المصري يوسف زيدان: الفلسفة والشعر عماد التأليف الأدبي

لم يتوقف الكاتب والمفكر المصري يوسف زيدان عن إثارة الجدل سواء عبر أعماله الأدبية أو من خلال آرائه ومداخلاته ومحاضراته، حيث كان ومازال دائم النقد للتاريخ كاشفا عن مواطن الزيف ومواجها بجرأة التكلس الفكري والتقديس المبالغ فيه لأشخاص وتاريخ مزيّفين، وهو ما يؤكده في حوار افتراضي معه أقيم مؤخرا بمبادرة عُمانية.
مسقط- قال الكاتب والمفكر المصري يوسف زيدان “أشعر أن حياتي استطالت أكثر مما يجب. والمتشدّدون يردعونني بالخوف منهم، وأنا لا أخاف لا منهم، ولا من غيرهم، فأنا مقاتل شرس”.
جاء ذلك ردّا على سؤال حول الثمن الذي يدفعه بسبب آرائه الجدلية خصوصاً في مجتمعات الأغلبية فيها لا تتقبل الرأي المخالف، وتكثر فيها المجموعات المتشددة، خلال استضافته في برنامج “كتاب مفتوح” الذي يعدّه، ويقدّمه الشاعران عبدالرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي.
وأضاف “أنا لم أتجنَّ على أحد، إنما وصفت ما رأيت وصفاً صادقاً، فأزعج ذلك بعض أصحاب المصالح. واكتويت طبعاً بنيران موقفي هذا لكنني لم أتراجع قط، وإذا عدت إلى ما كتبته قبل بلوغي الثلاثين من العمر وبعيد بلوغي الستين ستجد أنه بنغمة واحدة هي نغمة العقل والمنطق والفهم والتفهم وكشف المخادعات وإبراز ما هو مسكوت عنه”.
بُعد متوهّم
تحدّث زيدان عن جعله التاريخ مادة خام لأغلب كتاباته والغرض من ذلك، قائلاً “هذا السؤال مهم. ولكن يجب أن أوضّح كيف أنظر إلى التاريخ أو إلى الزمن الإنساني. عادة ما يعتقد الناس أن الزمن الإنساني ينقسم إلى ثلاثة أبعاد هي: الماضي، أو التاريخ والحاضر أو المعيش والمستقبل أو الآتي. لكن إذا أمعنا النظر سنجد أن البعد الأوسط وهو الحاضر هو بعد متوهَّم، فعندما نقول ‘الآن’ فإننا نعبر من بوابة ما سبق إلى ما سيأتي بمعنى أننا محكومون ببعدين هما ما مضى، وما سيأتي. أما الحاضر فهو لحظة انتقال دائم، وليس بعداً من الأبعاد الثلاثة كما نتوهم”.
وتابع “من هنا أعمالي توزعت بين هذين البعدين، ولم تقتصر على التاريخ، أو التراث. وفي مجال التراث العربي أديت ما رأيت أنه واجبي تجاه هذا التراث الضخم والمهمل. عندما بدأت أكتب مقالات في الأهرام في الثمانينات، وأنا مازلت في منتصف العشرينات من عمري، ثم الكتب التي توالى صدورها منذ ذلك الوقت”.
ولفت الكاتب إلى أنه في الأدب إذا كانت روايته “عزازيل” تدور في القرن الخامس الميلادي، فإن روايته “ظل الأفعى” تدور بعد زمن نشرها بقرابة خمسة عشر عاماً، وكذلك “النبطي” التي تدور في زمن الفتح أو الغزو الإسلامي لمصر، أما روايته “محال” فتبدأ أحداثها عام 1990، لذا فهي رواية معاصرة وهي ثلاثية تضم أيضاً روايتي “غوانتنامو” و”نور”. ثم بعد ذلك عودة إلى التاريخ في رواية “فردقان” وفي روايته الأخيرة “حاكم”.
