المصريون قلقون على مائدة طعام رمضان وسط خيارات محدودة

يحل شهر رمضان هذا العام على المصريين وسط ظروف اقتصادية صعبة تجعله لا يشبه رمضان السنوات الماضية، حيث ازدادت المخاوف من تراجع التكافل الاجتماعي وجهود الحماية الاجتماعية الرسمية والخاصة على حد السواء، وهو ما يزيد قلق المراقبين من التحركات الاحتجاجية المحتملة ضد غلاء المعيشة وسياسات الحكومة في التخفيف من وطأة الأزمة.
القاهرة - عكس التسريع في إطلاق المزيد من برامج الحماية الاجتماعية في مصر قبيل شهر رمضان مخاوف الحكومة من تأثير ارتفاع مستوى الفقر على المواطنين، وعدم قدرة بعضهم على تحمل صعوبات المعيشة في ظل شعور نسبة كبيرة بغلاء الأسعار وعدم توفر الحد الأدنى من السلع الغذائية الضرورية، بما يؤثر على سلة الغذاء في رمضان.
وأطلق التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي التابع لمؤسسة الرئاسة أكبر حملة دعم للبسطاء في تاريخ البلاد خلال شهر رمضان بعنوان “كتف بكتف” من خلال توزيع كراتين السلع الأساسية على قرابة 20 مليون أسرة، في جميع المحافظات، وتوزيع اللحوم والدواجن على فترات متقاربة بمشاركة جمعيات أهلية ورجال أعمال ومؤسسات خيرية.
وتزداد مخاوف فئة من المصريين مع قدوم رمضان بعد أن أصبحوا غير قادرين على شراء سلع أساسية، مثل الأرز والزيت والسكر والبقوليات، وكل أنواع البروتينات، وباتوا مهددين خلال فترة الصيام بعدم القدرة على شراء الأغذية التي اعتادوا عليها، كجزء من ثقافة المواطنين في هذه الفترة لتنوع طعامهم ولو كانوا بسطاء.
وأظهر التوسع في زيادة أعداد منافذ بيع السلع الثابتة والمتحركة بمختلف أنحاء مصر وطرح المنتجات بأسعار مخفضة، مدى تنامي شعور الحكومة بأن المصريين لم يعد أمام البسطاء منهم سوى هذه المنافذ للحصول على سلع غذائية بأسعار زهيدة مع ارتفاع معدل الغلاء ونسب التضخم إلى مستويات فاقت قدرات غالبية المواطنين.
الحد الأدنى للإنفاق
لا تملك الأم سميرة محمد، وهي ربة أسرة مكونة من أربعة أبناء وزوج، إلا التوقف عن شراء اللحوم والفراخ والأسماك، وخفض الإنفاق على السلع الضرورية، معقبة “من كان يشتري كيلو اللحم أصبح يشتري النصف، وهكذا مع باقي السلع. نحن نعيش ظروفا بالغة القسوة، والسلع التي نشتريها اليوم بسعر يرتفع سعرها في اليوم التالي، ولا نعرف السبب، والكارثة ستكون في رمضان”.
وتتذكر الأم في حديثها مع “العرب” وقت أن كانت تدبر لشهر رمضان قبله بفترة طويلة، قائلة “كنت أشتري الفراخ والأرز والزيت والكثير من أنواع البروتين وأخزنها، وأتفنن في الطهي يوميا، الآن لا أحد يستطيع فعل ذلك، بالكاد نكفي احتياجاتنا بلا رفاهيات، نعم توجد أطعمة لا غنى عنها، لكننا نتأقلم مع الغلاء”.
وأصبح شراء عشرة كيلوغرامات من اللحوم يساوي تقريبا الحد الأدنى للأجور الذي رفعه الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام إلى 3500 جنيه (نحو 115 دولارا)، ما يجعل اقتناء هذه السلعة أمرا بالغ الصعوبة على نسبة كبيرة من المصريين، وصارت كل وجبة تحتاج إلى أموال لا يقدر عليها البسطاء ومحدودو الدخل، إذا أضيف لوجبة اللحم بعض من الأرز والخضروات.
