المصائب تخلخل المفاهيم

ما يخيف الإنسان دائما ويبعث في نفسه الذعر هو المجهول.
الثلاثاء 2023/02/28
الإحساس بانعدام الأمان.. قاعدة أساسية تتحكم في حياتنا

“تزعجنا المصيبة التي تهددنا أكثر من تلك التي أصابتنا بالفعل”، عبارة قالها المفكر والكاهن الأميركي جون لانكستر سبالدينغ (1840 - 1916)، وتنطبق اليوم على حالات الخوف والهلع مما سوف يأتي، والتي تصيب العالم شرقا وغربا، أفرادا وجماعات.

ومن هذا المنطلق، يصبح الإحساس بانعدام الأمان هو القاعدة الأساسية التي تتحكم في حياتنا، وما عدا ذلك مجرد استراحة بين كارثتين.

أما ما أصابنا فقد أصابنا وانتهى الأمر، أي أنه صار عديم الخطر لمجرد أنه حصل وخلّف أضرارا أقل بكثير من تلك التي سوف تصيبنا على سبيل الافتراض.

وحدهم الموتى لا يخافون ولا يكترثون للفجائع، ويمتلكون ثقة عمياء في مستقبلهم فينامون مطمئنين.

إذا لم تقرأ أو تسمع يوما عن أخبار الموتى، فاعلم أنك أنت الميت.. هذه هي الحقيقة، وإن صيغت بشكل غير حقيقي.

المسألة هنا تتجاوز فلسفة التشاؤم التي نظّر لها الألماني شوبنهاور، نحو أن الوقائع هي الفكرة عنها، وليست ما وقع بالفعل، لذلك ظلت الأفكار، على مدى التاريخ، هي أكثر ما يثير الرهبة في النفوس.

ليس الموت والولادة والحب والحرب والسلم، وكل هذه القضايا الوجودية، سوى فكرتنا عنها وقد انطلقنا من معطيات ذاتية بحتة.

ما يخيف الإنسان دائما ويبعث في نفسه الذعر هو المجهول، لذلك تراه إما يسعى للاكتشاف وفك الطلاسم والألغاز أو يسلّم أمره للأقدار والقوى الخارقة.

الزلزال الأخير مثلا، والذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، كشف عن حقائق كثيرة كان الإنسان يتجاهلها ويغض الطرف عنها.

والخوف من الهزات الارتدادية هو ما عناه الكاهن الأميركي سبالدينغ بقوله “تزعجنا المصيبة التي تهددنا أكثر من تلك التي أصابتنا بالفعل”.

أما ما كشف عنه الزلزال فحقائق كثيرة تبدأ من التنبه إلى جشع الإنسان عبر الغش في البنايات المنهارة، وتمر لتخلخل مفاهيم رائجة في السياسة والوطنية والإخاء والتعايش لتنتهي عند أخذ العبرة من الكارثة، ولئن كان ذلك بعد فوات الأوان كما يحدث غالبا.

حادثة عابرة في تراجيديا هذا الزلزال الذي هز مع الأرض، المشاعر والحقائق والقناعات، وتتمثل في أن أحد متضرري الزلزال كان مستأجرا في بناية يمتلكها جاره الذي يهدده بالطرد وإخلاء البيت فجر ذلك اليوم، ما لم يسدد الأجرة.

وبالفعل، حضر المؤجر مالك البيت لتنفيذ وعيده وتهديده، وما هي إلا لحظات حتى حصلت الكارثة، ووجد الاثنان نفسيهما بعد ذلك مشردين في العراء بين الأنقاض يتدفآن مع أطفالهما على النار تحت الصقيع.

قس على ذلك من قصص درامية كثيرة حدثت في الزلزال، منها ما تناقلتها الصحافة والناس، ومنها ما سوف نقرأه ونشاهده في روايات وأفلام.. ومنها قصص لا يعلمها إلا أصحابها الذين قضوا تحت الركام، وكُتمت معهم مرة واحدة وإلى الأبد.

18