المفكر الفرنسي آلان باديو: تحت الاسم بالغ الغموض لـ"مايو 68" تكمن كثرة متنافرة

بعد أكثر من نصف قرن، لا يزال الفرنسيون منقسمين حول أحداث مايو 68، تلك التي اندلعت في الثاني والعشرين من مارس 1968 في جامعة نانتير، ثم امتد شرارها إلى الحيّ اللاتيني ولاسيما السوربون، وإلى النقابات العمالية، وبلغت ذروتها يوم الثالث عشر من مايو بإعلان إضراب عام شلّ البلاد كلها، هناك من رأى في تلك الأحداث هبة فوضوية هاذية، اكتفت بتحطيم جانب هام من القيم المؤسسة للمجتمع الغربي، دون أن تطرح البديل. وفريق رأى فيها ثورة عفوية ذات طابع ثقافي واجتماعي وسياسي ضد السلطة بكل أشكالها، وللمفكر الفرنسي آلان باديو مقاربة أكثر شمولية للحدث الذي يفككه في كتاب كامل بعنوان “لغز مايو 1968.. لنا الحق في التمرد”.
صدر كتاب “لغز مايو 1968.. لنا الحق في التمرد” للمفكر اليساري الفرنسي آلان باديو في الأصل عام 2018 كمحاولة للتفكير في معنى انتفاضة 1968 في فرنسا بعد خمسين عاما على انفجارها، حيث طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة تلك الانتفاضة محاولا تحليلها والغوص في معانيها، كما جادل بأن تلك الانتفاضة كانت أكثر من انتفاضة على أكثر من مستوى، تتقاطع أحيانا وتتعارض أحيانا أخرى، مؤكدا أن مايو 68، مع كل ما انفتح عليه خلال ما يقارب عشرين عاما، هو حدث ذو تعقيد بالغ.
ويضيف باديو في كتابه الذي ترجمه أخيرا أحمد حسان وصدر عن دار صفصافة، أنه من المستحيل إعطاء صورة موحدة ومريحة لـ“مايو 68”. برهانا على أن اسما سياسيّا، من قبيل “الثورة الفرنسية”، أو “كوميونة باريس”، أو “الثورة الثقافية”، أو “الأيام الثلاثة المجيدة”، لم يمكن الإشارة إليه به، خصوصا أنه لم يقدم للتاريخ أسماء أعلام بارزين، زعماء أو أبطالا. يظل مايو 68 لغزا من نواح عدة. وأود هنا أن أقنع قارئي أن هذا اللغز يرجع إلى أنه، تحت الاسم البالغ الغموض لـ”مايو 68”، تكمن كثرة متنافرة.
كورس بوليفوني

يرى باديو أنه قد وُجد في وقت واحد ثلاثة “مايو 68” مختلفين، مؤكدا أن قوةُ، خصوصيةُ، مايو 68، هي أنه ضَفَر، زاوجَ، راكَب بين ثلاث سيرورات بالغة التنافر في النهاية. لنُسمِّها على الفور: أولا مايو 68 الطلاب والتلاميذ، ثانيا مايو 68 العمّالي، ثالثا مايو 68 الليبرتاري. وإذا كانت مُحصِّلات هذا الحدث بالغة الاختلاف، فذلك لأن المرء يتمسك عموما بواحد من الجوانب وليس بالإجمالي المعقّد الذي صنع طبيعتَه التاريخية الحقة.
ويوضح باديو “سنُعاوِدُ إذا التحدُّثَ قليلا في كل مكان عن مايو 68، مُستَعينينَ برمزيةِ نصفِ قرن. سنرى كيف تأخذُ مكانَ الصدارة، على رأس مقالاتِ الاحتفالاتِ السنوية، الفكرةُ الغامضة عن مايو 68 بوصفه مهرجانا شبه تمرُّدي لأخلاقيات جديدة ضد العالم القديم، بوصفه مَقدِما للنزعة النسوية، بوصفه إنتاجا تمهيديّا لحركة LGBT، بوصفه وداعا غَسَقيّا للطبقة العاملة، بوصفه آخر اليوتوبيات، بوصفه تحرُّرا جنسيًا، بوصفه تاريخا نرقُصه على أنغام موسيقى الروك، بوصفه تقديما أعمى لليسار في السلطة في انتخابات عام 1981، بوصفه ألعابا نارية نقابية قبل خمودِ النيران، بوصفه أناركية مُلونة بالأحمر”.
