المهمون مهمشون وآخرون اشتهروا بسبب المصالح

دراسة تستخرج نصوص من لم ينالوا حظهم من الشهرة من شعراء مجلة أبوللو ثم درسها وتحليلها والإضاءة على أصحابها.
الجمعة 2019/05/10
إطلالة على المنسيين (لوحة للفنان بهرام حجو)

 القاهرة -  في كتابه ”الرومانسية العربية بين الأصالة والتبعية.. دراسة في شعر مغموري أبوللو” يؤكد الدكتور محمود عبدالغفار أن مجلة “أبوللو” أحدثت حراكا ثقافيا كبيرا، وصار لها مكان مرموق في الوطن العربي، وقد توقفت عن الصدور عام 1934، وإن ظلت الجماعة التي أنشأتها موجودة تمارس نشاطها، فعلى سبيل المثال قام مؤسس المجلة الشاعر أحمد زكي أبوشادي بإصدار مجلتي “الإمام” و”أدبي” قبل هجرته إلى أميركا.

وقد تضمنت أبوللو تراثًا أدبيًا لأعداد غفيرة من الشعراء لم يأخذوا حقهم من الدرس الممنهج بما يليق بجهودهم، خصوصًا أن معظمهم لم ينل الشهرة التي يستحقها دون تبرير واضح، فقد ركزت كل الدراسات التي تناولت الشعر الحديث على روَّاد المدارس الشعرية، وراحت تؤرخ ثم تحلل نماذج شعرية بعينها لشعراء بعينهم، مما أدى إلى تجاهل الكثير من الشعراء، وإهمال الذاكرة التاريخية لهم.

يقول المؤلف “منهجيًا نرى أنّ الانطباعية وغياب منهج علمي محدد المعالم يمكن من خلاله الوصول إلى نتائج يُعتد بها، للتمييز بين شعراء المدرسة الفنية الواحدة قد نتج عنهما اختزال أعمال الشاعر في قصيدة واحدة، واختزال الشاعر نفسه في عدد من الأبيات المحدودة التي تتكرر في بعض المناسبات، ولذلك أصبحنا أمام مقارنة بين أبيات لا قصائد، وبين ألقاب لا مبدعين، أصبحنا أمام أشهر بيت قالته العرب، وأعذب بيت في الغزل، وأدق بيت في الوصف، كما أصبحنا أمام شاعر النيل وأمير الشعراء وشاعر الشباب.

 قيمة الحياة تكمن في أن يتمسك الإنسان بكل رغبة في الإنجاز ما وجدت مقوماته
قيمة الحياة تكمن في أن يتمسك الإنسان بكل رغبة في الإنجاز ما وجدت مقوماته

إن ما تحقق فعلاً بشأن تاريخ الشعر الرومانسي في مصر هو تناقُل قصائد بعينها واستمرار الترويج لها وتَجَاهُل كل ما عداها، واعتبار نماذج رواد ‘أبوللو’ هي النماذج الوحيدة التي تعكس ملامح الرؤية الرومانسية وتعبر عنها كأطلال ناجي و’صلوات في هيكل الحب’ للشابي،  و’الشاعر’ لعلي محمود طه، على حساب قصائد أخرى لا تقل عنها قيمة مثل ‘حزينٌ’ و‘في معاني الدموع’ لمحمد زكي إبراهيم، و’معبد الذكرى’ لحسن محمد محمود، و’على الشاطئ المهجور’ لمحمد أحمد رجب، و’الأشجان’ و’المستسلم’ لسيد إبراهيم، و’وجوه الطبيعة’ و‘الوداع’ لرمزي مفتاح، و‘الزورق الحالم’ و‘مدمن الألم’ للمهدي مصطفى، و‘حب المحال’ لجميلة العلايلي، فكلها قصائد تمثل روحًا رومانسية أصيلة، وتعبر عن رؤية مبدعيها بشكل نزعم أنه لا تبعية فيه، إذ لم يرتدِ أصحابها تلك النظارات الغربيّة التي ارتداها معظم الرواد وهم ينظرون إلى الكون من حولهم”.

ويضيف المؤلف “لقد تعلمت من هؤلاء المغمورين أن قيمة الحياة تكمن في أن يتمسك الإنسان بكل رغبة في الإنجاز ما وجدت مقوماته، وأن يعدل من إستراتيجيات حياته، بحيث يحقق النجاح المبتغى في مجال آخر إذ لم تكن ظروف النجاح في عمل ما يحبه، دون أن يتخلى تمامًا عن عمل هذا الذي يحبه، لقد قدم مغمورو أبوللو المثال على هذا بشكل عملي، فعندما اختار بعضهم مجالات غير مجال الشعر نجحوا خلالها، فأثبتت سهير القلماوي وسيد إبراهيم ورمزي مفتاح ومحمد زكي إبراهيم وعامر بحيري –وغيرهم- أن فناء الجسد لا يعني فناء صاحبه، فمدرسة سيد إبراهيم في الخط العربي، ستكفل لاسمه البقاء، ومشروع القلماوي الأكاديمي وإنتاج عامر بحيري وعفيف ومفتاح سيتكفل بترديد أسمائهم لمدى زمني قد يصعب تصوره.

ويؤكد المؤلف أن البحث عن أسباب غمر بعض الشعراء هو بحث عن القيمة الأدبية وعلاقتها بالشهرة، ذلك اللغز الذي يجعل الاقتراب من المغمورين والمهمشين في الدوائر الأدبية أشبه في كثير من الأحيان بتفسير الماء بالماء، وخصوصًا في غياب دراسات علم اجتماع الأدب الجادة والتي تدعم مسألة إعادة كتابة تاريخ الأدب الحديث التي يظنها المؤلف مسألة ملحة، قائلا “إن العظمة في الشعر لا تعود إلى أبعاد العمل الشعري أو المهارة التي ينجزها أو حتى الشهرة التي يكسبها، ففي الإنكليزية كما في لغات أخرى شعر تظهر فيه فراهة فنية مدهشة، ويترك تأثيرًا عظيمًا دون أن يفكر أحد أنه عظيم لهذا السبب، وهنالك شعراء -هم أكثر من أن يُقرأ لهم من المعاصرين في أي جيل- يتمتعون بشهرة خيالية وعالمية بينما لا تتعدى عظمتهم أن تكون قضية مصالح صحفية”.

وقد سعت هذه الدراسة لاستخراج نصوص من لم ينالوا حظهم من الشهرة من شعراء مجلة أبوللو، ثم درسها وتحليلها بهدف وضع أصحابها في إطار المدرسة التي انتموا إليها، الكلاسيكية أو الرومانسية، وكذلك بهدف الإجابة عن التساؤل الذي لم ينشغل أحد بطرحه من قبل، وهو: لماذا لم ينل هذا الشاعر أو ذاك حظه من الشهرة كما نالها غيره؟ وهو تساؤل كانت إجابته مفتاح وضع مغموري أبوللو موضعهم الصحيح.

جدير بالذكر أن كتاب ”الرومانسية العربية بين الأصالة والتبعية.. دراسة في شعر مغموري أبوللو”، صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

14