الملا هبة الله أخوند زاده زعيم طالبان يقدّم حكومة تسترضي العالم وتتحداه

أخوند زاده لا يستطيع أن يخفي طبيعة طالبان كحركة متشددة تثير قلق المجتمع الدولي، وفي ذات الوقت لا يستطيع بناء نظام معزول في بلد لا يخرج منه للعالم سوى رائحتي الرصاص والأفيون.
الخميس 2021/09/09
براغماتية السياسي تحت عباءة أمير المؤمنين

شكّلت طالبان حكومتها الأولى بعد غياب طال وشغل الساحة فيه الوجود الأميركي والدولي في أفغانستان وتأسيس دولة انهارت بدقائق بعد انطلاق أولى طائرات الرحيل الدولي عن هذا البلد. لكن طالبان لم تكن غائبة تماماً، بل كانت في طور اعتبرته من جانبها طور تحوّل عسكرياً ودبلوماسيا، سيقود كما تبشّر الحركة الإسلامية المتشدّدة بأنه سيقود إلى طور سياسي ومدني.

من خلف التشكيلة الحكومية الجديدة والمثيرة يتوارى من سمّته طالبان ”أمير المؤمنين“ الملا هبة الله أخوند زاده، فهو بمثابة المرشد الذي يقدّم التصورات ويختار كبار المسؤولين، ومن بينهم كما أعلن المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد أمير خان متقي وزيراً للخارجية بالوكالة، وهداية الله بدري وزيراً للمالية بالوكالة، وسراج الدين حقاني وزيراً للداخلية بالوكالة، ومحمد يعقوب مجاهد وزيراً للدفاع بالوكالة، وعبدالحكيم شتي وزيراً للعدل بالوكالة، وعبدالحق واثق لرئاسة جهاز الاستخبارات. وبين الوزراء ثلاثة ممّن هم على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة الأميركية وأجهزتها.

رجل الدين البشتوني

قد يحتاج العالم إلى الكثير من الوقت لفك شيفرة الرجل الغامض الذي حارب السوفييت والأميركان ثم فاوضهم ودخل معهم في توافقات سرية سرعان ما تحولت الى العلن بإقرار واشنطن مغادرة قواتها لأراضي أفغانستان تاركة لحركة طالبان التي يتزعمها مقاليد الحكم.

فأخوند زاده جمع بين صلابة حاكم عسكري تحت ظل الملا عمر، ودهاء صانع توافقات في عهد الملا أختار، ومرونة مفاوض للولايات المتحدة بعد توليه زعامة طالبان.

أخوند زاده يجمع بين صلابة حاكم عسكري تحت ظل الملا عمر، ودهاء صانع توافقات في عهد الملا أختار، ومرونة مفاوض للولايات المتحدة بعد توليه زعامة طالبان

تشتهر عائلة أخوند زاده في قندهار بأنها من العوائل المتبحرة في العلوم الدينية ولها سمعة وصيت طيبان ووجاهة اجتماعية بين قبيلة ”نورزاي“ إحدى أكبر قبائل البشتون بمنطقة تخت بول، وقد ولد أخوند زاده في قرية تسمّى نخوني في السابع من يونيو 1961، وكان والده الشيخ مولوي محمد خان من القامات الفقهية والزعامات الاجتماعية في محيطه القبلي، وحمل معه تلك الهالة إلى منطقة بانجواي، حيث كان له تأثير بالغ بين طلبته ودور في تجييش السكان المحليين لمقاومة الغزو السوفييتي وللإطاحة بالنظام الشيوعي بقيادة محمد نور تراكي الذي وصل إلى السلطة في العام 1978.

 وعندما هرعت القوات الحكومية لاعتقاله وإغلاق مدرسته الدينية، فرّ إلى صحراء قندهار وبدأ بقيادة مسلحين من أنصاره واستمر في ذلك ألى أن توفّي، فاضطر ابنه هبة الله مثل الكثير من الأفغان إلى الهجرة نحو باكستان حيث قضى فترة من حياته لاجئا في مخيم “زانغال بير عليزاي”.

كان قد بدأ تعليمه الديني على يد والده، فأخذ عنه البدايات الفقهية وقواعد الأدب العربي والمعاني والأصول حتى المستوى الثاني من الفقه. وأكمل العلوم التقليدية أثناء زيارته إلى أساتذة المنطقة المشهورين مطلع تسعينات القرن العشرين.

