراء بالمبارزة من أجل الظفر بالفحولة.

شَغَل البحث عن معنى الشعر وقيمته القدماء، فشمل الشعراء والنقاد على حدّ سواء، فتواترت لدينا الكثير من الكتب النقدية التي تبحث عن ماهية الشعر وخصائصه، وهي تختلف من ناقد إلى آخر، فابن طباطبا العلوي في عيار الشعر، حاول أن يؤسس “عيارا للشعر” يرتبط بتصورات محدّدة عن المهمة والماهية والأداء، أما قدامة بن جعفر في “نقد الشعر” فقد أخذ على عاتقه مهمة جليلة مؤداها -كما يقول جابر عصفور في “مفهوم الشعر في التراث النقدي”- تأصيل علم يميّز جيد الشعر من رديئه، على مستوى الفهم والتذوق والحكم، وبالتالي تأصيل مفهوم ينفي النظم الزائف ليؤكّد الشعر الحق، فإذا تمّ ذلك على  مستوى الفهم، تحقّقت على مستوى الحكم نتائج مثمرة، تميز نقد الشعر عن غيره من ألوان المعرفة، وتميز ناقد الشعر عن اللغوي والسياسي والأخلاقي، وترد هذا التميز إلى ضرب من الإدراك للخصائص النوعية للشعر.

"الميتا شعرية" في الشعر الحديث أن يكون الشاعر شاعرا وناقدا في الوقت ذاته، وناقدا لشعره وشعر غيره

أما حازم القرطاجني في كتابه “مناهج البلغاء وسراج الأدباء”، فعلى الرغم من أنه نشأ في عصر الاضطرابات، حيث ثمة حملة عداء مستفحل ضدّ الشعراء قادتها طوائف من أهل النقل باسم التقوى والأخلاق، إلا أنه تمثّل لمرحلة تكامل المفهوم بعد مرحلة “تشكيل المفهوم” التي تبناها ابن طباطبا وقدامة ابن جعفر.

وعي الشّاعر بقصيدته دفع الكثير من الشعراء في العصور القديمة إلى الدفاع عن عملية التهذيب، فهذا عَدي بن الرِّقاع يدافع عن جهده وعن تهذيبه لشعره قائلا “وقصيدة قد بتُّ أجمع بينها/  حتى أقوّم ميلَها وسِنادها/ نظرَ المثقِّف في كعوب قناته/ حتى يقيم ثِقافه مُنْآدَها”، وقد يذكر البعض أسباب هذا التهذيب على نحو ما فعل  سُويد بن كُراع، الذي كان يجهد نفسه في مراجعة القصيدة، لأنه سيقدمها لابن عفان، هكذا مفصحا عن سبب عمله: وجشّمني خوف ابن عفان ردَّها/ فثقفتها حولا حَريدا ومَربَعا.

هؤلاء الشعراء الذين يمارسون النقد على شعرهم نسبهم ت.س.إليوت في مقالته “بحث موجز في النقد والشعر” إلى فئة “النقد الحقيقي الأصيل”، الذي هو نقد الشاعر الناقد الذي “ينتقد الشعر من أجل أن يخلق الشعر” إنه “النقد الولادي”.

الشعراء النقاد، الذين مارسوا النقد، نوعان: الأول، يتمثّل في هؤلاء الشعراء الذين قدموا كتابات نقدية حول الشعر وماهيته ومفهومه وتصوراته، والأمثلة على هؤلاء كثيرة في المدونة الثقافية الغربية والعربية، فرأينا إساهامات الشعراء ويليام وردزورث وصموئيل كولردج وت.س. إليوت النقدية، وفي عالمنا العربي يكفي أن نشير إلى نازك الملائكة التي قدمت ما يشبه المانيفستو لحركة الشعر الجديد  في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” (1962)، ثم مقدمة ديوان “شظايا ورماد” (1949)، ثم ما واصلته في كتاب “سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى” (1992)، وأمين الريحاني واضع أصول الشعر المنثور، وأنسي الحاج وصلاح عبدالصبور وأدونيس وغيرهم الكثيرون.

