المغربي إسماعيل البويحياوي: التوظيف السردي للفيديو المفعّل يبني العمل الرقمي

السرد التفاعلي العربي يحتاج إلى المزيد من التجربة لمواكبة العالمية.
الجمعة 2022/10/28
في الأدب الرقمي، القارئ كاتب للنص ومعدل فيه

لا يزال ما يطلق عليه “جنس أدبي رقمي” مصطلحا غائما لدى الكثير من الأدباء والقراء، رغم أن ما يطلق عليه الرواية الرقمية كتبت عربيا منذ أوائل القرن الحالي. الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة حول واقع الأدب التفاعلي الرقمي العربي وإمكانية نجاحه للقيام بثورة أدبية مختلفة.

يقوم القاص والباحث المغربي في الأدب الرقمي إسماعيل البويحياوي في كتابه “تحولات الأدب الرقمي إرادة قول المؤلف الرقمي.. مقاربة تداوليّة معرفيّة للسرد الأدبي التفاعلي” الصادر عن دار فكرة كوم، بالمساهمة في تجاوز بعض العوائق التي تعترض المشروع الأدبي الرقمي العربي، إيمانا منه بأن من وسائل هدم الفجوة الرقمية بيننا وبين الغرب، تعميق صلتنا بالرقميّات، والانكباب على قراءة نصوص الأدب الرقمي العالمية وتمثلها وابتكار الأسئلة وتجديد المفاهيم والمصطلحات والأدوات، لأن الرقميات أفق إنساني مفتوح، وواعد، على أصعدة كثيرة، يهمنا منها الصعيد الأدبي.

وفي هذا الحوار نتعرف على أفكار البويحياوي ورؤاه في الأدب الرقمي وتجربته الإبداعية، خاصة في القصة القصيرة جدا.

مقاربة معرفية

الأدب الرقمي أدب ينتج ويكتب بواسطة الكمبيوتر وتقنياته التي تستدعي الترابط والتفاعل من خلال اللغة والصورة والصوت والفيديو
الأدب الرقمي أدب ينتج ويكتب بواسطة الكمبيوتر وتقنياته التي تستدعي الترابط والتفاعل من خلال اللغة والصورة والصوت والفيديو

بداية نتوقف عند رؤيته للأدب الرقمي، حيث يرى البويحياوي أن المصطلح يحيل على مكونين لا يمكن الحديث عن أدب رقمي دونهما: الأول هو الأدب ككتابة إبداعية جمالية متميزة بلغتها السامية المنزاحة عن الكتابة التواصلية التقريرية اليومية والمباشرة. والثاني هو المكون الرقمي الذي يحيل إلى تكنولوجيا التواصل والمعلومات كحامل/ وسيط جديد.

ويقول “الأدب الرقمي أدب ينتج ويكتب بواسطة الكمبيوتر وتقنياته التي تستدعي الترابط والتفاعل من خلال اللغة والصورة والصوت والفيديو، وغيرها، بحيث أصبحت اللغة الأدبية مجرد مكون من مكونات أخرى. يتميز الأدب الرقمي باللّا خطيّة، بمعنى أنه خلافا للنص الورقي، لا يقرأ خطيا وتواليا، بل يمكن قراءته من البداية أو الوسط أو النهاية. ثم إن الأدب الرقمي يتميز أساسا بمنح القارئ الفرصة للفعل والمشاركة في بناء النص. وقد ينتج هذا القارئ المبحر نصا مخالفا لما ينتجه قارئ آخر. وكل هذا تتحكم فيه هندسة النص وإخراجه، بل إن بعض النصوص الرقمية تُبرْمَجُ لكي يساهم فيها القارئ بكتاباته، أو تعليقاته التي تصبح جزءا لا يتجزأ من النص المقروء على الشاشة”.

كتابة القصة القصيرة جدا مهارة تتطلب الحذق والدقة والعمق، تشبه مهارة رجل يكتب بإزميله على لوحات من المرمر

ويلفت البويحياوي إلى أن عنوان كتابه “تحولات الأدب الرقمي” هو بمثابة “بوصلة هادية للقارئ.. إنه عنوان مركب، فتحولات الأدب الرقمي متعددة المظاهر والتجليات، لذلك حصرنا مظهر التحول في السرد الأدبي التفاعلي. وقد عملنا على مقاربة السرد الأدبي التفاعلي كتجلّ جديد لهذا التحول من خلال سؤال التواصل بين المبدع الرقمي والقارئ المبحر. وبذلك فموضوعنا يندرج في باب التحول الرقمي من خلال مقاربة تداولية معرفية جامعة بين البعدين: النصي، والتداولي المستمد من نظرية أفعال الكلام اللغويّة ونظرية الملاءمة المنفتحة على العلوم المعرفيّة”.

