الموت قبل الأوان

مرة أخرى يختطف الموت مخرجا سينمائيا موهوبا ورجلا دمث الخلق، عذب اللسان، متواضعا يميل إلى الخجل، ويفضل أن يتوارى عن الأضواء الزائفة. رحل المخرج المصري النبيل أسامة فوزي الذي يعتبر من أكثر أبناء جيله موهبة وثقافة سينمائية وإنسانية.
ذهب أسامة فوزي، وهو بعد لم يكمل مشروعه السينمائي الطموح المغاير الذي بدأه عندما أخرج أول أفلامه الروائية الطويلة “عفاريت الأسفلت” عام 1996، أي بعد 12 عاما من تخرجه في معهد السينما ثم العمل كمساعد مع عدد من ألمع المخرجين.
لم يخرج أسامة فوزي سوى أربعة أفلام فقط، هي بالإضافة إلى “عفاريت الأسفلت”، “جنة الشياطين” (1999)، و”بحب السيما” (2004) و”بالألوان الطبيعية” (2009)، ومع كل فيلم من أفلامه الأربعة كانت تقوم ضجة كبرى ويجد أسامة نفسه أمام اعتراضات من جانب جهاز الرقابة الرسمية على السينما في مصر، أو رقابة من نوع آخر، دينية واجتماعية، فقد اعترضت الرقابة الرسمية على كل أفلامه، وخاض معارك صعبة دخلتها معه أطراف أخرى إلى أن تمكن من عرض أفلامه.
كان فيلم “جنة الشياطين” تحديدا من أكثر الأفلام صعوبة وجرأة في تاريخ السينما المصرية والعربية عموما، فهو الفيلم الثاني فقط الذي يسخر من الموت بشكل مباشر ويمكن اعتبار الشخصية الرئيسية فيه هي جثة رجل ميّت يسرقها مجموعة من أصدقائه الصعاليك البوهيميين الذين لا يريدون أن يصدقوا أنه توفي أو قبول هذه الحقيقة، يضعون الجثة في سيارة ويجوبون شوارع المدينة في الليل، يريدون توديعه كما يليق به وهو الذي كان قد تخلى عن عائلته الثرية وانضم إلى حياة اللهو والعبث معهم، وهم يلهون ويضحكون، بل ويحاولون أيضا دفعه إلى احتساء الويسكي.
كان هذا الفيلم تعليقا ساخرا على ما وصل إليه الواقع من عبث، ولا أتذكر فيلما مصريا آخر يعبث ويسخر من الموت قبله سوى الفيلم البديع الذي أخرجه صلاح أبوسيف عام 1942 بعنوان “نمرة 6” (أو العمر واحد) وهو فيلم قصير يقع في 27 دقيقة، بطولة لطفي الحكيم وإسماعيل يس وحسن كامل وأحمد الحداد، لكن فيلم أسامة فوزي وهو من الكوميديا السوداء، يتجاوزه سواء في قوة موضوعه أو في تأثيره.
أما “بحب السيما” فقد دخل تاريخ السينما العربية كأحد الأعمال الكلاسيكية الكبرى، وهو يعكس حب مخرجه الكبير للسينما ورغبته في التحرّر من الموروث الذي يحظر الفن ويجعله نقيضا للموروث، وبسبب جرأته وأسلوبه الفني البليغ وقوة تأثيره، واجه الفيلم غضبة شرسة من جانب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر التي اعتبرته نوعا من الهرطقة، بل واعتداء على السيد المسيح.
وتعرض الفيلم بالتالي لتشدد من جانب الرقابة إلى أن أمكن التوصل إلى حل لعرضه، لكن الأزمة مع الكنيسة تركت جرحا لا يندمل في نفس أسامة فوزي، وظل منذ تلك الفترة يشعر بالحزن الشديد والوحدة، وابتعد عن كل نشاط اجتماعي، لم يكن يحب المشاركة في الحفلات العامة، أو يتكالب كما يفعل غيره، على المنتجين ولا يطرق أبوابهم، فقد كان نموذجا لعزّة النفس والتمسك بالكرامة مع شعور مرهف يجعله يميل إلى التأمل، لكنه كان يحاول ويكتب ويعد مشاريع جديدة لأفلام ومسلسلات كانت بكل أسف، تتعثر.
أما فيلمه الأخير “بالألوان الطبيعية” (وربما يكون أقل أفلامه من الناحية الفنية)، فقد دفع طلاب كلية الفنون الجميلة إلى ما يشبه الثورة عليه بسبب جرأة الفيلم وجنوحه إلى السخرية السوداء، مما أصاب دراسة فن التشكيل في مصر من تدهور وصل إلى حد التحريم والتجريم.
تغير الظروف في مصر، وتراجع الإنتاج السينمائي، واختناق الوسط بالشللية والأجواء المريضة، دفعته إلى الاعتزال مبكرا، وأصابه المرض الذي أدى إلى موته المبكر.
رحم الله أسامة فوزي ورحم زملاءه الذين ما زالوا يكافحون من أجل العثور على فرصة لتحقيق أحلامهم في دنيا السينما.