المقاربة الثقافية والنسوية تكشف طرق بناء النصوص المسرحية

آمنة الربيع تقرأ تجربة العماني سماء عيسى والكويتية سعداء الدعاس.
الأربعاء 2025/01/15
آمنة الربيع: النقد المعاصر متحرر من سجن المناهج السياقية

تواصل الباحثة والأكاديمية العمانية آمنة الربيع البحث في أعماق الخطاب المسرحي المعاصر من خلال مقاربات هامة لا تتوقف عند حدود العرض، وإنما تذهب إلى استجلاء النص وفق أدوات فكرية ونقدية تبين طرق بناء العمل المسرحي منذ منطلقه نصا، وهذا ما يتجسد في كتابها الجديد.

انشغلت المسرحية والناقدة الأكاديمية العمانية د. آمنة الربيع بالنقد عامة والتحولات الفلسفية والمعرفية والنقد المسرحي خاصة، حيث كتبت وما زالت، ونشرت العشرات من المقالات والأبحاث. وبين إصدار كتابها الأول “ما يوقظ القلب: في السرد والنقد والثقافة” 2008، ومرورا بكتب “مغامرة النص المسرحي في عُمان”، و”اِرمِ بمعطفك فوق الكرسي” الذي حوى مجموعة من المقالات والدراسات في المسرح”، وغيرهما، وانتهاء بكتاب “قراءة المسرح.. مقاربتان ثقافيتان في النص الدرامي” قدمت مشروعا بحثيا رائدا.

وقد صدر كتابها “قراءة المسرح.. مقاربتان ثقافيتان في النص الدرامي” أخيرا عن الهيئة العربية للمسرح متزامنا مع انطلاق فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الـ15، والذي يأتي كامتداد لما شغلها من اهتمامات وقراءات واهتمام وشغف بالمعرفة والتفكير بالسؤال حول المسرح.

المقاربة الثقافية

تقول الربيع “بدأت التفكير في تأليف كتاب في إطار أخذ يتشكل منذ عام 2019، عندما قدم د. محمد الشحات، (أستاذ النقد ونظرية الأدب بجامعة الشرقية، سلطنة عمان)، إلى مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء تصورا جادا بإقامة ورشة عمل مكثفة بعنوان ‘أدوات الناقد الأدبي؛ المعرفة والممارسة’، ونفذتها الجمعية في مقرها آنذاك. ويُحدد عنوان الكتاب هنا انتماءه إلى ما أسفر عنه النقد الحداثي وما بعد الحداثي من مقاربات ثقافية وأدوات إجرائية في تحليل النص الإبداعي؛ سواء أكان النص كتابا مقروءا أو عملا مرئيا.”

◙ كتاب يمثل امتدادا لما شغل الربيع من اهتمامات وقراءات واهتمام وشغف بالمعرفة والتفكير بالسؤال حول المسرح

وتوضح أن النظرية الأدبية والنقدية المعاصرة للناقد أبانت عن وجود قراءات وممارسات حرة “للأفكار والثيمات والبنى ولعب طليق بالدوال والمدلولات.” وإن من خصائص تلك القراءات والممارسات هو انطلاقها في فضاء حر من الأسئلة يطرحها الباحث في النقد حول النص موضوع المقاربة النقدية التي يتوخاها.

وتنبع قيمة النصوص الدرامية، في رأيها، من قدرتها على التفاعل مع النصوص التي سبقتها، وهذا ما يسمح للباحث في النقد المعاصر بالتحرر من سجن المناهج السياقية. وفي هذا الإطار يحاول الكتاب الانفتاح على النص المسرحي الإبداعي، منطلقا من مقاربتين متباينتين ينطلقان من جذر واحد هو ما بعد الحداثة، والمقاربتين هما؛ المقاربة “الثقافية”، والمقاربة “النسوية”، وذلك للوقوف على القضايا الفكرية والفنية في تجربتين مسرحيتين عربيتين، والنظر في آلية الاشتغال الجمالي لكل تجربة على انفراد.

وتؤكد الربيع أن المقاربتين الثقافية والنسوية هما “تشكل ثقافي أفرزته ممارسات نقدية رائدة في الفكر الإنساني (دريدا) وواحدة من منجزات المرحلة البنيوية وما بعدها، فالدراسات الثقافية تتحرك في خلفية فضاء الإنتاج المعرفي النظري والنقدي المُنجز لـ’ما بعد البنيوي’، وأسسها الناجزة للنص تتميز بخصائص أشبه بالمانفستو، وتلك الخصائص – وفق جاك دريدا – هي ‘اللايقين، والتشظي، ولامركزية الدلالة، والنسبية’. أما المقاربة النسوية، فهي توجه غربي ظهر في ستينات القرن الماضي تزعمته بعض المبدعات والباحثات والأكاديميات طالبن فيه بتحرير المرأة الغربية، ومنحها حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية من ميراث كتبه الرجل.” وتضيف “من هذا المنطلق انتخبت تجربتين مسرحيتين هما: تجربة الأديب العماني الشاعر سماء عيسى، وتجربة الكاتبة المخرجة الكويتية سعداء الدعاس.”

