المنتجون يعاملون الممثل المغربي مثل سلعة في مزاد الترند

سيطرة منطق السوق على الفن تفقد الدراما عمقها الفني.
الاثنين 2025/04/14
الممثل أهم عناصر نجاح العمل الدرامي

تحكم عملية إنتاج المسلسلات الرمضانية العديد من الخفايا الإنتاجية، إذ يقود إنجاز هذه الأعمال، التي تطرح نفسها في منطقة وسطى بين الجماليات الفنية والانتشار الشعبي، منطق إنتاجي هو في أغلبه منطق تجاري، والاقتصار على هذه النظرة الربحية ساهم بشكل كبير في تشويه الساحة الدرامية ووضع المبدعين تحت ضغوطات كبيرة.

الرباط- برزت في الدراما الرمضانية في المغرب على غرار بقية بلدان العالم العربي، إشكالية معقدة تتعلق بتحول دور الممثل من فنان مبدع إلى عنصر يخضع لقوانين السوق. ففي هذا الشهر تتكاثر المسلسلات وتشتد المنافسة بين القنوات والمنصات، ويصبح الممثل فيها أشبه بسلعة تُعرض في واجهة الإنتاج التلفزيوني لجذب المشاهدين بعد الإفطار.

هذا التحول يقودنا إلى مفهوم التشييء، وهو مصطلح صاغه الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش في القرن العشرين، ويعني تحويل الإنسان أو قدراته إلى شيء مادي يُقاس بقيمته الاقتصادية في النظام الرأسمالي، فهل يظل الممثل حاملا لرسالة فنية، أم أنه يُختزل إلى أداة تجارية تخدم مصالح المنتجين والمعلنين؟ وكيف يؤثر ذلك على الفن والجمهور المغربي الذي يترقب هذه الأعمال بشغف؟

الربح لا غير

 تتطلب هذه الإشكالية مناقشة معمقة لفهم أبعادها وانعكاساتها أكثر مما سنخطه في هذا المقال، إذ تُفصّل هذه الظاهرة في وجهتي نظر متضاربتين تعكسان تعقيد الموضوع. تؤكد الرؤية الأولى أن الممثل في رمضان يتعرض لعملية تشييء واضحة، فيتم اختياره بناء على قدرته على تحقيق البوز والضجيج الإعلامي وجذب نسب مشاهدة عالية، وهنا يتحول الممثل إلى سلعة يُروَّج لها عبر الإعلانات والمقابلات التلفزيونية، ويُصبح أداؤه رهين توقعات السوق أكثر منه تعبيرا عن رؤية فنية.

على سبيل المثال، نرى كيف تُفضل بعض الشركات الإنتاجية نجوما بعينهم لضمان نجاح المسلسل تجاريا، حتى لو كانت أدوارهم متكررة أو سطحية، بينما تُعارض هذه الرؤية وجهة نظر أخرى تدافع عن هذا الواقع، معتبرة أن المنافسة الرمضانية تمنح الممثل فرصة ذهبية للظهور أمام ملايين المشاهدين، وأن تحوله إلى سلعة هو جزء لا مفر منه من تطور صناعة الترفيه في عصر العولمة، وتُضيف هذه الرؤية أن الممثل نفسه قد يستفيد ماديا ومعنويا من هذا التشييء، فيرتفع أجره ويزداد حضوره الإعلامي، لكن هل تبرر هذه الفوائد التضحية بالعمق الفني؟ وهل يمكن اعتبار النجاح التجاري مقياسا كافيا لقيمة الممثل؟

◄ الممثلون يتعرضون لتلاعب المنتجين
الممثلون يتعرضون لتلاعب المنتجين

ويعد تشييء الممثل في رمضان إلى سلعة نتيجة حتمية لسيطرة المنطق الرأسمالي على الفن، كما تنبأ بذلك لوكاتش في تحليله للتشيؤ، إذ تُظهر الدراما الرمضانية كيف يتم اختزال الممثل إلى رقم في معادلة الإنتاج: عدد المشاهدين، ونسب الإعلانات، ومدى الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، ففي المغرب مثلا نلاحظ أن بعض المسلسلات تعتمد على نجوم محددين لضمان التفاعل الجماهيري، حتى لو كانت السيناريوهات ضعيفة أو الأدوار تفتقر إلى الابتكار.

وتزيد هذه الظاهرة ضغوط الإنتاج في رمضان، بينما يطالب الممثل بتصوير عشرات الحلقات في وقت قصير، ليحد من قدرته على الإبداع ويجعله أشبه بآلة تعمل بلا توقف، وتُشير هذه الديناميكية إلى أن الفن يفقد روحه عندما يصبح أداة للربح فقط، لكن المسؤولية تُلقى أيضا على الجمهور المغربي والعربي، الذي يساهم في استمرار هذا الواقع بتفضيله الأعمال الشعبية على تلك ذات المضمون العميق، فإذا كان التشيُّؤ يحرم الممثل من إنسانيته الفنية، فهل يمكن للجمهور والمنتجين معا إعادة تعريف قيمة الفن بعيدا عن منطق السوق؟ أم أن الفن أساسا تجارة والحديث عن الابداع يشبه شعار الديمقراطية بدون ديمقراطية.

وتشييء الإنسان بصفة عامة هو مفهوم فلسفي وسوسيولوجي يشير إلى تحويل الإنسان أو العلاقات الاجتماعية إلى كيانات مادية جامدة، يُفقدها طابعها الديناميكي والإنساني، ففي الفكر الماركسي كما طوره جورج لوكاتش، يظهر التشيُّؤ كنتيجة للرأسمالية، ويُختزل العامل إلى مجرد ما يمكن أغن يقدمه كطاقة تُباع وتُشترى كسلعة، وهنا أيضا ظهر مفهوم الاغتراب عند كارل ماركس، حينما يفقد الفرد اتصاله بجوهره الإنساني نتيجة تحكم العلاقات الاقتصادية.

