"المعلقة البغدادية".. قصيدة تنتشل مدينة من أوحال التاريخ

الناقد ضياء خضير يحلل قصائد حميد سعيد الساردة لسيرة وطن.
السبت 2021/02/13
شاعر مسكون بوطنه وحكاياته وإرثه

يتميّز الشعر العراقي بتعدد تجاربه الهامة والمميزة عربيا، حيث لطالما كان خزانا لغويا خصبا، إضافة إلى اتجاهه الدائم نحو التجديد والتجريب مقدما أسماء عربية هامة في عالم الشعر. ويعتبر حميد سعيد واحدا من هذه الأسماء لما قدمه من تجربة مختلفة في نصه وفي حضوره الثقافي، وهو ما يبرزه كتاب نقدي جديد حول تجربته.

تكرارا لمغامرته التي خاضها مع الشاعر العراقي سعدي يوسف، عاد الناقد العراقي ضياء خضير ليخوض غمار المغامرة نفسها مع شاعر عراقي آخر هو حميد سعيد، لينتج منها هذه المرة كتابا نقديا بعنوان “المعلقة البغدادية.. محاولات في تحليل قصائد حميد سعيد”، تناول فيه 12 قصيدة من دواوين متعددة للشاعر بالنقد والتحليل.

تكمن المغامرة التي خاضها خضير في أنه سار في الكتاب مسارا جديدا مختلفا عن المسار الذي درجت عليه الكتب النقدية الأخرى، حيث ألقى الناقد أضواء كاشفة على التجربة الشعرية لحميد سعيد من خلال القصائد التي تناولها بالنقد والتحليل المعمقين.

شاعران عراقيان

كان الناقد خضير قد أنجز كتابا سابقا عن الشاعر سعدي يوسف ضمن المنهج نفسه، وفكر من وقتها في بدء العمل بهذا الكتاب عن حميد سعيد، وجاء اسمه “المعلقة البغدادية” مستوحى من قصيدة للشاعر بعنوان “رؤى بغداد” عدّها خضير “معلقة حميد سعيد البغدادية”، إذ وصفها بأنها “ألّفت جسرا يمتد بين شاطئين يفصل بينهما مكانان وزمانان مختلفان يضع الشاعر على أحدهما رجلا، وعلى الجانب الآخر رجلا أخرى، لرؤية التيار المتدفق بينهما للتاريخ والحاضر، الذي عاشته وتعيشه مدينته الحبيبة بغداد، ووطنه العراقي كله من خلالها”.

يروي الناقد في ثنايا الكتاب، الصادر قبل أيام عن دار دجلة ناشرون وموزعون في العاصمة الأردنية عمان، رواية تقول “لقد قيل إن سبب توبة بشر الحافي المتوفى ببغداد سنة 227 هجرية، وتوجهه إلى عالم الزهد والتصوف أنه أصاب يوما في الطريق كاغدة مكتوبا عليها اسم الله قد وطأتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية فطيّب بها الكاغدة، وجعلها في شق حائط فرأى فيها كأن قائلا يقول له: يا بشر، طيّبتَ اسمي، لأطيبنّ اسمك في الدنيا والآخرة”.

ويعلق على هذه الرواية “ولا أظن أن بغداد وكل من عرفها وسكن فيها سيقولون لصاحب هذه القصيدة كلاما أقل احتفاء به وشعورا بالامتنان منه على صنيعه وفعله معها، وهو يلتقط اسمها البهي من وحل التاريخ الراهن والإهمال والضياع ليطيّبه بغالية كلماته ويصوغ حوله هذه القلادة الثمينة يعلّقها على جيد حبيبته ومدينته الخالدة، التي يحنّ إليها، ويحاول التواصل معها، وهو بعيد عنها”.

