المواهب لا تموت

رحلت "رمرومة" بابتسامتها وحسها الساخر وطيبتها الفياضة عن مسرح الدنيا ودفنت في مسقط رأسها جنوب البلاد، جنوب الكلام وجنوب المعنى.
الثلاثاء 2023/02/21
الموهبة لا يقدرها إلا الموهوبون

صار الواحد يتصفح الفيسبوك كل صباح، ويده على قلبه من كثرة النعوات، حتى أمسى هذا الموقع الاجتماعي جدارية للبكاء والترحم على الموتى الذين كانوا قبل فتح الجهاز أحياء يُرزقون بيننا.

الآن، رحلت الصديقة الفنانة المسرحية التونسية ريم حمروني، صاحبة أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي. كانت هذه الزبيبة السمراء تُذكّر جميع التونسيين بانتمائهم للقارة التي تشبه القلب النابض شكلا وروحا وإيقاعا، والتي أعطوها اسم بلدهم القديم “أفريكا” أو “أفريقية”. كانت ريم ذات حضور ركحي أخّاذ، وكلما التقيتها يتيقظ المسرح في عروقي متأهبا مثل حصان عربي وقد اشتم فجأة رائحة الصحراء، وتسألني “متى أشتغل نصا لك أيها الكسول؟” فأجيبها “قريبا إن شاء الله يا رمرومة”.

رحلت “رمرومة” بابتسامتها وحسها الساخر وطيبتها الفياضة عن مسرح الدنيا ودفنت في مسقط رأسها جنوب البلاد، جنوب الكلام وجنوب المعنى.

رحلت في لمح البصر كالنسمة، وفي عز عطائها وشموخها مثل نخلة لا يتذكر الناس سوى طيب ثمرها ووارف ظلها. ولأن الموت لا يفضي إلا إلى الموت، ولا يعرف المنطق أو التفرقة بين الأجناس والأمزجة، أمضي متصفحا هذا الفضاء الذي لم يعد أزرق فأفاجئ بموت الكاتب والناقد الصحافي السوري حكم البابا، في غربته وقد هزمه المرض الخبيث، وهو الذي خاض معارك دونكيشوتية في جميع الاتجاهات.

ولأن الموت كذلك، لا يعطي شهادات حسن سلوك، فقد تهافت وتكالب في ذكر مثالبه واعوجاج سلوكه أناس كثيرون، وبلهجة لا تخلو من بعض التشفي، لكن ذلك جاء من أشخاص “عديمي الموهبة” وهي الصفة التي يمقتها حكم في خصومه من الفنانين والمثقفين والسياسيين.

الحقيقة أن الرجل كان موهوبا حتى في شتائمه وتحرشاته الصحفية والنقدية، وهو ما يغفر له جميع هناته، الأمر الذي جعل “عديقه” الكاتب محمد منصور ينعيه بعبارة “كان حكم صحافيا عاشقا للصحافة بكل جوارحه، كان يتنفس صحافة كأنه خلق لهذه المهنة بالفطرة”.

ويضيف الكاتب السوري الذي كان على خصومة معه عند وفاته، معترفا بتفوقه “كان موهوبا بحق، وكاتبا دراميا شجاعا استطاع أن يترك بصمات في الكوميديا التلفزيونية السورية”.

ليس هناك ما يجمع بين ريم وحكم سوى معرفتي الشخصية بالاثنين، وخبر الوفاة الذي يتناقله المدونون على الفيسبوك، فريم شديدة السمرة والطيبة والمصارحة، بينما كان حكم شديد الحمرة والمراوغة والمشاكسة، لكنهما يشتركان في الموهبة التي لا يقدرها إلا الموهوبون.

وبعيدا عن نعوات الفيسبوك الذي أصبح مقبرة مترامية الأطراف هذه الأيام، فإن الفقدان صعب وثقيل على الأحياء وليس على الأموات طبعا، لذلك، صارت القاعدة تقول: إذا لم تقرأ خبر وفاتك فاعلم أنك أنت الميت.

عزاء البشرية أن المواهب والمآثر لا تموت، بدليل أننا مازلنا نُفجع لفقدان من تركوا أثرا بعد رحيلهم، حتى وإن كان ذلك معارك وخصومات، شرط أن تأتي عن موهبة وتميز.

18