وفي إطار مقاربتها الثقافية وفاعلية المصاحبات النصية لدى سماء عيسى، تلفت الربيع أولا إلى أن سماء عيسى يشتغل ضمن مساحات حرة للإبداع، فهو من رواد قصيدة النثر في عُمان، إضافة إلى ذلك، فهو قاص ومسرحي وسينمائي له مشاركات سينمائية سواء في التمثيل، أو في كتابة السيناريو، حيث يتنقل بين هذه الأجناس الإبداعية انتصارا لاشتباك المبدع مع النوع الأدبي مُسجلا بذلك حيوية في سيرورة المشهد الثقافي المحلي، وتجربة إبداعية عمانية عربية متميزة.

 وقد تنوعت التجربة الإبداعية لعيسى تنوعا يعد هو الأظهر في الاشتغال بالمشهد الثقافي في عمان. وتبدى ذلك على المستويين؛ الكمي والنوعي. صدر له في المسرح “لا شيء يوقف الكارثة”، “صوت سُمع في الرامة” 2015، “قط بريجت باردو” 2020، “زيارة ماما لوسي” 2022. وارتكزت الكتابة الدرامية عند سماء عيسى على أربع ركائز هي: الميثولوجيا والتاريخ والواقع والذاكرة.

◙ الكتاب ينفتح على النص المسرحي الإبداعي منطلقا من مقاربتين متباينتين تنطلقان من جذر واحد هو ما بعد الحداثة

وتقول “تناولت نصين دراميين لعيسى هما: ‘صوتٌ سُمع في الرامة’، و’لا شيء يوقف الكارثة’، اشتغلت فيهما بالبحث عن تعددية المرجعيات لدى المؤلف. ركزت في المقاربة الثقافية على تناول العناصر التي تُشكل مدخلا بيداغوجيا لقراءة النص الأدبي، أو ما يُعرف بالعتبات النصية. فالنص لا يولد من فراغ، ولا يتجه إلى فراغ، حيث يؤلفه كاتب يعيش ضمن مجتمع يتفاعل معه على نحو ما تفاعلا اجتماعيا وسياسيا ومعرفيا.”

وتلفت إلى أن هذه العتبات أو المتعاليات النصية كما أسماها جيرار جينيت وظيفتها فك شفرات النص، بحيث يستطيع القارئ التفاعل مع المتن قراءة أو تفسيرا أو تأويلا. والاشتغال على العتبات يُعد مفتاحا لفتح مغاليق أي نص من الداخل بوجه عام. إن ما يُحيط بالعتبات هو التالي: الكتاب والجنس الأدبي الذي يُحدد هويته كنص مسرحي درامي واسم الكاتب وعنوان النص والعناوين الفرعية المصاحبة أو المُكملة للعنوان الرئيس، وحجم الخط الذي كُتب به والتحرير الطباعي. بالإضافة إلى ذلك غلاف الكتاب من الأمام ومن الخلف، واللوحة التشكيلية إن تضمنها الغلاف،

ثم تصدير الكتاب بمقدمة، وتلي ذلك كلمة الإهداء، وكلمة الناشر فلا يمكن “قراءة النص بمعزل عن مصاحباته النصية، وذلك للوصول إلى تحليل فضاء النص ذاته، والكشف عن بناه الصريحة والمضمرة، ورصد وظائفه ومرجعياته، والوقوف على أدواته وجماليات تشكله.”

وتخلص الربيع بعد قراءة نصي عيسى الدراميين “صوت سُمع في الرامة، ولا شيء يوقف الكارثة” إلى جملة استنتاجات، منها: أن عيسى يكتب نصه الدرامي “صوت سُمع في الرامة” بلغة مكثفة شديدة الحساسية للكتابة المسرحية الجديدة، ونجد أن النص الدرامي لديه يتحرك في مساحات ثقافية متعددة، يُشكلها حس مأساوي بالحياة يتجسد في اللغة والإحالات التاريخية والأسطورية.