قبل تأليفه هذا الكتاب الذي تناول عشر قصائد، بالإضافة إلى مقالتين هما “رومانسية حميد سعيد” و”فوضى في غير أوانها”، سأل الناقد صديقه الشاعر سعدي يوسف عن رأيه في خوض المغامرة التي خاضها معه، مرة أخرى، مع حميد سعيد، فأبدى يوسف سعادته قائلا “إن حميدا يستحق ذلك، ليس فقط بوصفه شاعرا عراقيا مهمّا، وإنما لكونه إنسانا كبيرا أيضا، لا يمكن أن أنسى شخصيّا فضله عليّ، حينما كنت في بغداد، فقد كان حميد هو المدافع والحامي بكل ما يستطيع، إزاء ما كنت أتعرض له من تهديدات ومضايقات”.

الناقد اختار قراءة القصائد منفردة ليفتح فضاء التلقي ويمنح المتلقي فرصة الاقتراب من النص موضوعا وجمالا

وحين ذكر خضير لسعدي أنه سمع حميد سعيد بنفسه وهو يسأل صدام حسين عن مصير عزيز السيد جاسم، في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير معتقلا، بعد الأحداث الشعبانية المعروفة سنة 1991، قال له يوسف “هل تدري يا ضياء أن سؤالا من هذا النوع، في ذلك الظرف العصيب، يمكن أن يكلّف الإنسان حياته”.

أما الشاعر حميد سعيد نفسه، فقد ذكر، في رسالة بعث بها إلى الناقد أنه سهر حتى الفجر من أجل إكمال قراءة كتابه عن صديقه سعدي يوسف، مضيفا “أؤكد لك، من دون مجاملة، أن مشروعك في قراءة القصائد منفردة، يفتح فضاء التلقي، ويمنح المتلقي فرصة الاقتراب من النص موضوعا وجمالاً.. وإجمالا يشكل الكتاب إضافة إلى ما كتب عن شاعرية سعدي يوسف، وهو كثير.. كثير”.

يجيب الناقد، في كتابه، عن سؤال قد يطرحه بعض القراء عن السبب الذي يدفع ناقدا للجمع في الكتابة عن شاعرين يبدوان للكثيرين مختلفين في انتمائهما العقائدي والأيديولوجي، فضلا عن الاختلاف عن منجزهما الإبداعي.

ويجيب عن ذلك “إن سعدي يوسف (الشيوعي الأخير)، المؤمن بالفكر الماركسي من ناحية، وحميد سعيد (البعثي) المؤمن بالفكر القومي، الذي شغل مناصب ثقافية رفيعة في عراق ما قبل الاحتلال، من ناحية أخرى، كلاهما قامتان عراقيتان وعربيتان، بقيتا وفيتين لتاريخهما، أمينتين على الالتزام بالتراث الفكري والوجداني الذي حركهما منذ نشأتهما الفكرية الأولى، مثلما حرك غيرهما من الناس في العراق والوطن العربي باتجاه قيم ومبادئ إنسانية رفيعة، ولا ينبغي أن يقف الاختلاف بينهما في هذا الانتماء الأيديولوجي من دون تقدير الدور الإبداعي الذي أدّياه لتطوير الشعرية العراقية والعربية الحديثة، كلٌ بطريقته الخاصة المختلفة، بعد جيل الرواد في الخمسينات والستينات من القرن الماضي”.

ينفي خضير انطباق مقولة الشاعر المصري الراحل أمل دنقل، في إحدى قصائده، من “إن اليسار لفي عسر، وإن اليمين لفي خسر”، على هذين الشاعرين اللذين ما كان الشعر الحقيقي بالنسبة إليهما، في يوم من الأيام، موضوعا لربح أو خسارة، على الرغم من أن هذا “العسر” الناتج عن ضيق الفضاء الشعري يبقى قاسما مشتركا لدى كل الشعراء الكبار مثلما هو لديهما. وإذ نراهما يتعادلان، الآن، في هذا العمر المتأخر بحصيلة “الخسارة” بعيدا عن الوطن العراقي الممتحن بوجوده وحياة الناس فيه، ندرك دائما أنهما رابحان فقط، عبر نافذة القول الشعري، الذي كرّسا له عمريهما، مثلما نعرف أنهما لم يوظفا مشروعهما الشعري في غير خدمة الوطن وحرية إنسانه ورؤية الأفق الإنساني والوجودي المضطرب حولهما.

