المصارحة أم الشعبوية للخروج من أزمات تونس

الحكومة التونسية مطالبة بالاهتمام أكثر بأوضاع المزارعين، وأن تلجأ إلى مصارحة الناس بالأوضاع الصعبة حتى تقدر على التغيير. فالزراعة يمكن أن تقود خارطة هذا التغيير لو أن حكومة بودن نجحت في بناء الثقة مع أهل القطاع وقامت بإجراءات تحفيزية أكثر فاعلية.
تظاهر المزارعون في مناطق كثيرة من تونس احتجاجا على زيادة أسعار الأعلاف وقطعوا الطرقات من بينها الطريق السيارة تونس - صفاقس - قابس بهدف لفت نظر السلطات إلى أن المزارعين لم يعودوا يقوون على تحمل الزيادات المتتالية في أسعار العلف الذي يورد من الخارج في أغلبه.
الحكومة التونسية لم تقرر مواجهتهم بالقوة لتفريقهم، لكنها تفهمت وضعهم واستمعت إليهم وقررت الزيادة في أسعار المواد الأساسية الحيوية مثل الحليب ولحوم الدجاج (على حسب ما قال وزير الزراعة قبل أن ينفي ذلك الناطق باسم الحكومة) ضمن خطة لامتصاص تأثير الأزمة على المزارعين.
وشهدت الكثير من ولايات (محافظات) البلاد حالة غضب في صفوف الناشطين في القطاع احتجاجا على الزيادات الأخيرة في أسعار الأعلاف.
ربما نفى الناطق باسم الحكومة الزيادة تحسبا للمزايدة السياسية، لكنها آتية اليوم أو غدا، لأن المزارعين لم يعودوا يقدرون على تحمل أعباء غلاء المواد الموردة من الخارج، وهي ناجمة أساسا عن أزمة أوكرانيا وتعقيداتها التي طالت كل شيء. كما تعود في جانب منها إلى هبوط مستوى الدينار التونسي قياسا بالدولار.
ليس المهم أن تزيد الأسعار أو لا تزيد، لكن الأهم في هذه القصة أن الحكومة التكنوقراط لم تذهب إلى المناورة أو التأجيل وفي نيتها ألا تقترب من عش الدبابير لتتركه للحكومات القادمة كما فعل من سبقوها. الأمر لا يتعلق بالعائد السياسي لهذه الخطوة، فلو تهربت الحكومات من مواجهة الحقيقة ومصارحة الناس بها لاستمرت الأزمة وتعقدت أكثر.
الإشاعات لا تترك أحدا فوق الشبهات، هذا في المطلق، فما بالك ببلد مثل تونس تطوقه الإشاعات والمؤامرات، وترتبط فيه السياسة بهتك الأسرار واستهداف الحياة الخاصة للشخصيات الفاعلة، وما قصة التسريبات وأشرطة الفيديو التي طالت حياة الرئيس قيس سعيد إلا دليل على ذلك.
لا يكون الرد على الإشاعات بمواجهتها، فكل تصريح جديد يزيد من عمر هذه الإشاعات ويعطيها قبلة الحياة. الأفضل أن يغير الرئيس سعيد الاستراتيجية تماما، وبدل من الرد على الإشاعات يوما بيوم في خطابات موجهة للناس تزيد من التساؤلات أكثر مما تبرد نار الإشاعة، فإن أفضل طريقة لكسب ود الناس وثقتهم الدائمة هي الالتفات إلى القطاعات الحيوية وخاصة قطاع الزراعة.
وهذه فرصة أمام الحكومة لتغير أسلوبها في إدارة الأزمات، وتلتفت إلى القضايا المهمة بدل الاستغراق في السياسة ومؤامراتها وتأويلاتها، فهذا ملعب كبير لا يخرج منه أحد منتصرا حتى وإن كان نظيفا وبلا سوابق.. عليها أن ترفع شعارا كبيرا تحت عنوان المصارحة أقرب الطرق لكسب ثقة الناس، والمصارحة تعني أن تقدم الواقع كما هو، مع التعهد بالتغيير. وهي نقيض الشعبوية التي توحي بأن الحكومة تحمل عصا سحرية ستغير بها كل شيء، ثم يُصدم الناس مع الوقت حين يعرفون أن شعارات الحكومة ليست سوى ضحك على الذقون.
ليست السياسة هي كل الأزمة، فهي الجزء الظاهر منها. وهناك أطراف أخرى تتخفى وراء الصراع السياسي، وهي تغذيه وتنفق عليه حتى تظل الأنظار موجهة إليه، وهناك اشتغال طويل النفس على الإشاعات حتى لا تخمد، فهي الوسيلة الوحيدة التي تجعل الناس مشدودة إلى المعارك الهامشية، وتنظر إلى القضية وكأنما هي واجهة لصراع سياسي مجرد سينتهي بمجرد أن نجلد السياسيين صباح مساء.
لكن الحقيقة أن هناك لوبيات تستثمر في هذه القصة لأن إلهاء السياسيين في معارك الهامش يحررها لتعمل مرتاحة وتنفذ ما تريد، فمن مصلحتها بقاء الدولة ضعيفة وبلا أنياب، ومن مصلحتها أن يخرج السياسيون منهكين من صراعاتهم، فلا يقدر المنتصر على شيء سوى أن يصفق طويلا علامة على قبول الأمر الواقع.