وتزداد المعاناة وترتفع معدلات البؤس عند البسطاء ومتوسطي الدخل مع اقتراب شهر رمضان، وإذا كانت الأسواق والشوارع تتزين لإسعاد المارة والزبائن فهناك أناس يخشون أن تتغير الصورة هذا العام في ظل موجة الغلاء التي تضرب المنتجات في البلاد صاحبة التعداد السكاني الأكبر عربيا، فيما تقف الحكومة المصرية عاجزة عن مواجهة الاحتكار والتلاعب في الأسعار من أصحاب المصالح.
ويعيش أكثر من نصف المصريين تحت خط الفقر، وهؤلاء يمثلون قاعدة شعبية هامة ساندت الرئيس السيسي وقت الأزمات على أمل الخروج من دائرة الجوع، وتدرك الحكومة ضرورة احتواء غضب هذه الطبقة الذي يشكل تهديدا وأن المواجهة الأمنية الممتدة غير مضمونة حيث لا يملك هؤلاء ما يخسرونه واللعب معهم في لقمة العيش مواجهة خطرة.
برامج الحماية لا تكفي
بدت الطريقة التي تدير بها الحكومة علاقتها مع البسطاء مؤخرا عصية على الفهم، حيث اعتادت خطب ود الفقراء ومحدودي الدخل في أغلب رسائلها، وتتحدث عن برامج الحماية الاجتماعية وتوفير حياة كريمة للفئات غير المقتدرة.
وأصبح ذلك في صدارة اهتمامات مؤسساتها، لكنها لا تخشى تحريك الأسعار أو التدخل لضبط إيقاع الأمور، على الرغم من أنها تُدرك خطورة انفجار الغضب أمام عجز الناس عن توفير البدائل وتكدير فرحتهم في شهر الصيام.
وتبدو خيارات الكثير من الأسر محدود للغاية لتجاوز واقع الغلاء الذي طال كل شيء. ومن هؤلاء عماد السيد الذي يعيش في حي المطرية الشعبي بالقاهرة برفقة أربعة من أبنائه وزوجته، وقرر الاستغناء عن غالبية السلع التي اعتاد عليها، ومع ذلك أصبح مثقلا بالديون، إضافة إلى متطلبات أولاده، من مصروفات مدرسية وتكلفة مواصلات يومية وشراء احتياجات أساسية، وتخصيص مبالغ بسيطة لشراء الأطعمة الضرورية.
لا ينفي الأب خلال حديثه مع “العرب” أن المجمعات السلعية التي توفرها الحكومة ساعدت بعض الشيء في مواجهة شبح الغلاء لكونها تقدم أسعارا مخفضة بنسب تقترب من 30 في المئة، لكنها تحدد كميات ضئيلة لكل أسرة لا تكفي احتياجاتهم الأسبوعية، ما يضطر أرباب الأسر للشراء من المتاجر والأسواق العمومية بأسعار مبالغ فيها، معقبا “أخشى ألا أستطيع إسعاد أسرتي في رمضان”.
وأكثر ما يثير مخاوف عماد، وغيره من باقي البسطاء، أن تنخفض معدلات التكافل الاجتماعي في رمضان على وقع الغلاء تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية التي طالت الجميع، مضيفا “كانت أسرتي تتحصل سنويا على كميات معقولة من المساعدات في رمضان، من أغنياء وجمعيات خيرية، لكن البوادر لا تبشر بالخير، فالجميع يتأزم من الغلاء والتبرعات انخفضت، وهذا ما يقلقنا على طعامنا”.
وتوقع عادل بركات الباحث في العلاقات الاجتماعية والخبير في التنمية البشرية بالقاهرة أن يكون هناك انخفاض ملحوظ في معدلات موائد رمضان، وتراجع في نسب المساعدات الخيرية هذا العام أمام ارتفاع معدلات الغلاء وصعوبة تكرار ما كان يحدث في سنوات سابقة، لأن الظروف الاقتصادية السيئة لم تفرق بين البسطاء ومتوسطي الدخل والميسورين.