متابعا “بوصفه تمردا مناهضا للسلطة، بوصفه محصّلة لمشاجرات تافهة، بوصفه جودار وهو يصنع سينماه في الشارع، بوصفه مُزحة لماو أخذها على محمل الجدِّ بعضُ المثقفين المُغتبِطين، بوصفه ثورة ثقافية بالصلصةِ الغربية الناعمة، بوصفه ذريعة لخلق ألفِ شرذمة متورِّمة، بوصفه احتلالًا للجامعات من أجل تعميم الاحتلالات، بوصفه الذروة النقدية للثلاثينية المجيدة، بوصفه ذكرى مستقبلية للعجائز الحُمر المُعتزِلين، بوصفه ثورة بروليتارية دون بروليتاريين ولا ثورة، بوصفه منفذا للمراهقين القادمين من ازدهار المواليد بعد الحرب، بوصفه واقعَ الموضة بين الشَّعر الطويل والتنورات القصيرة ‘الميني جيب’، بوصفه إدماجا للطبقة العاملة في مجتمع الاستهلاك، بوصفه رفضا لمجتمع الاستهلاك من جانب المستهلكين، بوصفه استنفادا بالأعلام الحمراء للاستهلاك التجاري، بوصفه استدارة للعبور من بنيوية ألتوسير إلى حيوية دولوز، بوصفه خلقا مُجهَضا لشيوعية جديدة، بوصفه حكاية لصينية، أو لصيني، بوصفه بدايةَ النهايةِ للحرب الباردة، إلى آخره..”.
ويضيف “يمكن فهمُ تلك التلاوين المتنافرة. أولا لأن حقيقةَ مايو 68 لا يمكن قراءتُها في مايو. في يونيو، كانت أضخمُ مظاهرة، عدديّا، في تتابُع المظاهرات، هي مظاهرة البرجوازية المذعورة، تحت قوس النصر، التي يُلوِّح على رأسها أندريه مالرو مُخدَّرا. أن ديجول ذهبَ إلى ألمانيا ليرى إن كان الجيشُ الفرنسي سيظل الركيزةَ الأبدية للدول الطبقية. وأنه، وسط وطءِ الأقدام، أعادت أغلبيةٌ انتخابية ساحقةٌ اليمينَ إلى سِرج القيادة، مُشيرة بذلك إلى أن هوية مايو 68، في نظرها، تُعدُّ اختلالا مُوجِعا جدّا. إن حقيقة مايو 68، بمعنى حتى مجرَّد الوصف البسيط لتفرُّده، ليست ممكنة إلّا إذا وضعنا في الاعتبار أعقابَه المباشرة من جهة السنوات العشر التي تلته وتعقيدَه الداخلي من جهة أخرى. لأن مايو 68 هو بالأحرى كورَسٌ بوليفوني ‘متعدد الأصوات’ متنافرٌ غالبا أكثر من كونه فرقة متناغمة من العازفين”.
التغيير من أسفل
يشير باديو إلى أنه خلال مايو ذاته، ظل القاموس السياسي تقليديّا إلى حدّ كبير، حتى لو كانت تزيِّنه بعض الاكتشافاتِ، الفاتنةِ أكثر من كونها ملحمية، من قبيل “تحت أحجار الرصف، الشاطئ” أو “لندع الخوفَ من الأحمر للوحوش ذات القرون”. كانت الموتيفة العامة للـ”ثورة” تُمارَسُ هي ذاتها كمكان مشترك دون محتوى حقيقي يمكن بلوغه، ودون فعل رمزي يمكنه، ولو من بعيد جدًّا، أن يُذَكِّر بالهجوم ضد التويلري أو الاستيلاء على قصر الشتاء.
ويضيف “أنا نفسي، أذهلني أن أرى مظاهرات بالغة الأهمية، في المدينة الإقليمية التي كنت أسكنها وأُدرِّس فيها حينها، تمرُّ دون خوف أمام قسم شرطة مُجرَّد تماما من الدفاع البوليسي حيث كان كلُّ الجهاز القمعي متركّزا على باريس دون أن تبدو أدنى نية للاستيلاء عليه. وأنا نفسي، في دهشتي التي لم تخطر على بالِ أحد، حلمتُ بذلك الهجوم، لكنني في الحقيقة لم أحلم بذلك بجدية أكبر لأنني لم أفعل شيئا لإعداده أو حتى للدفاع علنا، أمام الجمعيات العامة التي لا تُحصى لتلك الفترة، عن فرصة القيام به”.