توحّد التجربة الشعرية
توحّد التجربة الشعرية

أما النوع الثاني فهم الشعراء الذين تأمّلوا كتاباتهم وهو ما عرف بالميتا شعريّة، حيث الشّعر المنعكس ذاتيّا، وهناك مَن ربط بين الميتا شعرية والمساءلة الذاتيّة التي يقوم بها الشعراء المعاصرون، وهو عند رينيه ويلك، يعد تمثيلا للغة الواعية بنفسها فحسب قوله، لقد حاول بعض الشعراء التحدُّث في شعرهم عن الشعر والشعراء، فابتدعوا شيئا يُدعى الميتا شعرية، يشبه ما نتحدث عنه بقولنا “الميتا لغة” عند جاكبسون، وهي تعني عند ويليك بتعريف الشاعر ذاته، ورسالته، ووظيفته، ويتعين عليها أن تكون مرتبطة بتساؤل الشاعر عن وضعه كراء/ كاهن أو حكيم، وقد يُنظر لها على أنها استدعاء للشعراء الآخرين/ وبمعنى آخر هو الشعر الذي يتناول الشّعر والشّاعر.

هذه الفكرة كانت محورَ كتاب الناقدة اللبنانيّة هدى فخرالدين “الميتا شعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين”، الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع (2021)، وقد سعت فيه إلى دراسة تجربتيْن مختلفتيْن على مستوى الزمن، فتتصل الأولى بالعصر الحديث حيث تجربة الشعر الحر، والثانية تمتد إلى العصر العباسي وتجربة المحدثين من الشعراء، الذين غيروا في مضمون القصيدة وشكلها، ومع هذه المسافة الزمانية التي تبعد بين التجربتين إلا أنهما يتصلان ويتقاطعان بتوحّد التجربة، فالجامع المشترك بين التجربتيْن، هو الثوريّة والتجديد، وهو ما يشير إلى بُعد آخر يتمثّل في أن التراث الشعري بمرجعياته المتنوّعة كان له دوره المؤثِّر في الثوريّة التي ظهرت مع حركة الشعر الجديد.

ومن ثمّ فالقول إن الحداثة العربية في مطلع القرن العشرين هي منتج غربي مستورد إلى العالم العربي، نتيجة لتغيرات كبرى حدثت في العالم العربي، بدءا من السياسة والجغرافيا وانتهاء بسطر من الشعر، لهو قول مناف للحقيقة والمصداقية، فالثابت كما يقرُّ الكتاب أن التأثيرات الحداثيّة في الشعر هي من نِتاج الثقافة العربيّة والتراث الشعري، تحديدا عند الشعراء المحدثين في العصر العباسي.

“الميتا شعرية” في الشعر الحديث أن يكون الشاعر شاعرا وناقدا في الوقت ذاته، وناقدا لشعره في المقام الأول، وهو المعنى المستقى من رينيه ويليك في كتابه “مفاهيم نقدية” إذ يرى أن الشاعر – الناقد “لن يظل معنا وحسب، بل سيظل حضوره كذلك، بما أنه لم يعد بمقدوره أن يكون رائيّا أو ساحرا، أو فيلسوفا وأخلاقيّا، أو حتى فنانا دون وعي ذاتي” فقد غدا الوعي بالذات وخاصة الوعي بالعلاقة بين ذات الشاعر وأسلافه، سمة حتمية للشعر المكتوب في العصر الحديث.