يبيّن تتابع أعمال زيدان، كما يقول، انتقاله بين بعدين هما الماضي والحاضر، وبحثه في كليهما عن الإنسان المختفي خلف الصراعات بمختلف أنواعها وأسبابها وأعيد الكشف عنه بنفض غبار التاريخ عن صورته المخفية. و”هدفي من هذا هو الآتي وليس الماضي فالماضي عنصر من عناصر الفهم مع المنطق والتحليل، وغيرها من العناصر. والغاية أيضا أن نتعقل حاضرنا وبالتالي نسير إلى المستقبل سيراً رشيدا”.
وعن دوافع مشاكسته للمرويات التراثية وموقفه من الفقهاء ومشايخ الدين، تحدث زيدان قائلاً “مشاكستي لما يسمى، في ثقافتنا المعاصرة والمريضة بالثوابت، هي لفظة مهذبة تدل على تعاملي المهذب مع البلايا والكوابت المسماة بالثوابت”.
وعن اتهام البعض له بأنه لم يقرأ التاريخ بعين محايدة وأنه اتخذ الانتقاء منهجاً أو ما يطلق عليه بالاستقراء الناقص، رد زيدان قائلاً “الاستقراء منهج للعلوم الطبيعية وهذا شيء، لكن الاستقراء الناقص أيضاً منهج لكنه لا ينطبق هنا. من الجدير بالذكر أن روايتي ‘فردقان’ هي عن ابن سينا ورواية ‘حاكم’ عن ابن الهيثم وأعمدة الحكمة العربية في كتاب ‘دوامات التدين’ كانت عن الأولياء والفقهاء الكبار الذين أناروا أزمنتهم والأزمنة التالية، وهذه كلها مناطق إيجابية ولم أهاجم فيها أي أحد. وما أكتبه الآن في روايتي الجديدة عن علاء الدين بن النفيس هو أيضاً وجه مشرق فأين الانتقائية السلبية في تناولي للتاريخ”؟
وأضاف “ربما من يتهمني بالانتقائية يقصد بعض تصريحاتي الإعلامية وأقوالي في لقاءات مثلما وصفت أحد الشخصيات المحتفى بها في تاريخنا بأنه من أحقر الشخصيات في التاريخ وهذا ليس تتبعاً للسلبيات بل حكماً قائماً على دراسة، ولم أتراجع عنه ولو كنت مخطئاً لتراجعت عنه بكل تأكيد. كان الواجب يقتضي أن أنبه إلى ذلك وأقول إن أبطالنا ليسوا قطز وبيبرس وصلاح الدين الأيوبي ومحمود الغزناوي، بل أبطالنا هم من جعل لنا مكانة في تاريخ الإنسانية وأطلقت أسماؤهم على المدرجات العلمية كما فعلت السوربون عندما أطلقت على قاعاتها اسمي ابن رشد وابن سينا. وعلى فوهات القمر مثلما فعلت وكالة (ناسا) عندما أطلقت اسم (أبي عبدالرحمن ابن عمر الصوفي) على إحدى فوهات القمر. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون”.
ويقر زيدان أن التزييف الذي جرى في النصف الثاني من القرن العشرين لعقلنا الجمعي أدى إلى جعل البعض أبطالاً بالباطل. موضحا أن الذين اهتاجوا عندما سمعوا رأيه حول صلاح الدين الأيوبي صمتوا تماماً عندما قدم في كتاب “شجون عربية” و”شجون تراثية” الدلائل التي اعتمد عليها والحقائق التي جمعها من كتب السنة وليس من كتب الشيعة لأنهم اتهموه بالميل إلى التشيع.
