الموسيقى التراثية المصرية تواجه خطرا محدقا إثر تراجع الفنون الشعبية

اليونسكو سبيل القاهرة لحماية التراث الشعبي من الاندثار.
الثلاثاء 2023/05/09
فنون قد تصبح ذكرى من الماضي

الموسيقى الشعبية تمثل أصالة ثقافة كل شعب، إذ تجسد تاريخه ورواياته وحكاياته وعاداته التي تتناقلها الأجيال، إنها أكبر من مجرد فولكلور أو تفصيل صغير في مسار كل شعب من الشعوب، إنها ثقافة تتداخل فيها الحكاية والشعر والموسيقى والصوت والرقص والتعبيرات الجسمانية واللباس وغيرها من التشابكات الثقافية، ورغم ذلك فإن العديد من أنماط هذه الموسيقى أصبح اليوم مهددا بالزوال.

القاهرة - تعاني الموسيقى التراثية في مصر أوضاعاً صعبة مثلما هو الحال بالنسبة إلى الفنون الشعبية بوجه عام التي تجابه مشكلات تراجع الاهتمام الحكومي بها وانفصالها عن الجمهور المحلي الذي أضحى أكثر ارتباطاً بأنواع متطورة من الموسيقى والفنون، نهاية بأزمات تصنيع وصيانة الآلات الموسيقية المستخدمة في الفنون التراثية، وهو ما يثير تساؤلات عديدة حول مستقبل فنون لعبت دوراً مهمًا في تعزيز الهوية الثقافية المصرية على المستويين المحلي والعربي.

سلط المايسترو المصري العالمي نادر عباسي قبل أيام الضوء على اختفاء آلات موسيقية تراثية في محافظات الصعيد (جنوب مصر) والواحات (جنوب غرب البلاد)، ملمحا إلى وجود صعوبات تواجهها مساعي الحفاظ على تراث محافظات خطة قناة السويس، وهي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، والمشهورة بموسيقى السمسمية، وأشار إلى أن عدم اهتمام الحكومة بالحفاظ على هذه الفنون يعني اندثارها وقد تصبح ذكرى من الماضي.

فراغ الوعاء الرسمي

مصطفى جاد: التراث الموسيقي الشعبي في مصر يتسم بالتنوع الكبير
مصطفى جاد: التراث الموسيقي الشعبي في مصر يتسم بالتنوع الكبير

اختفت في السنوات الماضية الكثير من الفرق الموسيقية الشعبية التي كان لها حضور محلي ودولي، مثل فرقة الفنون الشعبية في محافظة سوهاج (جنوب) وفرقة ملوي للفنون الشعبية التابعة لمحافظة المنيا (جنوب)، وثمة فرق واجهت أزمات مالية وغيابا كبيرا في الكوادر البشرية التي هجرت الموسيقى واتجهت إلى أنشطة أخرى يمكن من خلالها توفير عوائد مالية مناسبة.

وانعكست أوضاع قصور الثقافة في المحافظات، وهي الوعاء الرسمي للكثير من الفرق التي تقدم عروضها على مسارح الدولة، على حالة العديد من الموسيقيين والراقصين والعازفين، كما أن إهمال تراث الآلات المستخدمة تسبب في إرغام الفرق على التوقف، وقضى التقشف الذي أعلنته وزارة الثقافة ضمن مساعي الحكومة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الصعبة على الكثير من آمال الفنانين في استعادة رونقهم الفني مجدداً.

ورغم أن الكثير من الفرق المصرية قدمت فنونها على مسارح في دول مختلفة، من بينها فرقة “ملوي” التي طافت أكثر من 28 دولة وحصلت على العديد من الجوائز العالمية، فإن إجمالي قيمة ما تحصل عليه الفئة الأولى داخل الفرقة من مكافآت لا يتجاوز 200 جنيه مصري (5 دولارات)، ما تسبب في عزوف غالبية أعضاء الفرقة عن المشاركة في حفلاتها، ولم يعد بها سوى 30 عضواً بعد أن كان العدد يصل إلى 80 عضواً، وذلك بسبب استغاثة وجهها أعضاء الفرقة قبل عامين تقريبًا ولم يُستجب لها.

ونتيجة لتراجع الانفتاح الثقافي والمعرفي في بعض الأقاليم المصرية التي ترضخ أحيانا لتأثير العادات والتقاليد، وربما الأفكار المتطرفة، تجد الكثير من الفرق صعوبات في جذب عناصر جديدة لها، تحديداً من الفتيات اللاتي يحترفن الغناء أو الرقص، ما يشكل عاملا إضافيا عزز عملية انزواء العشرات من أنواع الموسيقى التراثية المصرية.

شاهد على الاختفاء

الموسيقى الشعبية تعبّر عن الصورة الصوتية التي توضح معالم كل مجتمع على حدة
الموسيقى الشعبية تعبّر عن الصورة الصوتية التي توضح معالم كل مجتمع على حدة 

قال مخرج المسرح الموسيقي محمد شافعي إن “السنوات الماضية كانت شاهدة على اختفاء خمس فرق شاركت بشكل منتظم في مهرجانات محلية ودولية”، مرجعا السبب إلى عدم وجود مشروع قومي ثقافي يمكن أن يتصدر المشهد، فبعض حفلات التبادل الثقافي بين مصر وغيرها من الدول لا يتم فيها اصطحاب فرق فنون شعبية على عكس ما كان معتادا، وهو ما يعبر عن حجم الأزمة التي يعانيها التراث الموسيقي.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “الكثير من مدارس تعليم الفنون الشعبية اختفت من المحافظات المصرية، أو لم يعد لها وجود فعال الآن، وبالتالي تراجعت القدرة على تخريج أجيال جديدة تُكمل ما بدأته الفرق المصرية على مدار عقود ماضية.