بين الحداثيين والمحدثين

Thumbnail

لطالما تحدّث النقاد عن علاقة الإبداع الشعري بالتراث الشعري العربي، وسعى كثيرون إلى محاولة إثبات التجديد والمغايرة بابتعاد الشعر الجديد عن التراث العربي القديم، في مقابل اتصاله بالمنجز الغربي الحديث، ومع هذه المخالفة التي سوف تثبت الدراسة التي نحن بصددها خطأها، إلا أن قصر فهم التراث بعلاقة التقليد والاتباع، وهو ما عرف بالأصالة، في مقابل التجديد وما يعنيه من انفصال عن التراث الشعري، يعد خطأ آخر يضاف إلى الكثير من المسلمات التي تناقلناها عن مجمل تراثنا الشعري، فالعلاقة بالتراث بقدر ما هي تعبر عن أصالة إلا أن هذا لا يمنع أصلا أن يكون التراث نفسه دافعا إلى التجديد والمغايرة مثلما كان هو. فبنظرة لما ابتدعه التراث من حداثة على مستوى الأشكال وكذلك على مستوى وعي الشاعر بشعره يكتشف ملامح الثورة والتمرد والمغايرة.

وبهذا الاستنتاج الذي له ما يدعمه داخل الكتاب، وهو ما قد أشار إليه أدونيس دون التفات من أحد في دراسته “بيان الحداثة” أو ما أسماه بـ”أوهام المطابقة والاختلاف”، وتأكيده على أن الحداثة في العالم العربي ليست مجرد معضلة ناتجة عن العلاقة مع الغرب، ولكنها -وعلى نحو أكثر إلحاحا- معضلة ناتجة عن العلاقة مع التاريخ الثقافي العربي نفسه.

يعدُّ الكتاب بمثابة ردّ اعتبار للتراث العربي، الذي واجه حملة شرسة بدءا من تحقيره بوصفه تراثا تقليديا في مقابل الحداثة لكل ما هو متصل بالغرب، التي رددها النقاد طيلة السنوات السابقة، تبقى محل شك وتأثير ضئيل إلى جانب تأثيرات التراث العربي، ومن هنا يتمّ التأكيد على أن التراث لم يكن متعارضا مع الحركة الشعرية الجديدة، أو الحداثة، وبالتالي تبطل ثنائية تعارضات التراث والحداثة التي ردّدها البعض كتأكيد على المغايرة، وفي ضوء هذا لم يعد الشعر -كما تقول المؤلفة- فنا حدسيّا عفويّا، بل صارت كتابته عملية واعية، يسعى فيها الشاعر إلى تغيير الماضي، وصنع مكان له بالقوة.

فعندما جاءت حركة الشعر الحر، عمدوا إلى كسر الشكل الشعري السائد في وقتها، إلى جانب تحطيم البنية الشاهقة للقصيدة العربية على نحو ما تبنّى شعراء الشعر الحر، وهذا التمرد جاء لإيمانهم “بعدم كفاءة الأشكال الأدبيّة الموروثة أو على الأقل عدم ملاءمتها، والسعي إلى جعلها حديثة أو معاصرة”، وتشير المؤلفة إلى أن جذور التجريب الواعي في الوزن والقافية بدأ مع أواخر العشرينات من القرن الماضي مع مشروع أبوللو، وهو المشروع الذي يعزى إليه الفضل في تمهيد الطريق أمام حركة الشعر الحر.

مساءلة الذات
مساءلة الذات

لكن النقلة الحقيقيّة بعد الإرهاصات الأولى ظهرت مع كتابات نازك الملائكة النظرية سواء في كتابها “قضايا الشعر الحر”، أو مقدمتها لديوان “شظايا ورماد”، تجسّدت بصورة حقيقية مع أدونيس ويوسف الخال، لأنهما كما ترى المؤلفة نجحا في تحقيق التوازن بين البُعد النظري والتطبيقي، وقد تمثّل البعد النظري في تأسيسهما لمجلة شعر عام 1957.