خلال الحرب ضد السوفييت، انتمى أخوند زاده إلى الحركة الثورية الإسلامية بقيادة مولوي محمد النبي محمدي، ثم إلى الحزب الإسلامي بقيادة مولوي محمد يونس خالص. وشارك في المعارك إلى جانب الملا محمد عمر والملا أختار، حيث كان المجاهدون يطلقون على جبهاتهم ومراكزهم في المناطق الجنوبية الغربية خاصة في قندهار اسم “عتق”.

بعد سقوط النظام الشيوعي في كابول ظل أخوند زاده كغيره من أعضاء تنظيمه منخرطًا في عمله الأكاديمي والإصلاحي، بعيدا عن الخلافات والمواجهات على الرغم من أن قندهار كانت قد أصبحت ساحة معركة بسبب الصراع الطائفي، فحوّل انتباهه عن هذه الخلافات إلى عمله في الدعوة والتصحيح، وعندما ظهرت حركة طالبان بقيادة الملا عمر انضم إليها كمؤسس وكقائد ميداني، وعندما بعثت طالبان قيادة إدارية في قندهار الغربية شكلت محكمة عسكرية كان أخوند زاده من بين أعضائها.

وعندما احتل المجاهدون العاصمة كابول، تم تعيين أخوند زاده رئيسًا للمحكمة العسكرية بمرسوم خاص من الملا عمر، وبعد تجديد المحكمة العسكرية في كابول أوكلت إليه مسؤولية القضاء العسكري في المناطق الشرقية حيث عمل لمدة عامين قبل أن يعود إلى كابول بأمر من ”أمير المؤمنين“ وبقي مسؤولاً عن المحكمة العسكرية فيها حتى سقوط حكم طالبان في العام 2001.

ترتيب البيت الداخلي

التشكيلة الحكومية الجديدة والمثيرة يتوارى خلفها من سمته طالبان ”أمير المؤمنين“ أخوند زاده، بمثابة المرشد الذي يقدّم التصورات، ويختار كبار المسؤولين، ومن بينهم من هم على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة الأميركية وأجهزتها.
التشكيلة الحكومية الجديدة والمثيرة يتوارى خلفها من سمته طالبان "أمير المؤمنين" أخوند زاده، بمثابة المرشد الذي يقدّم التصورات، ويختار كبار المسؤولين، ومن بينهم من هم على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة الأميركية وأجهزتها

بعد الغزو الأميركي عام 2001  لعب أخوند زاده دورا مهما في إعادة ترتيب البيت الداخلي لحركة طالبان، وكان من الشخصيات المحورية في توجيه المقاتلين ورسم أهداف المواجهة مع التحالف الدولي، وكسب ثقة الفاعلين على جبهتي الفقه والقتال والقيادات الاجتماعية، وهو ما جعل الملا أختار الزعيم الجديد للحركة بعد وفاة الملا عمر يعينه نائبا له. في تلك الفترة، ظهرت بعض التصدعات داخل طالبان، لاسيما من خلال الخلافات حول شخصية الأمير الجديد الملا أختار، وتسبب القتال بين جماعات متنافسة داخل الحركة في سقوط عدد من القتلى، وكان دور هبة الله رأب الصدع وتقريب المسافات بين الفرقاء ولعب دور الوساطة عبر عقد المجالس مع الشخصيات الاعتبارية كالزعماء القبليين ورجال الدين الموالين للحركة، واستطاع بذلك إنقاذ طالبان من الانقسام والتفكك، وجمع حول الأمير الجديد عددا كبيرا من حكام الولايات والمسؤولين العسكريين والقيادات الميدانية وأعيان القبائل في مختلف مقاطعات أفغانستان.

لم يستمر الملا أختار طويلا في زعامة طالبان ففي الصني والعشرين من مايو 2016 أعلن عن مقتله في غارة أميركية بطائرة دون طيار بالقرب من مدينة كويتا في مقاطعة بلوشستان، حسب ما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية.

بعد أربعة أيام تولى أخوند زاده زعامة طالبان بقرار من مجلس شورى الحركة، ويبدو أنه عزم منذ الأسابيع الأولى على أن يقوم بدور مختلف، وأن يمارس براغماتية سياسية تقود طالبان إلى طاولة المفاوضات، فبعد شهرين ونيف، وتحديدا في الثلاثين من يوليو 2016 قال في واحد من أول تصريحاته العلنية إن التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الأفغانية ممكن إذا تخلّت عن حلفائها الأجانب. وخاطب مسؤولي النظام قائلاً “دعمكم وانحيازكم إلى الغزاة مثل عمل تلك الوجوه البغيضة التي دعمت في الماضي البريطانيين والسوفييت“، مبرزا أن حركته لديها برنامج لتوحيد البلاد في ظل الشريعة الإسلامية وأن “أبواب العفو والتسامح مفتوحة”.