ويحاول قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية بوزارة الثقافة التحرك لإنقاذ التراث من خلال تنظيم الاحتفالات والمهرجانات الشعبية، لكنه يواجه أزمة التمويل، وقد يضطر إلى تشكيل فرق مكونة من نصف عدد الأعضاء المطلوبين لتقديم عروض احترافية.

وأوضح شافعي لـ”العرب” أن “بعض الفرق في المحافظات تحاول الاستمرار معتمدة على الجهود الذاتية وتمويلات الجهات المحلية، وأغلبيتها لا تستطيع تحقيق هذا الأمر، مع وجود صعوبات في توفير الآلات الموسيقية التي زادت أسعارها بشكل ملحوظ، بجانب تطورها تكنولوجيّا من دون أن يتماشى ذلك مع طبيعة المعرفة لدى العازفين الذين لديهم خبرات في التعامل مع الآلات القديمة”.

وتعبر الموسيقى الشعبية عن الصورة الصوتية التي توضح معالم كل مجتمع على حدة، وتُعدّ الآلات الموسيقية أبرز أدوات الموسيقى الشعبية المصرية وتوضح إبداعا جمعيا يعبر عن روح ووجدان وعقل المصري.

وكان الغناء الشعبي في فترات طويلة هو لسان الشعب، ويتغنى بقضايا الطبقة الكادحة، وتعتبر الأغنية الشعبية من أهم أنواع الأدب الشعبي، وتمتلك مصر كمّا هائلاً من التراث الغنائي والموسيقي الذي يختلف ويتنوع وفقًا للبيئة التي خرج منها، ويُعتقد أن المصريين من أوائل من ابتكروا الغناء الشعبي النابع من وجدان الشعب وكفاحه وأحلامه وآماله وآلامه.

قوالب غنائية مختلفة

Thumbnail

تحتوى الموسيقى الشعبية المصرية على عدة أشكال أو قوالب موسيقية، وأكثرها قوالب غنائية مصرية، مثل السير والموال والمديح والهزيج وأغاني العمال والابتهالات وأغاني العرس. واشتُقت منها عدة قوالب أخرى كونت الموسيقى المصرية في عصرها الذهبي، مثل السمسمية والطقطوقة والقصيدة والدور والموشح والمسرح الغنائي أو الأوبريت، وغيرها.

وأكد عميد المعهد العالي للفنون الشعبية مصطفى جاد أن بعض الأقاليم المصرية في حاجة إلى دعم كبير، خاصة ما يرتبط بالموسيقى الشعبية التي يقصد بها الممارسات والإبداعات الشعبية الخاصة بالمواطنين وليس الفرق المسرحية، والتي يتوارثها المواطنون جيلاً بعد جيل، لكنها تكون بحاجة إلى تعلم كيفية العزف على الآلات الخاصة بهذه الفنون.

التراث الموسيقي الشعبي في مصر يتسم بالتنوع الكبير بين ألوان يتم عزفها في الدلتا، مثل الضمة البورسعيدية أو السمسمية الإسماعيلية

وذكر في تصريح لـ”العرب” أن “التراث الموسيقي الشعبي في مصر يتسم بالتنوع الكبير بين ألوان يتم عزفها في الدلتا، مثل الضمة البورسعيدية أو السمسمية الإسماعيلية، فضلا عن الألوان الموجودة في صعيد مصر، مثل السيرة الهلالية ورقصات الزجالة في واحة سيوة (غربًا)، ما يجعل هناك فنون تتراجع وأخرى تحافظ على حضورها”.

وأشار إلى أن تراجع الفنون الشعبية يرجع إلى التغيرات المجتمعية التي أثرت سلبًا على ازدهار الثقافة بوجه عام، وأن مدينة أو واحة سيوة في الصحراء الغربية كانت تشتهر فيها رقصات الزجالة على نطاق واسع، لكن ظهور التيارات المتطرفة هناك ومعاداتها للفنون أوقفاها، فلم يستطع قصر ثقافة سيوة تنظيم حفلات تقدم هذا اللون الذي بدأ يتوارى عن الأنظار.

وتحتاج الآلات الموسيقية إلى قدرات معيّنة لتعلمها والقدرة على استخدامها، الأمر الذي لم يعد له وجود في الكثير من الأقاليم، كما أن عملية صيانتها وبيعها في شارع محمد علي الشهير وسط القاهرة توقفت تقريبًا، ومن ثم لم تعد لدى الفرق الموسيقية أدوات كافية يمكن أن تستخدمها في تقديم هذه الفنون على نطاق واسع.

وتعد مصر من أوائل الدول التي وقعت على اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي عام 2005، وتهدف إلى الحفاظ على الفنون الشعبية للدول المنضمة إليها، ما دفع القاهرة إلى وضع مجموعة من العناصر التراثية على قائمة “الصون العاجل” وتتعلق بعناصر التراث الشعبي التي أوشكت على الاندثار، منها فن الأراجوز ورقصة التحطيب والخط العربي والفنون ذات الارتباط بالنخيل، وتخطط المنظمة الدولية أيضا لوضع السمسمية ضمن القائمة ذاتها.

14