ولئن كان دور يوسف الخال في استلهام تجربة الشعراء الغربيين في الشعر، فإن لأدونيس الدور الأكبر في إعادة اكتشاف التراث الشعري العربي، واسترداده وإعادة امتلاكه كذلك، بدءا من مختاراته من الشعر العربي على امتداد عصوره المختلفة، والتي كانت نابعة من موقف شخصي لا من عمل تاريخي. فكما تقول المؤلفة إن عودة أدونيس للتراث “هي في حقيقتها محاولة للوصول إلى فهم واضح للاتجاه الذي كان يُفترض بالشعر العربي في العصر الحديث أن يأخذه”، ومن ناحية ثانية كان المشروع بمثابة إجابة عن أسئلة متعلِّقة بتجربته الشخصية كشاعر.

إحدى علامات الميتا شعرية التي ظهرت في الجيلين الأول والثاني من شعراء الشعر الحر، هي مساءلة الذات، والتأمُّلات، فسعدي يوسف مثلا يُعبّرُ عن مخاوف الشاعر حيال تأثير الآخرين، فأعمال الآخرين بمثابة العقبة التي تعقله وتكبح جماح انطلاقاته، ومحمود درويش عينه على التجريب والأخرى على الجمهور وردة فعله، فكما يقول “يغتالني النقاد أحيانا، يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها/ فإذا مشيت على طريق جانبيّ شاردا/ قالوا: لقد خان الطريق/ وإن عثرتُ على بلاغة عشبة/ قالوا: تخلى عن عناد السنديان”، ونرى صورة أخرى للشاعر عند شوقي بزيع يرسم من خلالها مآلات الشاعر والشعر. فهو “دائما يكتب ما يجهله/ دائما يتبع سهما غير مرئيّ/ ونهرا لا يرى أوّله/ هائما في كل واد”.

هدى فخرالدين تسع في كتابها “الميتا شعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين” إلى دراسة تجربتيْن مختلفتيْن على مستوى الزمن

وعلى مستوى بنيوي أعمق فإن حركة الحداثة العربية (حركة الشعر الحر) تعتبر قصيدة الشعر الحر نفسها (قصيدة التفعيلة) تساؤلا ميتا شعريّا، فحسب المؤلفة “إنها تظل في حالة تغيُّر دائم، محاط بأسئلة جوهرية حول علاقتها بالقصيدة النموذجية من جهة، وحول الأشكال الشعرية الناشئة -مثل قصيدة النثر- من ناحية ثانية”، وبذلك تعتبر كل قصيدة حديثة -في المستوى البنيوي- حوارا مع القصيدة التراثية الحاضرة نظريّا بصورة دائمة، أو تحديّا لها” وقد زاد هذا الحضور كثافة وتأزّما مع ظهور قصيدة النثر التي كان لها الفضل -كما تقول المؤلفة- في إبقاء تجربة الحداثة في الشعر العربي، منذ مطلع القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، في حالة تجريبية مليئة بالأسئلة الميتا شعرية الجوهرية”.

تنطلق الباحثة في كتابها من تعريف بالميتا شعرية في التراث العربي، وتتكئ فيه على مظان غربية إنجليزية تحديدا دوروثي بيكر، ورينيه ويلك، وتردد مثل هذه التيمة عند شعراء غربيين مثل ويليام كارلوس وليمز، ت.إس. إيليوت، ويليام.ب. ييتس، “الذين هدموا الحاجز الفاصل تقليديا بين الشعر والنقد (…) والذين وضعوا الأسس لنوع جديد من الشعر يُعرف الآن بالميتاشعرية”، إلا أنها تبحث عن تطبيقات لها في الشعر العربي القديم، والشعر العربي في مطلع القرن العشرين، وتؤكد على علاقة الشعراء بالتراث على الرغم من الادعاء باتصالهم بالمؤثرات الغربية، خاصة في ظل شيوع الترجمات التي اضطلع بها الشعراء، وهو ما كانت له انعكاساته على تجارب الشعراء، فغدا هؤلاء الشعراء أمثال: شيلي وعزرا باوند، وت .س. إليوت وإيمي ديكنسون آباء لهؤلاء الشعراء.