مايو 68 هو بالأحرى كورَسٌ بوليفوني "متعدد الأصوات" متنافرٌ غالبا أكثر من كونه فرقة متناغمة من العازفين
ومن جهة أخرى، يقر أن المسألة كانت بداهة مسألةَ “نضال”؛ “معركة”، وعلى المقياس السلبي، كان ثمة أيضا رفضٌ واضحٌ للشكل البرلماني للدولة، تبدّى منذ أن تلقّى جزءٌ كبير من الحركة في يونيو إعلانَ الاستفتاءِ بصياح مُدوٍّ، أظهر كلُّ المستقبل معناه الحقيقي، معنى “الانتخابات، فخُّ الحمقى”. لكن ذلك كله لم يُشكِّل أي رؤية جديدة للسياسة. لم يوجد في ذلك سوى أشكال جنينية لنفي الأشكال القائمة، وبصورة فريدة أحزاب يسار، بما في ذلك الشيوعيون، كان واضحا تماما أن الحركة تزعجهم إلى حدِّ أنها لم تحرِّك فيهم ولو إحساسا غامضا بالرضى.
ويتابع “يمكنني القول عن طيبِ خاطر، ضد القول المأثور لميلنر، إن مايو 68 وتوابعه أشارت إلى انفصام التمرد والفكر. فهمتُ في نهاية المطاف أن المشكلة السياسية لم تكن مشكلةَ حركة بهيجة وواسعة ضد القصور الذاتي للدولة، بل مشكلةَ تنظيم يجب ابتكاره، ضد شكل الحزب من طراز الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يعد له وريث”.
ويرى أن مايو 68 يشير في آن واحد إلى نهاية الشكل الرخو والشرس لـ”حزب الطبقة العاملة” وإلى بدء لغز مازال يعمل، ويمكن صياغته ببساطة: إذا كان حقيقيّا أن من لا يملكون شيئا على الإطلاق لا نقود، ولا أسلحة، ولا سلطة، ولا أدوات دعاية ليست لديهم من قوة سوى قوة اتحادهم وانضباطهم، وإذا كان حقيقيا أيضا أن الشكل المركزي والعسكري الطابع للحزب الستاليني قد أظهر حدوده، فبأي انضباط جديد، بأي وحدة قادمة يجب إذًا دعمُ الفعل الشعبي؟ وبصورة أعمّ، ما هي السياسة الحقيقية، تلك التي تستهدف، كما يُنشِد نشيدُ الأممية، أن “يتغير العالم من أسفل” وأن يصبح من ليسوا شيئا كلَّ شيء؟
الحق في التمرد
يتحدث باديو عن مايو 68 ثان، مختلفٌ تماما، ويقول “هو أضخمُ إضراب عام في كلّ التاريخ الفرنسي. هنا يكمنُ مُكَوِّنٌ بالغ الأهمية. من جوانب عديدة يُعدُّ هذا الإضراب العام كلاسيكيا بشكل كبير وعادة ما ستجري مقارنتُه بالانتفاضة العمالية لعام 1936، بلحظة إقامة حكومة الجبهة الشعبية. ستتم من البداية بَنْيَنتُه حول المصانع الكبرى والشركات المؤمَّمة ــ السيارات، ومصانع الصلب، والكيمياء، ومعامل تكرير البترول، والسكك الحديدية… وفيما وراء الوقائعِ الاستهلالية، التي سأعود إليها، سيكون الإضرابُ من الناحية الأساسية مُبَنْيَنا ومُسيَّرا من جانب النقابات، وبصورة فريدة من جانب النقابة العامة للشغل CGT، التي كانت لا تزال بكاملها تحت سيطرة الحزب الشيوعي الفرنسي PCF. وسيكون امتدادُ الحركة بوجه خاص إلى الشركات المتوسطة والصغيرة موضعَ «تشجيع» كبير من فِرَق إقناع نقابية.
ويلفت إلى أن هذا الإضراب، في اتساعه وديمومته، في هيئته المتوسطة، يتموضعُ تاريخيا ضمن سياق بالغ الاختلاف عن تمرد الشباب، الذي سيحاولُ الحزبُ الشيوعي، وسنرى أن هذه النقطة تتمتع بأكبر أهمية ، عزلَه بجدران حقيقية. ينتمي الإضراب إلى سياق يمكنني القول إنه يساريٌ على نحو كلاسيكي، بالمعنى الذي كان به الحزب الشيوعي، في تلك الفترة، دون أدنى شك مُكوِّنُ هذا اليسار الأكثر حضورا في الوسط العمّالي.