ويشير إلى أن الكتاب يأتي ضمن مشروع عربي سبقنا إليه رواد الأدب الرقمي في ثقافتنا العربية لتَبْيِئَة هذا الأدب الجديد. إضافة إلى العمل على هدم الفجوة الرقمية بيننا وبين الغرب حتى لا نظل تابعين نجترّ، ونردّد، ونعيد إنتاج ما حققته الأمم الأخرى. إن الأدب الرقمي حالة تطور إنساني، ومكسب كوني لكل الأمم. لذلك اخترنا دراسة السرد الأدبي التفاعلي كإبدال رقمي أو كتحول جاء بعد مرحلة السرد المترابط الذي يتميز باعتماد تقنية الرابط كمكون جوهري له، أو كنابض ومحرّك مركزي، بينما السرد الأدبي التفاعلي، الذي ولد من رحم النص المترابط، تولّد بفعل عوامل متعددة وكثيرة منها التطور الذي عرفته الوسائط المترابطة، وظهور الجيل الجديد من التكنولوجيا (0.2)، أو الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى ظهور وانتشار ألعاب الفيديو”.

ويتابع “كما نشير إلى دور النصوص المترابطة التي اعتمدت أسلوب ‘القصة التي أنت بطلها’ القائمة على دمج القارئ في الأثر الرقمي، ومنحه دور البطولة. وقد اعتبر بعض الدارسين السرد الأدبي التفاعلي إبدالا سرديا جديدا. وبذلك ضَمُرَ الاعتماد على الترابط، وحل محله التفاعل. صار المبدع الرقمي يبرمج التفاعل مسبقا حتى يقوم القارئ المبحر بإنجاز أفعال تساهم في نمو الأحداث. وفي حالة فشل القارئ في القيام بها يتوقف العمل، وعليه تكرار المحاولة حتى ينجح في تحقيقها. ورغم كل هذا فلا يمكن الحديث عن سرد أدبي تفاعلي في غياب النص الأدبي، أو القصة كشرط جوهري ومقوم من مقوماته”.

ويؤكد البويحياوي أن “من الصعب التكهن بالمسار الذي سوف يتخذه السرد الأدبي التفاعلي وتحولاته وديمومته. لكنه يدخل في باب التجريب وانفتاح الأدب على التكنولوجيا الرقمية التي لا تتوقف عن التحول والتطور. والذين يعتبرون السرد الأدبي التفاعلي تغريدا خارج السرب فهم يتعاملون مع الظواهر الأدبية بمنطق لا ينصت جيدا لطبيعة الأدب. ومن الصعب أن يظل الكاتب العربي حبيس الإبداع الورقي والقلم في سياق إنساني وعربي يسبح، ليل نهار، في التكنولوجيا”.

أدب تفاعلي بالأساس

إسماعيل البويحياوي: الأدب الرقمي حالة تطور إنساني
إسماعيل البويحياوي: الأدب الرقمي حالة تطور إنساني

يرى أن السرد الرقمي العربي قد حقّق التفاعل. وهو ما تناوله الرواد الذين انكبوا على الأدب الرقمي إبداعا وتنظيرا ونقدا، غير أن التفاعل في السرد الرقمي مستويات. و”نحن نؤمن أن الأدب التفاعلي العربي سيعرف تطويرا يصل به إلى مستويات عليا عالمية. إن التفاعل في الأدب الرقمي، كما حلّله سيرج بوشاردون، درجات ومستويات: تفاعل بسيط نسميه تفاعل الولوج، وتفاعل يقوم على فعل التحكم أو التطويع، وآخر يقوم على فعل الإنتاج، وهو أعلى درجات التفاعل”.

ويشير البويحياوي إلى أن توظيف الفيديو المفعَّل توظيفا سرديا يساهم في بناء العمل الرقمي، وهو جزء أساسي من السرد الأدبي التفاعلي. وفي الحقيقة علينا النظر إلى اللَّعب نظرة إيجابية، واعتباره تقنية بيداغوجية نفسية، وتفاعلا سرديا خلَّاقا، ولا ننظر إليه بالمعنى القدحي المُتجاوز. اللعب يحقق حاجات نفسية، وينمي قدراتنا الذهنية ومعارفنا. طبعا دون أن ننسى أن العمل الأدبي، في حد ذاته، لعب فني وجمالي يحقق متعة سامية جدا.

البويحياوي يلفت إلى أن عنوان كتابه “تحولات الأدب الرقمي” هو بمثابة بوصلة هادية للقارئ
البويحياوي يلفت إلى أن عنوان كتابه “تحولات الأدب الرقمي” هو بمثابة بوصلة هادية للقارئ

ويقول “فعلا لي تجربة في كتابة القصة الرقمية المترابطة. تعد هي الثانية بعد تجربة رائد القصة الرقمية في المغرب محمد شويكة. كتبت عملين قصصيين رقميين ‘حفنات جمر’ 2014، و’شاشة. كوم’ 2021. وأذكر هنا الدراسة الوافية التي جاءت في كتاب الدكتورة لبيبة خمار ‘النص المترابط، فن الكتابة الرقمية وآفاق التلقي’، الذي تناولت فيه النص المترابط المغربي، وسلطت الضوء على تجربة محمد شويكة وتجربتي. وهو تناول دقيق مفيد للقارئ في معرفة الأدب الرقمي السردي المغربي، والتعرف على أدوات ومفاهيم ومصطلحات المقاربة البنيوية للأدب الرقمي”.

