المغاربة يحتفون بمحمد زفزاف في كتاب عن تجربته

محمد زفزاف تميز بحذره الشديد من الكتابة "الميتة" الخالية من الجرأة في التطرق إلى المحرمات وإلى المواضيع الجدلية.
الاثنين 2018/04/16
نذر حياته للكتابة

معبرا عن الشهرة التي تُدُرك الفنان الأصيل بعد وفاته في حين أنه كان قد عاش الإهمال والغبن في حياته، كتب التونسي علي الدوعاجي يقول: عاشْ يتمنّى في عنبْهْ / ماتْ جابولو عنقودْ (أي عاش مُتمنيا الحصول على حبة عنب واحدة فلما مات أتوا له بعنقود) وهذا يصحّ على المبدع المغربي محمد زفزاف (1945-2001) الذي نَذَرَ حياته للكتابة، قاصا وروائيا ومترجما وناقدا ومُعرفا بمبدعي جيله وفنانيه.

وكان زفزاف واحدا من مؤسسي الحداثة في المغرب في الستينات من القرن الماضي، مضاهيا بذلك محمد شكري، ومحمد بوزفور، وأحمد المديني، ومحمد بنيس، ومحمد برادة، ومحمد بن طلحة، وأحمد المجاطي وآخرين. ومُتخطيا حدود بلاده في فترة كان فيها التواصل بين المغرب والمشرق عسيرا، ارتبط محمد زفزاف بعلاقة أدبية متميزة مع الكاتب المصري يحي حقي الذي كان أول من اكتشف موهبته القصصية لينشر له واحدة من قصصه الأولى في مجلة “المجلة” المرموقة التي كان يشرف على رئاسة تحريرها.

كما كان زفزاف عارفا بالآداب الأجنبية، ومتأثرا برموزها الكبيرة خصوصا بالكتاب الروس أمثال غوغول وتشيكوف وغوركي. وقد ساعدته ثقافته الواسعة وإلمامه بالفلسفة التي كان قد دَرَسَها في الجامعة على ألا تكون رؤيته للحداثة منْجذبة انجذابا سريعا وأعمى للتقليعات الحداثية الغربية، بل مجْترحة من تجاربه الخاصة ومن واقع بلاده الثقافي والحضاري.

وحتى النهاية، عاش محمد زفزاف حياة مُتقشفة شبيهة بحياة الزهاد القدماء. فقد كان يقيم في شقة متواضعة في حي “المعاريف” الشعبي بالدار البيضاء محاطا بكتبه، ومستقبلا البعض من أصدقائه الأوفياء الذين يزورونه بين الحين والحين ليستمعوا إليه وهو يتحدث بصوته الخفيض عن الأدب وعن الحياة في مختلف تجلياتها. ولم يكن يفارق شقته والدار البيضاء إلاّ لماما، فإن فارقهما فلكي يؤدي زيارة قصيرة لصديقه محمد شكري في طنجة.

كان محمد زفزاف يحب الاختلاط بالبسطاء والمهمشين، وعنهم وعن حياتهم كان يكتب. ورغم أنه كان من أهم المبدعين المغاربة والعرب في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه لم يحظ بالاعتراف والشهرة إلاّ عندما أصيب بالمرض الخبيث الذي فتك به. ويوم جاؤوه بأعماله الكاملة الصادرة عن وزارة الثقافة المغربية وهو في المصحة، أجهش بالبكاء. ولعله سيكون سعيدا أيضا بالكتاب الصادر حديثا عن المكتبة الوطنية تحت إشراف الكاتب أحمد المديني احتفاء به بمناسبة مرور 16 عاما على رحيله، مقدما آراء عدد من الكتاب في تجربته.

في مقدمة هذا الكتاب الذي حمل عنوان “محمد زفزاف- صنعة الكاتب”، أشار أحمد المديني إلى أن زفزاف “معلم صناع في فنه، وفّرَ له العدة والمهارة اللاّزمتين، وبذا ارتقى بالقصة والرواية، بعدها، بوضعهما في قالب التشكل الصحيح، انطلاقا من فهم عميق للموضوع في المجال الاجتماعي، وبرؤية تغوص في العمق الإنساني، شأن الكتاب الكبار”.

وفي نص بديع حمل عنوان “ديباجة”، احتفى القاص أحمد بوزفور بصديقه محمد زفزاف بطريقته الخاصة قائلا “أن نتذكر زفزاف.. يعني أن نتذكر الأساس”؛ وهو على حق، فقبل محمد زفزاف وأبناء جيله من المؤسسين للحداثة كان الأدب المغربي المكتوب باللغة العربية فقيرا وسطحيا، ومنفصلا عن حياة الناس وعن مشاغل المجتمع، وتهيمن عليه ركاكة اللغة والأسلوب. ومُدركا ذلك، سعى زفزاف منذ البداية إلى أن تكون كتابته قاطعة مع الأدب القديم، ومع لغته وأساليبه. كما عمل على أن تكون هذه الكتابة متجذرة في واقع بلاده، ومعبرة عن هموم الناس المهمشين والمنسيين والمهملين وكأنهم أموات.

 ويضيف أحمد بوزفور قائلا إن انحياز زفزاف للفئات الشعبية لم يكن انحيازا أيديولوجيا كاذبا، بل هو انحياز يعكس موقف “كاتب حر” بإمكانه أيضا أن يقف ليس فقط في وجه السلطة، بل في وجه المجتمع إذا لزم الأمر. ويعود ذلك إلى أن الهم الأساسي لفنان أصيل مثل زفزاف هو الدفاع عن قيم الحرية والعمل الدائم من أجل الانتصار للحداثة وللمستقبل، والتحرر من سكون الهوية، ومن ركود التاريخ.

وفي نص بعنوان “مدخل لقراءة تجربة زفزاف القصصية”، أشار الناقد إدريس نقوري إلى أن محمد زفزاف كان يحرص دائما على أن يسلك سلوك الكتاب الكبار المتمسكين باستقلاليتهم الفكرية. لذا لم يرغب أبدا في الارتباط بأي حزب ولا بأي تيار أدبي أو فكري. كما أنه تمكن من أن يصنع أسطورته الخاصة، أسطورة الكاتب المتوحد بنفسه، الرافض لكل ما يمكن أن يجره إلى فقدان حريته في الكتابة وفي الحياة.

ويرى عبدالمجيد الحسيب أن زفزاف كان يتميز بحذره الشديد من الكتابة “الميتة” الخالية من الجرأة في التطرق إلى المحرمات وإلى المواضيع التي يتحاشى صغار الكتاب الاقتراب منها، والتعرض إليها. لذلك لم يتردد في الغوص في القاع السفلي للمجتمع ليكتب عن اللصوص والمشردين والبغايا والشواذ وغيرهم. كما أنه اهتم بالعنف المستور والمقنع، سواء كان عنف السلطة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية. وهذا ما تعكسه جل أعماله القصصية والروائية.

وكان محمد زفزاف يولي عناية كبيرة للغة. وعن ذلك كتب عبدالمجيد الحسيب يقول إنه -أي زفزاف- لم يكن ينحو نحو لغة “الفخامة والأناقة”، بل كان يختار لغة “فظة وسوقية، تنسجم مع طبيعة متلفظيها من دون أن يسقطها ذلك في الضحالة والمجانية”. كما أضفى تفصيح العامية بين الحين والآخر على لغة زفزاف “نوعا من الهجنة والخلاطة، ووسمها بميسم خاص متميز”.

14