وفي الفصل الثاني تتطرق للميتا شعرية في العصر العباسي، وتستلمحها عبر مغامرة الشعراء أنفسهم وميلهم نحو التمرد على التقاليد الكلاسيكيّة على مستوى الشكل وأيضا المضامين، وقد أرجعت هذا إلى البيئة العباسية التي ساهمت إلى حدّ بعيد بالتطلع إلى التمرد والتحديث، بما تضمنه من مجالس مناقشات وسجالات كان لها أثرها الكبير في وعي الشاعر بذاته وشعره، إضافة إلى الجمهور، وفي هذا الفصل تتوقف عند المقطوعات الشعرية القصيرة التي يعبر فيها الشعراء عن آرائهم النقدية حول الشعر، أي أنها تتوقف عند الميتا الشعرية الموضوعاتية، وكأن الفصل معنى بالكشف عن أفكار الشعراء حول الشعر، وتنظيرهم له، ومساهماتهم في المناقشات النقدية الرئيسية في ذلك العصر.

كما تتطرق إلى الميتا شعرية المرجعية أو السياقية التي تقوم على الإشارة إلى شكل سابق أو عمل سابق، وهنا لا يُعالِج الشعراء موضوع الشعر على نحو ما هو حادث في الميتا شعرية الموضوعاتية، وإنما تكون قصائدهم كتعليق على القصائد السابقة أو تلاعب بموتيفاتها. وفي القسم الرابع (الميتا نسيب العباسي) تتوقف عند دراسة المقدمة الطللية (النسيب) في القصيدة العباسية، لاسيما موتيف الأطلال، الذي يعده البعض نقطة التقاء بين الشاعر وقارئه، نقطة اتصال أدبية بقدر ما يصرح الشاعر بقصده الشعري، من حيث النوع والشكل، ونقطة اتصال عاطفية، وقد أصبح هذا الموتيف إلى استعارة شعرية، وأصبح الطلل وسيلة الشاعر للإعلان عن قصيدته وتمييز نوعها. وعلى هذا النحو تصبح الموتيفات الطللية علامات لا يفهما الشاعر والجمهور فحسب، بل ويتوقعانها كذلك.

وبالمثل تدرس في الفصل التالي “الرحلة في الشعر العباسي” (الرحيل)، وكأنّ الرحلة استعارة للرحلة الشعرية نفسها، فالتضاريس في الرحلة العباسيّة هي جسد القصيدة. أما الفصل الأخير تقدّم تبادلا شعريّا بين عبدالله بن طاهر، والبحتري وابن الرومي، في سياق المعارضة أو النقائض، هؤلاء الشعراء يتبارون حول القصيدة ذاتها، والشعر بشكل عام، وقصيدة المدح بشكل خاص.

تعتبر كل قصيدة حديثة في المستوى البنيوي حوارا مع القصيدة التراثية، الحاضرة نظريّا بصورة دائمة، أو تحديّا لها

وتخلص إلى أن شكل المعارضة في العصر العباسي باعتبارها مبارزة شعرية، تصبح من خلالها عملية كتابة القصيدة في حدّ ذاتها موضوعا للتأمل، وكذلك حول ديناميكيات كتابة شعر المدح، والطريقة التي ينبغي تلقّيه بها. فالنقائض في العصر العباسي اختفلت عن النقائض في العصر الأموي، فقد اكتسبت بعدا نظريّا؛ حيث الشعراء لم يتبارزوا هنا حول أفضليته عن غيره، وإنما يقدم الحجة النقدية، يدافع فيها عن تعريفه للشعر وتحديده لدور الشاعر، وهو ما يعني أنها صارت مبارزات فكرية “مستوحاة من ثقافة المناقشات الفقهية والفلسفية”، وبذلك يكون الشعراء واعين بأدوارهم كمؤلفين للقصائد ومعلقين -وفي الوقت ذاته- على فعل التأليف، أي أن الشعراء يمارسون دورهم كنقاد، وقد يستكشف أحدهما من خلال المناقشة والسجال (كالمواجهة بين ابن الرومي والبحتري، وعبيدالله) قوانين قصيدة المدح وأساليبها.