الدول وداعش والقاعدة

فرع تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية يتمسك بوثيقة أصدرها قبل خمس سنوات حدد فيها أيديولوجيته وأولوياته. وأوضح أنه ملزم بمبايعة زعيم القاعدة أيمن الظواهري لأخوند زاده، وأن “الهدف الأهم” للقاعدة هو دعم طالبان

الجغرافيا السياسية لها تأثيرها البالغ في أفغانستان، والقوات الأميركية كانت موجودة في محيط يعتبر معاديا لها، فلا الصين ولا روسيا ولا إيران ولا باكستان مرتاحة لبقاء تلك القوات، ولاسيما روسيا والصين اللتين فتحتا باب التواصل والتفاهم مع الزعيم الجديد، وباتت إيران ترى فيه حليفا ممكنا للمستقبل، فطالبان أصبحت قابلة للتجاوب مع معطيات السياسة بأبعادها الاستراتيجية، وهي في الأخير تعبير عن خصوصية اجتماعية وثقافية محلية في ما ينافسها على الأرض تنظيم داعش الذي يسعى الى استهداف الجميع دون أيّ انتماء فعليّ إلى الأرض التي يتحرك عليها.

قبل خمس سنوات أصدر أخوند زاده بيانا اهتم فيه بالبيئة والمحيط، كإشارة منه الى إمكانية أن يكون رجل دولة يفكّر بمنطق المصلحة الوطنية بعيدا عن أزيز الرصاص والصراعات الدموية، دعا فيه الأفغان إلى زراعة الأشجار في بلادهم، وسلّط الضوء على أهمية ذلك في الشريعة الإسلامية.

وبعد أقل من شهر نشر تنظيم داعش شريطا دعائيا مصورا بعنوان “على أبواب المعارك الملحمية”، وصف فيه أخوند زاده بأنه “طاغية طالبان”، ثم أصدر فرع تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية وثيقة بعنوان “مدونة السلوك” حدد فيها أيديولوجيته وأولوياته. وأوضح أنه ملزم بمبايعة زعيم القاعدة أيمن الظواهري لأخوند زاده، وأن “الهدف الأهم” للقاعدة هو دعم طالبان. كما ذكرت الوثيقة أن القاعدة في بلاد الرافدين تقاتل أعداء طالبان خارج أفغانستان بينما تقاتل في الوقت نفسه إلى جانبها داخل البلاد، وحثت الجماعات الجهادية الأخرى على مبايعة أخوند زاده.

أظهر أخوند زاده مرونة في التعامل مع السلطة، فقد دفع بالحركة في التاسع من يونيو 2018، إلى الموافقة على وقف مؤقت لإطلاق النار مع الحكومة الأفغانية بعد أن أعلن الرئيس أشرف غني في وقت سابق وقف إطلاق النار مع الجماعة المسلحة، وكانت تلك الخطوة مؤشرا على تحول واضح في رؤية طالبان أردفها زعيمها بعرضه بمناسبة عيد الأضحى إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة في محاولة لإنهاء الصراع الدائر في أفغانستان قال فيه “إذا كان المسؤولون الأميركيون يؤمنون حقًا بالنهاية السلمية للوضع الأفغاني المعقد، فعليهم أن يحضروا بأنفسهم مباشرة إلى طاولة المفاوضات حتى يمكن حل هذه المأساة التي تضر آثارها المدمرة بشكل أساسي بالشعبين الأميركي والأفغاني“.

تلك الرسائل تزامنت مع تحركات للتفاوض مع الإدارة الأميركية لعبت فيها الدوحة دور الوسيط، وكان ذلك مؤشرا آخر على النشاط الوظيفي لقطر كبوابة تواصل بين واشنطن والحركات الجهادية وكضامنة لتيارات الإسلام السياسي بجميع مكوناتها وتفرّعاتها. لم تقطع الدوحة يوما علاقاتها مع طالبان وعندما جاءت اللحظة المناسبة جمعت طرفي النزاع على أراضيها في مفاوضات تواصلت لأكثر من عامين، وانتهت باتفاق سلام تاريخي بين الولايات المتحدة وطالبان تم التوقيع عليه في التاسع والعشرين من فبراير 2020 ووصفه أخوند زاده بأنه “انتصار كبير” للحركة.