الرؤية النسوية

المقاربة الثانية النسوية “هاملتهُن”؛ جاءت في مسألة الكتابة على الكتابة، تقول الربيع “تباينت تجربة الكاتبة المخرجة سعداء الدعاس بين مسارات منوعة، فهي أستاذة النقد والأدب المسرحي وفن الكتابة في المعهد العالي للفنون المسرحية. تكتب الرواية والقصة القصيرة، ومُعدة برامج تلفزيونية.”

وتضيف “تنطلق الدعاس في مقاربتها النسوية في النص الدرامي ‘هاملتهن’ من عدة تساؤلات منها: إلى أي حد استطاعت المرأة في مجتمعات الخليج الاشتباك مع تجليات أفكار الدراما النسوية وخطاباتها الفكرية والإبداعية والنقدية؟ وكيف عبرت عن ذلك الاشتباك؟ وما هي مرتكزاته الخاصة وما معاييره، إن وجدت؟ وما الموقع الجمالي الذي يُمكنه أن يُدلل على اتصال الجمالي بالمرجع (الاجتماعي والثقافي والسياسي) في المجتمع؟ وفي حال توافر ذلك الاتصال هل يمكننا القول إن النص الدرامي (هاملتهن) كان يراهن على قدرات الخشبة وجسد الممثلة وتقنية المسرح داخل المسرح وتأثيث الفضاء السينوغرافي أكثر من الرهان على فعل الكتابة على الكتابة؟”

◙ قراءة النص غير ممكنة بمعزل عن مصاحباته النصية، وذلك للوصول إلى تحليل فضاء النص والكشف عن بناه

وتتابع “إن الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب عملا كبيرا وجهدا نوعيا ينطلق من أركيولوجيا تتتبع رصد المبدعة الخليجية؛ كاتبة مسرحية أو مخرجة أو ممثلة أو باحثة. ثمة كاتبات خليجيات يسعين من خلال كتابتهن لتمثل بعض تجليات التيارات الفكرية الكلاسيكية والتعبيرية والرمزية واللامعقول والاجتماعية، والحداثية وما بعد الحداثية. في سعيهن ينطلقن من ثلاثة منطلقات.”

وتواصل “الأول: إما من المرجع الثقافي الأسطوري والتاريخي والاجتماعي، وما تفجره لديهن المرجعيات من أفكار وأسئلة. الثاني: يكتفين بمناوشة السياسي المعاصر والثقافي، عبر ثيمة التراث المحلي القريب، ليشكل غلالة أو ستارة أو صندوقا يلقى

فيه بمخزون التراث وحمولته الثقافية. الثالث: يسعين إلى التاريخ الثقافي الإبداعي الحضاري البعيد، يتواصلن معه ويسائلنه ويتحاورن، كما فعلت الكاتبة/ المخرجة سعداء الدعاس في مسرحيتها ‘هاملتهُن’ حيث تناولت إحدى أروع مآسي كلاسيكيات التراث الإبداعي من الريبيرتوار الشكسبيري؛ مأساة هاملت، فلماذا اكتفى هاملتهُن بإعادة كلام الشخصيتين التاريخيتين؟”

أيضا في مقاربتها النسوية تساءلت الربيع: ماذا تعني إعادة كتابة نص درامي جديد انطلاقا من نص درامي قديم غائر في القدامة ومحمول بحمولة تاريخية وثقافية واجتماعية لعصره، يفصلنا عنه ما يقارب النصف قرن من الزمان؟ لماذا اكتفى “هاملتهُن” بإعادة كلام الشخصيتين الشكسبيريتين التاريخيتين غيرتورد وأوفيليا؟ هل يضمر في العمق خطابا يسعى إلى إنتاج جمالية جديدة؟ وكيف؟

وتوضح أن البحث عن موقع الكاتبة/ المخرجة في سياق المقاربة النسوية والوظيفية يحيلنا مباشرة إلى تطويع النص الدرامي لسلطة المخرج. سيتحدد الموقع في مستويات ثلاثة هي: أولا الكاتبة، ثانيا الدراماتورج، ثالثا المخرجة. إن المقاربة النسوية تتوسل بتجليات المسرح النسوي، منطلقة من مرتكزات واضحة لنا، عبر تفكيك تراتبية السلطة المضمرة في ثنائيات: نص/ عرض، كاتبة/ مخرجة.

وتخلص الربيع من خلال المقاربة إلى جملة من الاستنتاجات منها: أولا يدفع النص الدرامي “هاملتهن” إلى نزع القدسية عن هاملت لمؤلفه ويليام شكسبير، ويراهن رهانا واضحا على وظيفة المخرجة كذات مبدعة للنص الدرامي. إن مفهوم الكتابة على الكتابة يتنزل في “هاملتهن” ليخوض مغامرة في التجريب من حيث هو إقامة دائمة في السؤال، ورهان على تطور الإبداع.

13