ولئن كانت الميتا شعرية على نحو ما دلّلت المؤلفة عبر هذه القراءة المتأنيّة في مشاريع الحداثة، تعبر عن ميل “حداثي” يسعى إلى مراجعة تقاليد الكتابة وإعادة صياغتها في القرن العشرين، إلا أنها ليست حكرا على شعر الحداثة في مطلع القرن العشرين، وإنما هي في حقيقة الأمر متواجدة في معظم الفترات الأدبيّة، التي اتسمت بذوق شعري جديد، ومعايير مناقضة أو متمردة لما هو سائد في لحظتها، كما تمتد روافدها -بطبيعة الحال- إلى العصر العباسي، حيث تحرّر الشعراء العباسيون من المهمة الملحّة المتمثلة بتجهيز القصيدة بالأدوات اللازمة للبقاء في الذاكرة، وتمتعوا بحرية التجربة واستكشاف الإمكانات الكاملة في التقاليد الشعرية التي ورثوها. بل صارت القصيدة العباسيّة منفتحة على سابقتها الجاهلية، فكما تقول سوزان ستتكفيتش، “لم تنبثق عنها فحسب، بل هي تشرحها وتقدم محتواها النفسي والمفاهيمي إلى الجمهور العباسي”.

 ويمكن القول بإجمال “إن العصر العباسي ليس عتبة جديدة للغة الشعرية العربية، بل كان كذلك وقتا لإعادة تدوير التراث وإعادة تفسيره، وكان وقتا لاستخراج مفاهيم جديدة وثوريّة كانت كامنة في التراث نفسه”، وكأن القصيدة العباسية تعكس وعيّا ثابتا بذاتها في سلسلة متصلة، وهذا الوعي يضع علاقتها مع التراث في قلب العملية الشعرية.

وكذلك تحضر الميتا شعرية من خلال الجدالات والقضايا التي أحاطت بالشعر، وهو ما كان له تأثير بالغ على الشعراء، لما تضمنه العصر العباسي من فضاء لنقاشات محتدمة حول الإبداع والتقليد، والطبع والصنعة، والقديم والمحدّث، وما أثارته النقاشات من علاقة الشعراء بماضيهم الأدبي، ولاسيما مع القصيدة الأصلية، وتبعا لذلك الوعي بالذات، كما لا تنسى أن تضيف المؤلفة عاملا آخر دفع الشعراء إلى التفكير في عملياتهم الشعرية، وهذا العامل يتصل بالعلاقة المشحونة مع النقاد، فقد نظر هؤلاء الشعراء العباسيون من أمثال أبي تمام إلى تراثهم الشعري باعتباره نموذجا يتعين تقليده واتباعه، وإنما نظروا له على أنه “مواد عريقة” ينبغي إعادة صياغتها وتفسيرها، أي مواد خام عليهم البناء عليها وتجاوزها. ولا يقل تأثير الجمهور عن تأثير النقاد في عملية التأمُّل الذّاتي للشعراء، وزيادة وعيهم بما يكتبون، “فقد شهدت البيئة العباسية الحضرية نشوء المجالس الأدبية وظهور جمهور مثقف متعلّم يتألف من شعراء ولغويين وكتاب وغيرهم من متذوقي الشعر، فلم يكتفوا بالاستماع إلى الإلقاء الشعري، بل أظهروا استعدادا نقديّا، اللافت أن ثمة نقطة تجمع بين الشاعر وهذا الجمهور المثقف تتمثّل في أن كليهما واع بالقصيدة الجاهلية، أي شعر الماضي، وكان الجمهور ينتظر الطريقة الجديدة التي يردد بها الشعراء الجدد صدى الشعر القديم أو يتحدونه، أو حتى يرفضونه”.