وأضاف لـ”العرب” أن جهود برامج الحماية الاجتماعية لن تكون كافية لتوفير احتياجات البسطاء وردم الهوة في سوء الأوضاع المعيشية خلال فترة الصيام، أو غيرها، فالناس يعانون في المأكل والمشرب والملبس والمواصلات والمصروفات الأساسية الأخرى، ومهما كانت هناك مظلة رعاية من الدولة، فالأوضاع ستظل قاسية على الجميع ولا بديل عن وضع قاعدة بيانات محكمة للأسر المعدمة لانتشالها من هذه الدوامة قبل أن تصل إلى مرحلة الجوع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
محرمات ومحظورات
على مستوى الحكومة، يكتشف المتابع للخطة التي تتحرك بها في علاقتها بالبسطاء، أنها قائمة على مبدأ لن ندعمكم بالطريقة التي تريدونها، بل بالأسلوب الذي تراه الدولة، فلن يتم دعم السلع الأساسية مثل الماضي، ومقابل ذلك ستكون هناك مساعدات من نوع آخر. مساعدات علانية، مثل الكراتين، ومنافذ “أهلا رمضان”، وعربات السلع الخاصة بالجيش والشرطة.
ولم تكن هناك أزمة في شهر رمضان في الماضي، إذ كان الدعم التمويني من الحقوق المكتسبة التي لا يجوز تحت أي ظرف الاقتراب منها، كأنها من المحرمات والمحظورات، حتى صار الناس يدفعون ضريبة تجرؤ الحكومة على كسر هذا الحق لترفع العبء عن نفسها وتتحرر من ذلك القيد الجبري، انطلاقا من أن أموال الدعم لا يتم حسابها على أنها إنجاز قدمته الحكومة للفقراء، لكن كجزء من الإرث القديم، هي مسؤولة عن توفيره برغبتها أو رغما عنها.
وأمام تحرر الحكومة من الدعم تدريجيا ورفضها السير على النهج القديم في أيّ ملف يستهدف حياة الفقراء أو غيرهم، زادت معاناة الناس. لكن دوائر صناعة القرار داخل الدولة تُدرك جيدا أن البسطاء مهما تحاملت عليهم الحكومة اقتصاديا لن يتأثروا بالقدر الذي يجعلهم يخرجون إلى الشارع للاحتجاج وبإمكانهم التصرف وإدارة أمورهم بأقل الإمكانيات، وفي أسوأ الظروف.
الحكومة مطالبة بتوسيع قاعدة الحماية الاجتماعية للفئات التي تستحقها بعيدا عن الدعاية السياسية لأن الواقع ينذر بعواقب وخيمة
ويرى مراقبون أن الحكومة اختبرت صبر البسطاء مرات عديدة، ومع كل تحريك في أسعار السلع والخدمات المفترض أنها مدعومة تمر الأمور بهدوء لأن الفقراء ليسوا دعاة ثورة ولا يغضبون لقلة الحيلة وتعودوا على ذلك طوال حياتهم وبإمكانهم تدبير أمورهم بطريقة تبعدهم عن الصدام مع الدولة وعندهم قناعة بأن الاستغناء عن الضروريات حل لا بديل عنه.
ونادرا ما يشتري البسطاء في الريف سلعا غذائية، فهم لديهم البروتين من خلال تربية الطيور فوق أسطح المنازل ولديهم السلع الغذائية مثل الأرز والبقوليات والخضروات من مزارعهم المملوكة لهم، ولا تتوافر لأغلبهم سيارات لشراء الوقود ويصنعون الجبن والسمن وغيرهما داخل منازلهم، وبينهم التاجر والمزارع وصاحب الحرفة ولا تحصل منهم الدولة على ضرائب، لكن بينهم فئات تعيش تحت خط الفقر.
وتكمن المشكلة في بسطاء المدينة، فهؤلاء يفتقرون إلى المزايا الموجودة عند فقراء الريف والمناطق الحدودية ويمثلون الأزمة الأكبر للحكومة، لأن خياراتهم في مواجهة أعباء الغلاء شبه منعدمة، لذلك تتوسع الدولة في توفير منافذ السلع لهم، على اعتبار أن طعامهم مرتبط بالقدرة الشرائية لا الاكتفاء الذاتي والإنتاج المنزلي، كما في الريف.
وبغض النظر عن الخيارات التي تمتلكها كل أسرة لتمرير هذه الفترة بأقل الخسائر، ودون تأثر طعامها في رمضان، ووصولها حد الحرمان من السلع الأساسية، أصبحت الحكومة مطالبة بتوسيع قاعدة الحماية الاجتماعية للفئات التي تستحق وانتقاء المستفيدين بعناية بعيدا عن الدعاية السياسية وتصوير الإقبال الجماهيري على السلع المعروضة في المنافذ الثابتة والمتنقلة على أنه انعكاس لشعبية الحكومة، لأن الواقع على الأرض وخلف الكواليس ينذر بعواقب وخيمة.