"الموناليزا" بعشرة آلاف

إيلاء القيمة الحقيقية للأشياء وعدم معاملتها بمقياس واحد تتساوى فيه الرواية الأدبية والصورة التشكيلية مع خلاط يدوي مهترئ.
الثلاثاء 2025/01/07
سقوط قيمة الأشياء لما تكون بحوزة غير أصحابها

علّق أحدهم على كومة من الأغراض القديمة كانت معروضة للبيع في إحدى زوايا الشارع، بالقول “الموناليزا بعشرة آلاف”، كتعبير منه عن سقوط قيمة الأشياء لما تكون بحوزة غير أصحابها، فرغم أن الأمر يتعلق بصورة للوحة وليس اللوحة ذاتها، فإن الغيرة هي التي حركت الرجل للتعبير عن أسفه على قيمة ورمزية الإطار المعروض للبيع، رغم أن كل الأشياء كانت بـ “عشرة آلاف”، وهي 100 دينار جزائري التي تعادل أقل من دولار أميركي واحد.

وحدث لإعلامي وروائي مهووس بالتردد على أسواق “الخردة” (الأغراض القديمة)، أن فوجئ بنسخة من رواية له قضى أكثر من عامين في كتابتها، معروضة للبيع بسعر جد رمزي (10 دنانير جزائرية)، أي ما يعادل بعض السنتات الأميركية، وبعد ضربه الأخماس في الأسداس قام بشراء روايته من صاحب الخردة، لإنقاذ نفسه وروايته والحفاظ على قيمة جهده.

لجميع الأشياء والأغراض قيمتها ورمزيتها لدى أصحابها، وتصبح مع مرور الوقت جزءا منهم إلا إذا اضطروا إلى التخلص منها، لكن تفاوت المعايير والقيم من شخص إلى آخر تجعلها هدفا مرغوبا لمحتاجيها، ومجرد ركام يباع بالقطعة لتجارها، وهو ما حدث مع صورة الموناليزا والرواية الأدبية، فصاحب الذائقة الفنية والأدبية ليس هو صاحب ذائقة الاسترزاق من الأغراض القديمة.

وفي الجزائر قول مأثور مفاده “اللي ما يعرفش قيمة المقنين يشويه”، ويقصد بذلك أن من لا يهوى طائر المقنين يقوم بشيه، لاعتقاد لديه بأن لذة الطائر في امتاع أمعاء المعدة، وليس التمتع بشكله ولونه وصوته، وهذا هو الفارق في منح الأشياء قيمتها ورمزيتها.

المسألة لا تتعلق بصدف تتشكل لدى فئة البسطاء من الناس، بين تجار الأغراض القديمة في الأسواق الشعبية والأماكن العمومية، وبين المهووسين بترصد الأشياء الثمينة بالأثمان البخسة، بل بمعالم ومآثر وآثار قيّمة تم طمسها بسبب جهل وجشع صناع الإنشاءات والبنى التحتية، فيضيع بذلك جزء من الذاكرة والشواهد على زمان ومكان معينين.

وإذ يخضع الأمر للنصوص والتشريعات الناظمة لما يتعلق بالمشروعات العمومية والمؤسسات الحكومية لما تصادف مثل تلك الأشياء في أشغالها، فإنه قلما يتم احترام أو إبلاغ المعنيين من طرف الكثير من الخواص الذين لا تتساوى عندهم القيم الفنية أو الثقافية أو التاريخية مع مخططاتهم الربحية والآنية.

أي غرض أو شيء فردي أو جماعي يحمل قيمة معينة لدى صاحبه أو لدى جمهور معين هو كائن يحتاج إلى رعاية ومكانة معينة، وليس من الضروري أن تكون قيمته مبلغا بخسا، وقد لا يقدر بثمن، فصديقنا اشترى روايته حماية لها من ذلك المشهد الفوضوي والغبار المتطاير عليه، وأكيد حينها يكون قد شعر بأنه أنقذ جزءا من كيانه المعنوي.

الأشياء القيّمة تحميها القوانين والمؤسسات، لكن الحامي الأول لها هو الضمير والذوق، فليس معقولا ولا حضاريا أن يقدم سائح على حفر اسمه أو اسم عشيقته على رسومات وأشكال خالدة نحتها إنسان ما قبل الميلاد على صخور الأهقار والطاسيلي في أقصى جنوب البلاد، ليعبر عن نفسه ومكانه ويعلن عن حياة إنسانية أسست لحضارات عريقة في المنطقة.

وقبل أن يكون الأمر جهودا حكومية واجتهادات قانونية لحماية ممتلكات الأمة من التلف والسطو والطمس، فإنه يستوجب أن يكون برنامجا شاملا تُغذى به عقول الأجيال ويربى عليه الأطفال من أجل تنشئتهم على احترام وتقدير القيمة الفنية والثقافية في المجتمع.

البنية الذاتية والتركيبة الشخصية للأفراد والجماعات لا تبنى من فراغ، ومن لا يملك رصيدا معنويا ثريا لا يمكنه التوجه إلى المستقبل، وهو ما يبدأ بإيلاء القيمة الحقيقية للأشياء وعدم معاملتها بمقياس واحد تتساوى فيه الرواية الأدبية والصورة التشكيلية مع خلاط يدوي مهترئ.

18