علاقة مشحونة بالأدب والشعر
علاقة مشحونة بالأدب والشعر

ترتكز المؤلفة على دراسات كلّ من دوروثي بيكر ورينيه ويليك حول موضوع الميتا شعرية، وتعريفاتهم عن علاقة الشاعر بشعره، أو وعي الشاعر بذاته، متسلحة بوعي نظري غربي متمثل في الاستعراب الذي قارب تجربة الشعر العباسي، فتناقش أعمال بعض الشعراء المحدثين، باستخدام الإطار النظري من خلال عدسة الميتا شعرية. ما الشعر؟ ولماذا الشعر؟ ومعاناة الشاعر في سعيه نحو لغة جديدة داخل مشروع الحداثة الشعرية العربية برمته.

وحسب المؤلفة فإن “التخلي عن أوزان الخليل لشعراء الحر، أتاح مجالا وحرية أكبر لاستكشاف القضايا الحاسمة الأساسية التي أثارها مشروعهم، ونظرا للحرية البنيوية النسبية، لم يكن هذا الاستكشاف بحاجة إلى التواري أو التنكر بأي شكل من الأشكال”. وهذا الأمر هو ما يفسر أن معظم شعر البدايات كان بمثابة “تأملات نقدية في الحركة نفسها، في مكانة شعرائها وموقفهم من التأثيرات الأدبية العربية والأجنبية”.

كشفت المراجع التي اعتمدت عليها المؤلفة عن اتجاه نقدي غربي، يعيد قراءة التراث الشعري العربي، وفق مناهج وآليات جديدة، تعطي زخما للموضوعات القديمة، وتمنح دلالات كانت غائبة بالقراءات القديمة، فثمة تأويلات جديدة للمقدمات الطللية، وثمة تغييرات في الأشكال الشعرية في الطبيعة والوظيفة، على الرغم من ثبوت موتيفات النسيب والرحلة.

في الشواهد التي تستحضرها على تمثيلات الميتا شعرية في العصر العباسي، تعي جيدا الفرق بين الكتابات التي يكون الشعر موضوعا لها، كأبيات ابن مقبل مثلا، وبين تلك التي يكون الرابط الشعري فيها هو شعر ذاته من ناحية أخرى. كما تتميز الكتابات الميتاشعرية -كما تقول- بوعي متزايد بالتراث، وهو ما يؤدي إلى تناغمات وتناقضات، كما يكشف عن وعي بالاستعارات والأدوات البلاغية التي تصبح بدورها موضوع القصيدة الأساسي.

مع الأهمية البالغة للكتاب إلا أنه افتقد إلى المراجعة والتدقيق، فالكثير من المراجع تحتاج إلى الضبط، فثمة أخطاء متعلّقة بأسماء دور النشر، والمؤلفين، ومن هذا دار المعارف في (ص 32) تذكر هكذا: (دار المعارض)، وأبوللو تكتب أبولو (ص 70)، ومهيار الديلمي، تارة يكتب مهيار الدليمي (ص 91)، كما يذكر أن محقّق ديوان ابن الرومي “حسن نصر” والصحيح هو “حسين نصار” (ص150)، وكتاب بطرس البستاني “أدباء العرب في الأعصر العباسية” يذكر هكذا “آداب العرب في العصور العباسية” (ص 280)، وديوان الحسن بن هانئ، يقول تحرير “أحمد عبد لمجيد الغزالي”، سقطت ألف (المجيد)، والصواب أنه: حققه، وضبطه، وشرحه، هكذا ورد في نسخة (مطبعة مصر، شركة مساهمة مصرية، 1953، وبالمثل نسخة دار الكتاب العربي (1987).

12