الموت القادم إلى الجنوب

بين أحزان عائلات الموتى وأنين المصابين، وبين عزم الحكومة على تطويق بؤرة داء الملاريا في أقصى جنوب البلاد، تتشكل تجليات الموت المتعدد القادم إلى الجنوب، ومن دون تجاهل عامل التقصير المؤسساتي في التكفل بالسكان، واختلال التوازن بين الجنوب والشمال، فإن المأساة التي أزهقت عشرات الأرواح وأصابت المئات ساهمت فيها أيضا الهجرة السرية التي تزحف على بلدات ومحافظات الشريط الحدودي من دول التوتر الأفريقي.
جنوب الجزائر تهدده مختلف أشكال وأنواع الموت الطبيعي وغير الطبيعي، ولذلك فإن الأمن القومي المطروح على أكثر من صعيد ومؤسسة مطالب بأن يبدأ من هناك، فالأخطار الزاحفة ليست داء الملاريا والدفتيريا فقط، بل اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية تفضي إلى الموت بكل أنواعه.
أمن الجزائر صار في خطر بسبب التحولات العميقة المتسارعة في المنطقة، والمؤسسات الوصية مطالبة بأن تتحلى باليقظة والحذر الشديدين، وأول الأولويات في ذلك هي إيلاء الأهمية اللازمة لسكان الشريط الحدودي بالمزيد من الاستثمارات الحكومية للنهوض بمختلف الخدمات المعيشية للسكان، ما دام هؤلاء هم الحاجز الأول لضمان أمن وسلامة البلاد.
لقد عانى جنوب البلاد من التهميش والتجاهل طيلة العقود الماضية، وفوق ذلك ظل حيزا لمعاقبة الفاشلين في مناصبهم ومواقعهم، فكل موظف أو مسؤول أو كادر يعجز عن أداء دوره جرت العادة أن يعاقب بالتحويل إلى هناك، إلى أن صارت المنطقة سجنا مفتوحا للفاشلين، ومعه فشلت التنمية وترقية الخدمات والاهتمام بالسكان، لأن الكثير من هؤلاء مقتنعون بأنهم بصدد تنفيذ عقوبة وليس تقديم خدمة ودور لجزء من الجزائر ومن الجزائريين.
العيون التي كانت تركز على العاصمة والمدن الكبرى في الشمال باتت مطالبة بتغيير زاوية نظرها، لأن الموت قادم إلى الجنوب
بحت أصوات الناشطين والمناضلين منذ عقود لتبليغ انشغالاتهم واهتماماتهم البسيطة بالحصول على خدمات صحية وتعليمية وتشغيلية وإدارية، ولم يتوانوا في دق أجراس الإنذار من خطر الرمال المتحركة في الجنوب، خاصة في ظل تمدد الأيادي الخفية لزعزعة الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وما الانتشار المريع لداء الملاريا وسقوط عشرات الضحايا ومئات المصابين إلا نتيجة طبيعية لتواطؤ بين السياسات المركزية وأداء المؤسسات المحلية، وإلا لتم تطويق العدوى في بؤرتها الضيقة.
محافظات أقصى الجنوب مرشحة لاستقبال المزيد من المهاجرين والفارين والنازحين من دول الجوار، وكما للسلطة واجب اليقظة الأمنية للحيلولة دون تسلل الأخطار المتصلة، فإن اليقظة يتوجب أن تتضاعف في المراقبة والتسيير الإنساني للظاهرة، حفاظا على الأمن القومي للبلاد في مختلف المستويات الصحية والثقافية والاجتماعية، خاصة وأن النسيج السكاني يشهد تفاقما لمختلف الأمراض والأوبئة على غرار الإيدز والملاريا والدفتيريا وغيرها، لاسيما وأن الجغرافيا والتضاريس تتطلبان إمكانيات ضخمة لأجل ضمان سلامة الشريط الحدودي.
أطفال ورضع من دول الجوار ينتشرون في الطرقات والساحات بشمال البلاد، كيف جاءوا؟ وكيف وصلوا؟ ومتى ولدوا؟ أسئلة تبدو بسيطة لكنها جد معقدة، فمن أوصل هؤلاء على مسافة آلاف الكيلومترات بإمكانه أن يفعل أي شيء، ولا يعبأ بموت أو تشرّد ضحاياه.
يمكن للفضولي أن يحصل على أي شيء من أحد هؤلاء، إلا هوية والديه أو من جاء به، ويمكن له أن يستل لسانه لكن لن يحصل على إجابة لسؤاله، لأنه تدرب جيدا من دون شك على إخفاء المفاتيح الأساسية لرحلته الطويلة، وذلك هو بداية لغز تلتبس فيه الأوضاع الإنسانية بالأهداف المغرضة والخطط الخفية، التي باتت تنسج من خارج أفريقيا وتنفذ داخلها.
من تمنراست وعين قزام وبرج باجي مختار وبلدات حدودية نائية، يبدأ الأمن القومي الجزائري، ومن هناك تتوجب مراجعة الأولويات والسياسات والمخططات، فالعيون التي كانت تركز على العاصمة والمدن الكبرى في الشمال باتت مطالبة بتغيير زاوية نظرها، لأن الموت قادم إلى الجنوب.