القصيدة سلاح

أضواء كاشفة على التجربة الشعرية لحميد سعيد
أضواء كاشفة على التجربة الشعرية لحميد سعيد

انصبّ أغلب قراءات الناقد لشعر حميد سعيد على قصائد الشاعر الأخيرة، التي دخلت، بعد الاحتلال ورحيل الشاعر عن وطنه ومدينته، منعطفا جديدا حاسما؛ منعطف لا يقتصر فيه عمل الشاعر على وصف جماليات مكان سابق يبدو مختلفا في الواقع والحلم عن مكان الاغتراب الجديد، ولا يكتفي بوضع رثائيات وبكائيات شعرية حديثة على ماض ذهب ولن يعود، وإنما هو يكتب نصوصا تكشف عن وعي أدبي وفني وثقافي عال، واستحضار للتاريخ وانتماء للوطن والمدينة.

تبدو قصيدة حميد سعيد وسيلة وسلاحا، يسيطر الشاعر فيه على انفعالاته وأسلوبه وقدرته المذهلة على رواية حكايات وسرديات جديدة، وإقامة الحوار مع رموز وشخصيات تاريخية وفنية وواقعية تملأ صفحة النص بالمعنى والدلالة والإشارة الواضحة أو الملغّزة في صورتها البلاغية والنحوية.

هناك خاصية شعرية في تجربة حميد سعيد أشار إليها الناقد وهي ما قد يجوز أن نسميها القصة الشعرية، مستفيدا من التراث، سرديا كان أم أدبيّا، فحوّرَ وغيّرَ وعدل عن الرَواسم والسمات إلى غيرها، مما ينشأ به النصّ إنشاء جديدا، لا يلتزم بالضوابط المضبوطة والسنن المعنيّة يقول الشاعر:

“يومَ يقولُ لها بالإشارة.. لا مال عندي/ تخاصمه وتغادرُ/ تخرجُ من دون أنْ تترضّاهُ/ لكنها ستعود”.

وثمة فراغات زمنية مفهومة في هذه القصة التي تمتد سرديتها المتلقطة من وجهة نظر راويها لسنوات، وليس لأيام وشهور.

كما أن هناك قضية أخرى مهمّة أشار إليها الناقد، وهي الصوت الموسيقي في تجربة سعيد، وأيضا تطرّق إلى مظهر آخر في تجربته الشعرية، هو مظهر الإيقاع، وإذا كان بعضه يتعلّق بحركة الصور والعناصر المكوّنة لها، والعلاقات التي تنشأ من تداعيها، فإنّ بعضه يتعلّق بما هو من أشدّ خصائص الشعر في مستوى تنغيم الجمل، وهو ما نعثر عليه في مستوى التكرار والمجانسة الصوتية والتوازي التركيبي في قوله:

“لغة شوهتها الوساوس/ إذ رهنوا في المصارف/ كل علاماتها والخصائص/ لم يبق فيها سوى النصب”.

ويذكر أن ضياء خضير ناقد وكاتب وأستاذ جامعي سابق، حاصل على دكتوراه دولة في الأدب المقارن من فرنسا 1987، كلية الآداب جامعة أكس  بروفانس، عمل في جامعات بغداد والجزائر والأردن وجامعة صحار بسلطنة عمان، وله دراسات ومقالات وكتب نقدية عديدة في الأدب العربي تربو على الستة عشر، كما أن له مجموعتين قصصيتين، إحداهما مترجمة إلى الفرنسية، ورواية مخطوطة حولتها دائرة السينما والمسرح إلى فيلم بعنوان “التجربة العام 1978″، إخراج فؤاد التهامي، فضلا عن مجموعة كبيرة من الأبحاث والمقالات منشورة في مجلات وصحف عربية مختلفة.

13