المغتسلة

نستحضر قصيدة “المغتسلة” هذه الأيام ونحن في عز الحر والحاجة إلى الماء، لا بقصد الاغتسال الجسدي، وإنما الاغتسال البصري في ظل تلوث بصري خانق.
الثلاثاء 2023/08/08
الجمال هو ذاك الاكتشاف المباغت وغير المتعمد

الميموزا، جنس من الزهور أو النباتات المنزلية تُعرف في بلادنا العربية باسم "المستحية"، نظرا إلى الطريقة التي تنطوي بها أوراقها حينما تلمس أو تعرض للحرارة.

فتن عشاق هذه الزهرة بفرط "حيائها" على الرغم من كونها ملتوية وتنطبق أوراقها في الليل لتصبح قبرا مظلما للحشرات التي تلامسها أو تقترب منها.

وتعرف أيضا، بـ"زهرة الحرير" لتعدد أوراقها النحيلة التي تشبه الريش، كما أن منها نوعا يخمّر ويصنع منه شراب مخدر يبعث على الانتشاء.

وباختصار شديد، فإن "المستحية" زهرة عجيبة فاتنة، وتشبه المرأة في جميع صفاتها وتناقضاتها، بما في ذلك تلك الجدلية الغريبة بين التستر والتبرج، الخفاء والتجلي..

لعل هذا ما يشد الرجل إلى المرأة منذ أقدم العصور، حتى إن ثنائية التصبب والتلصص، ارتبطت بعلاقة الإنسان مع ربات الجمال لدى قدماء الإغريق والرومان.

هذا في الأساطير، فكيف إذا كانت حقيقة واقعة بين شاعر متلصص، ومغتسلة بمياه النهر، على حين غفوة من الزمن.

إنه أبونواس في قصيدة "المغتسلة" التي تعتبر من أنفس وأجمل ما قيل في الشعر الذي يتجاوز مجرد الوصف نحو حالة مبهمة بين الخفاء والتجلي في علاقة الجسد الأنثوي بالماء والثياب.

قال النواسي في أجمل قصائد التلصص:

نضت عنها القميص لصب ماء

فَـوَرَّدَ خَـدَّها فَـرْطُ الحيـاءِ

وقَابَلَـتِ النَّسِيـم وَقَدْ تَعَـرَّتْ

بِمُعْـتَدلٍ أرَقّ مـِنَ الـهَـوَاءِ”.

أكثر من حجاب يتناوب على هذه المغتسلة بين ثوب واحمرار وماء ونسيم وهواء.. وكذلك مسافة النظر الفاصلة بينها وبين الشاعر المتلصص الذي يرصد المشهد في صورة تشكيلية سينماتوغرافية آخاذة:

ومَـدَّتْ رَاحَة كالـمَاءِ منْهَـا

إلـى مَـاءٍ مُعَـدٍّ فـي إنَـاءِ

فَلَمَّا أَنْ قَضَـتْ وِطْرًا وَهَمَّـتْ

عَلى عَجَـلٍ لِتَـأْخُذَ بالـرِّدَاءِ”.

أما العقدة الدرامية وبداية نهاية المشهد فتتمثل في كون المغتسلة رأت شخص الرقيب فسارعت إلى إسدال الستارة في صورة فنية أخاذة، يقول فيها:

رَأَتْ شَخْص الرَّقِيْب على التَّدَاني

فَأَسْبَلَتِ الظَّـلاَمَ على الضِّيـاءِ

فَغَـابَ الصّبْحُ مِنْها تَحْتَ لَيْـلٍ

وَظَلَّ الـمَاءُ يَقْطُـرُ فَوْقَ مَـاءِ

فَسُبْحَـانَ الإلـهِ وَقَدْ بَرَاهـا

كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النِّسَـاءِ”.

هكذا نستحضر قصيدة “المغتسلة” هذه الأيام ونحن في عز الحر والحاجة إلى الماء، لا بقصد الاغتسال الجسدي، وإنما الاغتسال البصري في ظل تلوث بصري خانق.

آلاف الفتيات يتنافسن على السوشيال ميديا في الشواطئ والمسابح بقصد استعراض مفاتن أجسادهن أمام رقباء ومتلصصين خلف الشاشات الزرقاء ولكن..

ما الفرق بينهن وبين فتاة أبي نواس المغتسلة على ضفة النهر؟

إنه الحياء الذي يجعل من المرأة مرأة، والرجل رقيبا شفافا رقيقا وشاعرا كأبي نواس.

الجمال هو ذاك الاكتشاف المباغت وغير المتعمد، والذي جعلنا نقرأه وفق “قانون الوحدة والتناقض” في زهرة الميموزا.

18