كان الاتفاق مع الولايات المتحدة قد تم في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وكانت هناك خشية من أن يتنكر لها الرئيس جو بادين بعد وصوله إلى سدة الحكم، لكن بعد ساعات من التغيير في البيت الأبيض، أبلغ مستشار الأمن القومي جيك سوليفان نظيره الأفغاني أن الولايات المتحدة ستراجع اتفاقية السلام المبرمة مع حركة طالبان على أساس تقييم “ما إذا كانت طالبان تفي بالتزاماتها بقطع العلاقات مع الجماعات الإرهابية والحد من العنف في أفغانستان والدخول في مفاوضات هادفة مع الحكومة الأفغانية وأصحاب المصلحة الآخرين”، فيما طلب  الرئيس الأفغاني غني من بايدن عدم التسرع في انسحاب كامل، معرباً عن أمله في أن يزيد الضغط على طالبان لكي تقدم تنازلات في محادثات السلام.

[ أخوند زاده يتمتع بدور مهم ومؤثر داخل طالبان، وقد أسهم في إعادة ترتيب البيت الداخلي لحركة طالبان ورسم أهداف المواجهة مع التحالف الدولي، ما جعل الملا أختار، الزعيم الجديد للحركة بعد وفاة الملا عمر، يعينه نائبا له.
أخوند زاده يتمتع بدور مهم ومؤثر داخل طالبان، وقد أسهم في إعادة ترتيب البيت الداخلي لحركة طالبان ورسم أهداف المواجهة مع التحالف الدولي، ما جعل الملا أختار، الزعيم الجديد للحركة بعد وفاة الملا عمر، يعينه نائبا له

كان التحدي الأكبر أمام زعيم طالبان هو كيف يحقق هدف الحركة بالسيطرة على افغانستان وتولي الحكم وفق النموذج الذي تتبناه كإمارة إسلامية بتوافقات قبلية، وكيف تستطيع التوفيق بين ذلك وبين الانفتاح على العالم، وإيجاد شركاء دوليين يعترفون بالنظام ويساعدونه على تكريس سلطته وتجاوز الأوضاع المعيشية الصعبة لأغلبية السكان.

لا يستطيع الرجل أن يخفي طبيعة طالبان كحركة متشددة تثير قلق المجتمع الدولي، وفي ذات الوقت لا يستطيع بناء نظام معزول في بلد لا يخرج منه للعالم سوى رائحتي الرصاص والأفيون، يمكن أن يكون حاضنة لإرهابيي العالم بما قد يكلفه ذات ما كلفه في 2001.

أعلن أخوند زاده أن الحركة تريد إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياسية جيدة مع جميع دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة ، وأكد أن الحركة تدعم تسوية سياسية لحل الصراع رغم التقدم العسكري والانتصارات التي تحققت حتى الآن، وأنها عازمة على التوصل إلى حل عبر المفاوضات، وشدد على أنه في حال إقامة إمارة إسلامية في البلاد، فلن تسمح أفغانستان لأيّ طرف بتهديد أمن أيّ دولة أخرى من أراضيها، كانت تلك الرسالة مضمونة الوصول إلى المجتمع الدولي بأن زمن احتضان الإرهاب والحركات الجهادية العابرة للحدود بما فيها تنظيم القاعدة قد انتهى، وفي الخامس عشر من أغسطس 2021 فرضت الحركة سيطرة كاملة على العاصمة كابول بعد نحو عشرين عاما من دحر القوات الأميركية لها.

اليوم يتزعم الملا هبة الله أخوند زاده طالبان العائدة إلى الحكم بمساعدة عدد من النواب من بينهم الملا عبدالغني برادر وسراج الدين حقاني والملا عبدالقيوم ذاكر والملا عبدالكبير، والملا عبدالرؤوف وأمير خان متقي والملا محمد يعقوب الابن الأكبر للملا عمر، ويقال إنه نجح بواقعية سياسية دون أن ينزع عنه عباءة أمير المؤمنين، لكنه سيحتاج كثيرا إلى احتواء التباينات داخل الحركة بين التيارين المتشدد والمنفتح، والتناقضات داخل المجتمع بين التواقين إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين المتمسكين بثقافة القبيلة التي اتسعت رقعة تأثيرها الاجتماعي منذ أن تزاوجت مع الخطاب الديني المتشدد بداية من ثمانينات القرن الماضي.

12