الكثير من محافظات البلاد تشهد حالة غضب في صفوف الناشطين في القطاع احتجاجا على الزيادات الأخيرة في أسعار الأعلاف
يحوز قيس سعيد على ثقة الشارع التونسي في أغلبه، وإذا أراد فعلا أن يحفظ هذا المكسب فعليه أن يلتفت لخدمة قضايا الناس، ويسد أذنيه عما يقال من خصومه من اتهامات. لكن لو استمر في المعارك الكلامية طويلا فإن ذاك الرصيد سينقص بالتدريج، ومع الوقت لن يجد الناس أي مبرر ليستمروا في دعمه رغم ثقتهم بأنه نظيف ونزيه وأنه يريد مواجهة الفساد. فكثرة الجدل تبدد المكاسب وتهز من الصورة حتى وإن كنت على حق.
ومن المهم التأكيد، أيضا، على أن ثقة الناس في قيس سعيد مرتبطة بما سيقدمه لهم، لا على التغيير الواسع الذي يعمل على تنفيذه من خلال البناء القاعدي وقلب السلطة رأسا على عقب. قد يؤسس هذا النظام للنزاهة، وقد يكون أكثر تعبيرا عن الديمقراطية لأنه يتيح تصعيد النواب أو الممثلين من الأحياء الفقيرة اعتمادا على سمعتهم وليس على أموالهم، لكن بالنهاية فهو لا يعني شيئا للناس الذين يريدون أن يروا تغييرا في حياتهم هم لا تغييرا في حياة الرئيس وأفكاره.
أزمة العلف، وأزمة القمح، وأزمة المحروقات، توفر كلها فرصة للرئيس سعيد أن يثبت أنه الشخص الذي انتظره التونسيون طويلا، ليس بالتصريحات التي تلقي بالمسؤولية على الآخرين في ما بلغته تونس من أزمات، فهذه يعرفها الناس، ولم يكونوا لينتخبوه لو لم يحسموا أمرهم في حركة النهضة الإسلامية والأحزاب المتحالفة معها، وبقية الشخصيات المستقلة التي تلعب على الحبال.
يمكن للرئيس أن يلتفت للزراعة والمزارعين وأن يضع خططا تفصيلية تكون نابعة من أبناء القطاع وليس من الوسطاء أو الوكلاء الذين تجدهم في كل مكان. ويمكن للدولة أن تضخ أموالا لمساعدة المزارعين على تطوير طرق العمل، وكذلك اتخاذ إجراءات تحفيزية ضرورية مثلما جرى منذ أيام حين قررت الحكومة شراء محصول الحبوب المنتج محليا خلال الموسم الحالي بأسعار تفضيلية، في محاولة لتوفير الدعم للمزارعين الذين يشكون من قلة الدعم والجفاف منذ سنوات.
وكانت الحكومة قد رفعت الشهر الماضي سعر شراء القمح والشعير من المزارعين المحليين، حيث تنتشر حقول الإنتاج في العديد من مناطق البلاد وخاصة في دقة بولاية (محافظة) باجة شمال غرب البلاد التي تشتهر بزراعة أحد أنواع القمح عالي الجودة.
وأعلن نصرالدين النصيبي المتحدث الرسمي باسم الحكومة الخميس أن حكومة نجلاء بودن تعمل في الوقت الحالي على برنامج لتحسين كفاءة الإنتاج المحلي للتقليل من الاعتماد على توريد هذه المادة.
وهذه خطوة على بساطتها، فهي تشعر المزارعين أن الحكومة تقف إلى جانبهم، ما يدفعهم إلى الاستمرار في جهودهم لتحدي عدة عوامل من بينها الطرق التقليدية في العمل الزراعي، وغياب الدعم، وخاصة قضية الديون التي تؤرق صغار المزارعين، والتي تحتاج إلى وجود الدولة بجانبهم لتفاوض البنوك وتضغط وتعطي الامتيازات والوعود لحل هذا الإشكال، فضلا عن أزمة الجفاف.
هناك أطراف أخرى تتخفى وراء الصراع السياسي، وهي تغذيه وتنفق عليه حتى تظل الأنظار موجهة إليه
إن التركيز على قطاع الزراعة سيساهم بشكل كبير في خفض الأسعار لكونه سيقلص من الاعتماد على المواد الموردة، والتي تباع بأسعار عالية بسبب وضع الدينار. لا أحد يتوقع أن تحقق البلاد الاكتفاء الذاتي في قطاع حيوي، على الأقل في المدى القريب، لكن اهتمام الدولة به سيحسن الأوضاع ويمنع حدوث انفجار اجتماعي بات مرجحا بشكل كبير في ظل غلاء الأسعار وتوقعات بارتفاع أكبر.
إن الحكومات التي جاءت بعد ثورة 2011 لم تفعل شيئا لحل الأزمة الاقتصادية. ومن المهم التأكيد على أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ليس إلا نقطة صغيرة من بحر التغيير المطلوب، وأن هناك خطوات كثيرة يمكن للحكومة أن تسارع لها وحدها، من مثل تقليص الإنفاق الحكومي، فهناك تبديد للمال العام في مستويات مختلفة تحت عناوين فضفاضة لا يمكن أن تقبل بها دولة تريد أن تتقشف. وهناك فساد إداري واسع، وانتدابات عشوائية تتحكم فيها عوامل السياسة والنقابة والمحسوبية، يمكن أن تعمل الحكومة على التحكم فيها، وتقليص الخسائر.
وهناك مؤشرات إيجابية يمكن لهذه الحكومة أو التي ستليها أن تعمل على استثمارها، من ذلك حديث رئيسة الحكومة بثقة عن النجاح في الإيفاء بتسديد أقساط الديون ودفع المرتبات في قلب الأزمة الاقتصادية، وأن تونس بحاجة إلى المزيد من الأخبار الجيدة وأن تحسن استخدامها اتصاليا ولا تضيع في زحمة الأخبار والصراعات، حتى يشعر المواطن بالأمل في أن التغيير ممكن.