وينتقد جان بودريار تشييء الإنسان عبر مفهوم المحاكاة، عندما تتحول الهويات البشرية في عصر الإعلام والاستهلاك إلى صور ورموز فارغة من المعنى الأصيل، فعلى سبيل المثال في المجتمعات الحديثة يمكن أن يُعامل الفرد كرقم في إحصائية أو كأداة لتحقيق أهداف مؤسساتية، وهنا ندرك كيف تتجاوز هذه الظاهرة الفن لتشمل الحياة اليومية بأكملها، فهذه النظريات تؤكد أن مبدأ  التشيُّؤ  يكشف عن تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية بسبب التدخلات السياسية الرأسمالية التي تتخذ من الديمقراطية شعارا خاصا فقط بفترة الانتخابات.

ويستغل السياسيون الرأسماليون مبدأ التشيُّؤ بذكاء، ويغلفونه بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة الاجتماعية لإضفاء شرعية زائفة على سياساتهم، فبينما يروجون لمفاهيم مثل الحرية الفردية وتكافؤ الفرص، يتم اختزال المواطنين إلى مجرد أرقام في استطلاعات الرأي أو أدوات انتخابية تُستخدم لتعزيز سلطتهم، دون معالجة جذور التفاوت الاجتماعي.

استغلال الممثل

◄ إنتاج الأعمال الدرامية في رمضان يحتكر الوجوه المعروفة ويفتقد للقيمة الفنية بينما يخضع لمنطق السوق فحسب

على سبيل المثال في النظم الرأسمالية المتقدمة تُقدم برامج الدولة الاجتماعية كشبكة أمان، لكنها غالبا تُصمم للحفاظ على استدامة النظام الاقتصادي بدلا من تمكين الفقراء فعليا، هو نفس المبدأ الذي يؤدي إلى استمرار الفقر وزيادة ثراء الأغنياء وهذا التناقض يعكس ما أشار إليه هربرت ماركوزه في نقده للمجتمعات الصناعية المتقدمة، حينما تستخدم الديمقراطية الزائفة لتجميل الاستغلال وإخفاء التشييء، فتتحول الشعارات الإنسانية إلى أدوات لتبرير التفاوت الطبقي.

بالطبع، سأضيف فقرتين موسعتين حول هذا الموضوع بناء على السياق الذي قدمته، مع التركيز على عقود عمل الممثلين المغاربة، المبالغ الورقية، ودور شركات الإنتاج في احتكار الوجوه المعروفة التي تتمتع بجمهور واسع.

وتبرز بعض التجارب في الساحة الفنية المغربية أن عقود عمل الممثلين تحمل في طياتها مبالغ ورقية لا تعكس الواقع الفعلي لما يتقاضاه الممثل من أجر، ففي كثير من الأحيان تُدرج شركات الإنتاج أرقاما ضخمة في العقود الرسمية لتبدو كأنها تدفع مبالغ كبيرة، بينما يتم الاتفاق شفهيا على أجور أقل بكثير، وهذا أساسا يخلق فجوة بين ما هو مكتوب وما يُدفع فعليا.

كما أن هذه الممارسة التي تُعتبر خرقا واضحا للشفافية، تُستخدم غالبا لأغراض مالية أو ضريبية، لتستفيد الشركات من تضخيم الأرقام لتبرير نفقاتها أمام الجهات الرقابية، بينما يبقى الممثل في وضعية ضعيفة، مضطرا لقبول هذا الواقع خوفا من فقدان الفرص، ويبرز هذا النهج بشكل خاص مع الوجوه المعروفة التي تتمتع بجماهيرية واسعة، لأن هذه الأسماء تُعتبر بمثابة عملة ذهبية تضمن نجاح العمل تجاريا، يدفع الشركات إلى استغلالها بطرق غير عادلة، محتكرة وجودها في السوق الفني لصالح مصالحها الخاصة دون مراعاة حقوق الممثلين.

تشييء الممثل في رمضان إلى سلعة هو نتيجة حتمية لسيطرة المنطق الرأسمالي على الفن والتضحية بالعمق

ويعد احتكار الوجوه المعروفة من قبل شركات الإنتاج ظاهرة تؤثر سلبا على تنوع المشهد الفني المغربي، حيث تتكرر الأسماء ذاتها في الأعمال الرمضانية وغيرها بسبب ضمانها لجذب الجمهور الواسع، وهذا الاحتكار يرتبط ارتباطا وثيقا بخروقات في عقود العمل، إذ تفرض بعض الشركات شروطا مجحفة على الممثلين المشهورين، مثل التزامات طويلة الأمد بأجور لا تتناسب مع قيمتهم السوقية الحقيقية، مستغلة حاجتهم للاستمرارية في العمل.

في الكثير من الأحيان يُوقّع ممثل ذو شعبية كبيرة على عقد يتضمن مبلغا ظاهريا مرتفعا، لكن الواقع يظهر أن جزءا كبيرا من هذا المبلغ يُقتطع تحت مسميات مختلفة (عمولات، تكاليف إنتاج، أو حتى ديون ملفقة)، تاركا الممثل مع أجر زهيد مقارنة بما يُروج له، وهذا الوضع هو استغلال للممثل من جهة، ويحد أيضا من فرص المواهب الجديدة، لأن الشركات تُفضل الاستثمار في الأسماء المضمونة تجاريا على حساب التنوع والإبداع، وهذا الخرق غير القانوني وغير الديمقراطي يزيد من سيطرة منطق السوق على الفن ويُفقد الدراما المغربية جزءا من عمقها الفني الذي يتوق إليه الجمهور.

14