ويلاحظ أن هذا الإضراب يستمدُّ الحيوية بشكل مكافئ من عناصرِ راديكالية تجديدية، هي أربعةٌ بالعدد: أولا، كان شنُّ الإضراب وسيره خارجا إلى حد كبير عن المؤسسات العمالية الرسمية. ففي أغلب الحالات كانت مجموعاتٌ من العمال الشباب هي التي أطلقت الحركة خارج المنظمات النقابية الكبرى، التي انضمت إليها على الفور، جزئيا لتكون في موضع التحكّم فيها.

ثمة إذن، في مايو 68 العمالي هذا، عنصرُ تمرد كامن، هو أيضا، في الشباب. وقد مارس هؤلاء العمالُ الشباب ما أُطلق عليه غالبا “إضرابات وحشية”، لتمييزها عن الأيام النقابية التقليدية الكبرى. ولنلاحظ أن هذه الإضرابات الوحشية بدأت منذ عام 1967، في نورماندي بالتحديد، ومن ثم لم يكن مايو 68 العمالي مجرد تأثير لمايو 68 الطلابي، بل إنه قد استبقه. هذه الرابطة الزمنية والتاريخية بين حركة الشباب المتعلم وبين حركة العمال هي رابطةٌ خاصة تماما.
ثانيا عنصر راديكالية آخر: هو الاستخدام المنهجي لاحتلال المصانع. بديهيٌ أنه ميراث من الإضرابات الكبرى لعام 1936 أو عام 1947، لكنه أكثر تعميما. فمجمل المصانع تقريبا مُحتَلَّةٌ وتكسوها الأعلام الحمراء. إنها لصورةٌ رائعة! لكن يجب هنا تذكُّر أن المباني الجامعية كانت أيضا محتلَّة، وتكسوها الملصقات، واللافتات، والأعلام. يجب رؤية ما جرى لهذا البلد ليجعل، في وقت واحد، كل المصانع وكل الكليات تكتسي بالأعلام الحمراء. من رأى ذلك لا يمكن أن ينساه.
ثالثا العنصر الثالث «الخشن»، فمنذ تلك الفترة، وخلال السنوات التالية، ثمة ممارسةٌ بالغةُ المنهجية ليس لاحتلال جهاز الإنتاج، ليل نهار، فحسب، بل كذلك لاختطاف أصحاب العمل وللشجارات الهامشية مع الكوادر أو مع قوات مكافحة الشغب CRS. مما يعني أن النقطة التي تحدثتُ عنها للتو، عن قبول معين للعنف، يوجد داخل حركة الطلبة والتلاميذ، لكن يوجد أيضا، بأشكال مختلفة، داخل الحركة العمالية.
رابعا أنه، بعد وضع كل هذه العناصر في الاعتبار، ستصبح مسألة ديمومةِ، والسيطرة على الحركة بالغةَ الحدَّة. حتى يمكن القول إن ذاتية عمالية متمردة ربطت الاضرابَ بشيء غير محدد لا يزال، لكنه، على كل حال، لم يكن قابلا للحل ضمن الثنائية الكلاسيكية مطلب عمالي/ تفاوض نقابي. انفتح صدعٌ، واقعيٌ رغم أنه غير واضح، لثغرة سياسية، لرؤية أخرى لهذا النوع من النزاع.
ويخلص باديو في كتابه إلى القول “هنا يجب عليَّ كفيلسوف أن أقول شيئا جرى تكراره منذ أفلاطون، شيئا بالغ البساطة. يقول إنه يجب العيش بفكرة، وبهذا اليقين يبدأ ما يستحق تسميته السياسة الحقة، ومعها ما أسميته أنا الحياة الحقة. لأننا إذا فكرنا في مستقبل الفكرة ‘المثل الأعلى’، وقسنا كم تتزايد حقارة العالم كما يصير تحت أعيننا؛ وإذا ارتبطنا بالجماهير الغفيرة من العمال والمعدمين الهائمين على سطح الأرض كي يعرفوا أين يمكنهم العيش؛ إذا تعلمنا كل الدروس، بما فيها درس مايو 68 الرابع، في قلب العالم الحي، لاستطعنا، لكن، تحت تلك الشروط فقط، أن نقول من جديد؛ وأن نقتفي نداء مايو الأشد ذيوعا منذ عواصف سنوات الستينات والسبعينات: ‘لنا الحق في التمرد'”.