وعن فكرة أن لا شيء يسلم من انتقاده حتى الكنيسة، أجاب زيدان قائلا “ليست الكنيسة بل الاستبداد الكنسي مثل تحويل الأرثوذوكس المصريين إلى عبيد لدى الكنيسة تتحكم في زواجهم وطلاقهم وأمورهم اليومية مع أن المسيح قال ‘مملكتي ليست من هذا العالم’. وإذا كنت تصدق ما زعمه الزاعمون من أن رواية ‘عزازيل’ تنتقد المسيحية فأقول لك إن بابا الفاتيكان رأس الكنيسة في العالم، عندما ترجمت الرواية إلى الإيطالية وتصدرت المبيعات هناك، صرح بأن رواية ‘عزازيل’ ليس فيها شيء ضد المسيحية، بل بالعكس هي في صف المسيحية لأنها تدعو للمحبة، والسلام”.
وفي مداخلة للناقد، والأكاديمي العراقي سعد التميمي قدّم فيها شهادة بحق يوسف زيدان وفكره وموسوعيته وتواصله المباشر والدائم مع جمهوره والإشكالات التي تثيرها عليه ذهنيته التنويرية وكثرة الخصوم، تدل على أنه صاحب رأي حر، طرح بعدها تساؤلا عن سبب طغيان الجانب الأكاديمي التنظيري على مجمل أعماله الروائية مثل رواية “عزازيل”، وأجاب زيدان قائلاً “اسم عزازيل ليس عبرياً فالكلمة ‘إيل’ هي تعني اسم الإله في لغتنا العربية القديمة وفي الآرامية وفي العبرية والارتباط بين العربية والعبرية ارتباط وثيق ولكن إيل وعزازيل من الآرامية والسريانية أكثر”.
الأدب واللغة
شدد زيدان على أن الأدب إذا خلا من الفلسفة والفكر والرسوخ والتثبت الأكاديمي يصبح مجرد حكايات ما قبل النوم أو دردشة مقاه. الأدب الرفيع مثلما رأيناه عند المتنبي والتوحيدي وعند الجاحظ بشكل أعمق وعند أبي العلاء بشكل متعمق وهذه كلها أمثلة تدل على حيوية حضور الفكر في النص الأدبي. وفي مقابل هذه الملاحظة ينتقدني كثيرون على فرط اهتمامي باللغة، وغلبة الشعرية على النص الروائي عندي حتى أنني كثيراً ما أقطع السياق السردي بنصوص شعرية.
الفلسفة والشعر، في رأي زيدان، “هما عماد التأليف الأدبي عندي ولا أظن أن أحدهما تغلب على الآخر أو بقدر المستطاع لا أجعل أحدهما يطغى على الآخر. إذا تتبعت التنوع عندي في العشرين سنة الأخيرة ستجد كتاباً فكرياً تتلوه رواية وهكذا أتنقل ما بين هذه الحدائق لأقدم نسمة استشراقية للمستقبل”.
وأقر زيدان بأنه لا طقوس محدّدة عنده للكتابة، مضيفا “إني في حالة كتابة دائمة وهذا لأني لم أنشغل بأمور أخرى. فاللغة إذ تتخلق أمامي وتحول الأوراق البيضاء إلى نصوص، وكل هذا يحدث دون طقوس معينة أحياناً أكتب على وريقات وقصاصات وأحياناً أكتب وأنا في الطريق أو في المقهى كما أنني أكتب في أوقات مختلفة، وفي ظروف مختلفة. بشكل عام أنا أفرغ نفسي للكتابة، ولا أشغلها بمشوشات أخرى”.
وعن سؤال حول مقولته التي أطلقها في عمّان “أن أحلامنا واحدة ولغتنا واحدة وبالتالي على الأديب مهمة إضافية للحفاظ على اللغة باعتبارها من الروابط الباقية بعد التباين السياسي والاقتصادي والتعليمي، إذ لم يبقَ من رابط غيرها” وعن مدى تطبيقه الفعلي لها خصوصاً وأنه ما زال يقدم كل يوم طرحاً فيه الكثير من الجدل، أجاب قائلاً “نعم قلت هذا في عمّان وفي عُمان وفي لبنان وفي مصر وفي كل مكان. وأقضي فيه وقتي بالكامل. أنظر مثلاً ما أكتبه بشكل شبه يومي على الفيسبوك. بعض هذه الكتابات مثل فقه الحب وفقه العشق وفقه الهيام صارت كتباً عالية التوزيع.”
