المعادلة التونسية تتعقد وقيس سعيد نجم الكاميرات الجليّة والخفية

الثابت والمؤكد عبر التاريخ القديم والحديث، أن العلاقات بين الدول تُبنى على مصالح اقتصادية وغيرها يؤمنها دبلوماسيون ومبعوثون وقد استفادوا من صداقاتهم الخاصة مع الأفراد والجماعات والهيئات.
ليس في الأمر إذن، وأمام طبيعة العلاقات بين الدول والمنظمات، ما يجعل قارئ الأحداث والتحركات السياسية يذهب بعيدا نحو تأويلات تخرج عن سياقها لتصل إلى درجة كيل الاتهامات التي تشهّر بأيّ علاقة تعاون أو تشاور بين جهات حزبية أو نقابية أو حقوقية من داخل البلاد، وقوى خارجية عبر أفراد أو منظمات رسمية وشبه رسمية.
وأمام هذه القاعدة، فإن تونس ليست استثناء بطبيعة الحال، خصوصا أنها في ظرف عصيب، وفي أمسّ الحاجة إلى كل ما من شأنه أن يدفع نحو حالة انفراج، وذلك من منطلق أن جميع أبنائها شركاء في الذود عن مصالح البلاد، سواء كان من منطلق حزبي أو نقابي أو حقوقي مدني.
◙ غالبية من التونسيين لا تزال تعبّر عن إعجابها بشخص الرئيس في مثل ذلك المشهد من عدم المبالاة بما يثيره أولئك الذين يريدون إيقاعه في "الفخ"
يبدو، وانطلاقا من هذه المعطيات، أن الأمور عادية ولا لبس فيها، لاسيما وأن تونس ديمقراطية ناشئة وتبحث لها عن موقع قدم في نادي الدول التي تحترم حريات التعبير والتوجه.
أما أن يصبح الأمر استقواء بالأجنبي للنيل من استقلال البلاد وسيادتها والمساس بالسلم الأهلي.. ساعتها يقع المحظور، ويتحتم على الدولة أن تضرب بيد من حديد على كل من يعرّض أمنها للخطر.
ولأن الأمور تسير على صفيح ساخن في تونس، بين الحكومة ومؤيديها من ناحية، وبين المنظمة النقابية وبعض الأحزاب التي تتزعمها حركة النهضة من ناحية أخرى، على خلفية ارتدادات ما حصل بعد 25 يوليو 2021 فإن كل تحرك أو مبادرة من أيّ طرف تُستقبل بغضب وتأويل سلبي من الطرف الآخر.
وفي هذا السياق، اشتد الخلاف بين الرئيس التونسي قيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل، بعد منع السلطات دخول نقابي إسباني إلى البلاد للمشاركة في تظاهرة عمالية نظمها الاتحاد يوم السبت الماضي.
اتسعت دائرة الحريق الذي يريد اتحاد الشغل توسيعه، وندد اتحاد عمال إسبانيا بمنع ممثله المسؤول عن أفريقيا، ماركو بيريز مولينا، من دخول تونس، علما أنها ليست المرة الأولى فقد سبق لسعيد أن أمر بطرد الأمينة العامة للكونفيدرالية الأوروبية للنقابات، إيستر لينش، بسبب تصريحات وصفتها تونس بأنها “تدخل فاضح”.
وتستمر المواجهة بين الطرفين في الاحتدام وسط تبادل اتهامات ليس أقلها “الاستقواء بالأجنبي” لدى منطق الرئيس قيس سعيد، و”الانقلاب على الديمقراطية” لدى منطق الاتحاد ومسانديه.
لكن الحقيقة المبطنة تبدو ليست هذه ولا تلك، فحرية النشاط النقابي والحزبي مكفولة في تونس، كما أن من حق الاتحاد كمنظمة عريقة ووازنة في الداخل والخارج أن تقيم علاقاتها وتمارس نشاطاتها، شرط أن يتم كل ذلك تحت سقف القانون.
كل الجهات تبدو على حق، بما فيها القوى الغربية التي من حق دبلوماسييها التحرك بحرية والقيام بأدوارهم في تقوية العلاقات وتفعيلها، وليس البقاء سجناء مكاتبهم، مما لا يعود بالنفع على مصالح تونس نفسها.
مازال الرئيس التونسي في تشبثه بمواقفه التي يصفها خصومه بالعناد والمكابرة، ومازال خصومه يقولون إنهم على حق رغم الاهتزاز في مواقفهم.. ومازالت كاميرات العالم الظاهرة والخفية، تراقب المشهد.
◙ تونس ليست استثناء بطبيعة الحال، خصوصا أنها في ظرف عصيب، وفي أمسّ الحاجة إلى كل ما من شأنه أن يدفع نحو حالة انفراج
وعلى ذكر صلابة الرئيس، وتعنت خصومه، والعالم الذي يرقب المشهد عبر كاميرات خفية، مازال التونسيون، جميعهم، يذكرون تلك الحلقة الاستثنائية من برنامج الكاميرا الخفية الرمضاني، منذ بضع سنوات، والتي ظهر فيها أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، قبل اعتلائه سدة الرئاسة.. وكيف أذهل الجميع بقوة أعصابه ورباطة جأشه وهو في وضعية من أشد الوضعيات صعوبة في اختبار مواجهة الأحداث الطارئة.
كان المقلب يتمثل في افتعال هزة أرضية عنيفة أثناء تسجيل لقاء معه في إحدى المحطات الإذاعية، وهيأ لها المعدون كل المؤثرات اللازمة، وأسباب الإقناع من اهتزازات في الأستوديو ودويّ وصراخ، لكن قيس سعيد، ظل ثابتا في مكانه والساق على الساق، ولم تصدر عنه أيّ بادرة خوف، في حين أن بقية الضيوف من سياسيين ونقابيين وحقوقيين قد “بلعوا الطعم” وبلغ بهم الذعر منتهاه، عندما تعرض كل واحد منهم إلى نفس الوضعية، وأودت بهم حالات الهلع إلى ردات فعل محرجة جدا.
اليوم، وبعد سنوات من تلك الحادثة، تهتز أمور كثيرة حول قيس سعيد الرئيس، على مستوى الشارع السياسي والنقابي، وفي الشأنين الداخلي والخارجي فتشتد الضغوط يوما إثر يوم، لكن الرجل ظل ثابتا، مقتضبا وحاسما في تصريحاته.. وبأعصاب من فولاذ.
ويجدر التذكير ـ ومن باب المفارقات الطريفة ـ أن غالبية من ضحايا الكاميرا الخفية في تلك الأمسيات الرمضانية، هم اليوم من خصومه السياسيين، وما ينفكّون يطلقون التصريحات المنتقدة لسلوكه، ويحاولون تأليب الشارع عليه.. لا بل الرأي العام المحلي والدولي، لكن غالبية من التونسيين لا تزال تعبّر عن إعجابها بشخص الرئيس في مثل ذلك المشهد من عدم المبالاة بما يثيره أولئك الذين يريدون إيقاعه في “الفخ”.