ويتابع “أؤمن بالدور المهم للأنواع الموجزة كالقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا في كتابة الأدب الرقمي. ذلك أن نصوصا قصصية قصيرة، وقصيرة جدا تشكل جسرا للانتقال من الأدب الورقي إلى الأدب الرقمي، شريطة استيفاء شروط النوعين القصصي والمترابط حتى يصبح محكيا مترابطا. لقد بنيت العملين على تقنيات عديدة. وفي عملي الثاني ‘شاشة. كوم’ اعتمدت قصة إطار، لكنها دائرية، إذ يمكن قراءة العمل من بدايته أو نهايته. وأهم ما يميز هذه التجربة الثانية أنني أضفت إلى كل قصة أو عقدة قصصيّة، نصوصا شذريّة وامضة جدا تتصادى مع النص القصصي المنطلق، أو تتعالق معه بشكل من الأشكال، كأن تشكل امتدادا دلاليا أو نفسيا أو تداوليا، وغيرها مما يمكن استنتاجه من خلال قراءة العمل لمن أراد. علاوة على تقنيات أخرى هي في انتظار الناقد والقارئ العربيين لسبر أغوارها“.

ويكشف البويحياوي “تتميز تجربتي بأنني انتبهت إلى ضرورة الاشتغال بأسلوب المجموعة القصصية التي يوحدها خيط ناظم. ففي مجموعتي الثانية ‘طوفان’ اشتغلت على التّناص والومض والإضمار والحذف. وفي مجموعتي الثالثة ‘قطف الأحلام’ اشتغلت على ثيمة الحلم في تمظهراتها الذاتية والجماعية، وخاصة الأبعاد الرّمزية. وفي مجموعتي ‘ندف الروح’ وظفت السيرة، ذاتية وتخييلية. وبما أن القصة القصيرة جدا هي بمثابة العقدة في النص المترابط، فقد انتقلت بيسر إلى مجال القصة الرقمية المترابطة”.

وتساءل: هل تظل هذه القصص المترابطة “الرقمية” قصصا قصيرة، وقصيرة جدا أم أن التراكم والترابط والتشعب قد ينقلها إلى قصة أطول أو رواية؟

من الصعب التكهن بمسار السرد الأدبي التفاعلي، لكنه يدخل في باب التجريب وانفتاح الأدب على التكنولوجيا

ويجيب أن القصة القصيرة جدا كتابة إقلاليّة قائمة على مبدأ “ما قل ودل” باجتناب الحشو أو ما يعبر عنه البعض بـ”الكوليستيرول القصصي”.

ويوضح أن “كتابة القصة القصيرة جدا مهارة تتطلب الحذق والدقة والعمق، ونشبهها بمهارة رجل يكتب بإزميله على لوحات من المرمر. عليه أن يكتب القليل الدال والموحي. وقطرة ضوء خير من محيط من الظلمات، كما يرى بعض عشاق الكتابة الشذرية الموجزة. أعتقد أن الكتابة الموجزة عليها أيضا اعتماد جمل شعرية لا حشو بها، وأقصد هنا شعرية السرد القائمة على علاقات المجاورة، ولا أقصد شعرية الشعر القائمة على علاقات المشابهة. والقصة القصيرة جدا تتطلب قفلة مفاجئة، وحادة كضربة السيف”.

ويضيف “إن القصة القصيرة جدا ليست النص الذي نكتبه فقط، بل هي ذلك الأثر أو الوقْع الدّافع إلى التفكير والتأمل والتأويل. إنها القليل الذي يقول الكثير ‘إجاعة اللفظ وإشباع المعنى على حد قول العرب القدماء’، لذلك تبدأ القصة القصيرة جدا بعد أن ننتهي من قراءتها”.

ويرى البويحياوي أن “المشهد الثقافي المغربي ثري ومتنوع، ويصعب اختزاله في رافد من روافده. له مشارب ومكونات تفاعلت عبر التاريخ وأنتجت خصوصية ثقافية مغربية. وللثقافة المغربية عطاءات يجسدها العديد من الأعلام. ورغم آثار مرحلة وباء الفايروس التّاجي، فإن الساحة الثقافية المغربية تشهد حراكا دائبا، وانفتاحا مستمرا على مستجدات الآداب والفنون، علما أن الثقافة المغربية بحاجة إلى المزيد من العناية والرعاية. وسواء تعلق الأمر بالثقافة المغربية أو العربية فهناك حاجة ماسّة إلى سياسة ثقافية، وإلى المزيد من الحرية، وتربية النشء على الجمال والإبداع”.

13