وأضاف “اليوم فقط أخبرني الناشر الأول لكتاب ‘فقه الحب’ أن الطبعة الأولى منه وزعت 22 ألف نسخة. هذا الكتاب كان عبارة عن منشورات يومية أكتبها في زمن الغل الإخواني، عندما تولى الإخوان ومعهم السلفيون حكم مصر في هذه السنة التعيسة، حيث كان هناك حالة من الغل والكراهية المقيتة في الشارع المصري فكتبت فقه الحب بهذه اللغة الشعرية من أجل تذكير الإنسان بإنسانيته. كان ذلك فعلاً يومياً وليس مقولة نظرية أطرحها في عُمان أو غيرها”.
وتابع زيدان “أحياناً أقوم بكتابة أعمالي مرات عديدة، خصوصاً الروائية والقصصية منها، لتأتي اللغة ناصعة وواضحة. الذي فعله المتنبي ومحمود درويش والجاحظ والتوحيدي والشعراء والكتّاب العرب عبر التاريخ هو ما أفعله الآن بإعادة النصع إلى اللغة. نحن هذه اللغة وهي أفكارنا وهي وسيلة تواصلنا وطريقة حلمنا بالبعيد واستشرافنا للآتي. كل هذا يصاغ عبر المفردات وعبر اللغة لذا اهتمامي المفرط باللغة هو اهتمام واجب جداً”.
الأدب إذا خلا من الفلسفة والفكر والرسوخ والتثبت الأكاديمي يصبح مجرد حكايات ما قبل النوم أو دردشة مقاه
وعن سؤال لأحد المتابعين حول تسميته دخول الإسلام إلى مصر بالغزو، أجاب قائلاً “لا فرق بين الفتح والغزو إلا في أمر وحيد، فكلاهما يأتي بجيش من مكان إلى مكان، فإذا غلب ثم عاد إلى موطنه فهو غزو، وإذا غلب واستوطن فهو فتح، كما نقول عن محمد الفاتح لأنه فتح القسطنطينية، وهي إسطنبول حالياً، واستقر فيها، كما نقول ذلك على عمرو ابن العاص الذي غلب وبقي في مصر. كما أننا نقول غزوات النبي لأنه لم يعقب الاقتحام العسكري استقراراً حيث فرض جزية أو شيئاً آخر ثم عاد إلى موطنه. ولا أعرف سبب الحساسية من مفردتي الغزو والفتح فمفردة الغزو تم الاحتفاء بها في السنة النبوية مثل مصطلح ‘غزوات النبي’ بل ويتباهى بها الناس في ثقافتنا حيث يطلقون على أولادهم أسماء من قبيل غازي وغانم وغنيم وغنيمي”.
وحول رأيه في التسمية الأصح لدخول العرب والمسلمين إلى الأندلس، أجاب زيدان قائلاً “كان فتحاً لأنه استقر من بعد ذلك قروناً. وكلمة الاستعمار العربي للأندلس هي سيئة الدلالة الاصطلاحية لكن جيدة المعنى اللغوي، فاستعمار موطن يعني تعميره، وجعله آهلاً لكنها في الاصطلاح المعاصر تعني السيطرة على بلد آخر بالقوة العسكرية ونهب ثرواته وأنا أُفضّل أن أسميها الكولونيالية وليست الاستعمارية. دخول الإسلام إلى الأندلس كان بسبب اضطرابات سياسية واجتماعية موجودة. أما عبدالرحمن الداخل الملقّب بـ’صقر قريش’، فأرى أنه واحد من سفاحي التاريخ وليس من رجاله العظماء”.