المشهد العراقي.. إما الانسداد أو التوافق الهش

الانسداد السياسي السائد من الصعب إنهاؤه من دون تفاهمات الفرقاء في كل الفضاء الوطني، سواء من خلال تشكيل حكومة توافقية، أو الذهاب إلى حكومة أغلبية موسعة، يشارك فيها من يرغب بالمشاركة.
الخميس 2022/04/07
الأحزاب الكردية ونقطة اللاعودة

مرت أكثر من خمسة شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، ومازالت الخلافات والتقاطعات بين الفرقاء السياسيين تلقي بظلالها الثقيلة على عموم المشهد العام في البلاد، بحيث باتت آفاق الانفراج والحل الحقيقي بعيدة إلى حد كبير عن متناول اليد، وبينما كان مأمولا ومتوقعا أن يصار إلى معالجة الإشكاليات التي واجهت العملية الانتخابية والسياسية خلال المراحل السابقة، وتجنب المسارات الخاطئة التي أوصلت إلى محطات حرجة ومنعطفات خطيرة، فإن الأمور ازدادت سوءا، والسلبيات تفاقمت، لتضع الجميع أمام تحد كبير واختبار عسير، يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة وحازمة، تشتمل على تنازلات، أو قل مساومات وترضيات، ومغادرة حالة الإصرار على التشبث بالسقف الأعلى للمطالب والاستحقاقات والطموحات والاشتراطات.

في السابق، كانت العقدة الأساسية تكمن باختيار رئيس الوزراء في إطار المكون الشيعي، كما حصل في عام 2005، حينما احتدم التنافس بين القيادي السابق في حزب الدعوة الإسلامية إبراهيم الجعفري، والقيادي السابق في المجلس الأعلى الإسلامي العراقي عادل عبدالمهدي، لتنتهي الأمور لصالح الأول، بفضل دعم وإسناد التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر. وبعد الانتخابات البرلمانية الأولى في نهاية عام 2005 على ضوء الدستور الجديد الذي تم التصويت عليه وإقراره في الخامس عشر من شهر أكتوبر من نفس العام، لم يكن ممكنا للجعفري البقاء في المنصب، بسبب الرفض القاطع له من قبل أطراف المكون الكردي ومعظم أطراف المكون الشيعي، لتوكل المهمة للقيادي الآخر في حزب الدعوة نوري المالكي. وبعد أربعة أعوام، واستنادا إلى مخرجات انتخابات عام 2010، ونتائجها المتقاربة بين ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، وائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي، احتدم التنافس وطال بين الاثنين على كرسي رئاسة الوزراء لمدة تسعة شهور، حتى انتهى لصالح المالكي، وفي عام 2014 بدا واضحا منذ وقت مبكر أن الأخير يخوض معركة خاسرة للفوز بولاية ثالثة، في خضم ظروف وأوضاع سياسية وأمنية معقدة وشائكة، طغى عليها حدث اجتياح تنظيم داعش الإرهابي لمدينة الموصل ومدن عراقية أخرى في يونيو من ذلك العام، وبالفعل، أدى التصدع في كيان حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون إلى قطع الطريق على المالكي، وتمهيده للقيادي الآخر في الحزب في حينه، والوزير السابق حيدر العبادي لتولي المنصب التنفيذي الأول، بعد تجاذبات حادة امتدت حوالي خمسة شهور.

خطورة الأمور تكمن في إخفاق الفرقاء الأكراد بالتوصل إلى حلول توافقية، إذ تؤكد أوساط سياسية أن إصرار الديمقراطي على التنافس على منصب رئاسة الجمهورية جاء كردة فعل على إصرار الاتحاد الوطني على ترشيح برهم صالح تحديدا دون غيره

 ورغم أن ولاية العبادي الممتدة بين عامي 2014 و2018 شهدت هزيمة داعش، وتحجيم النفوذ الكردي في محافظة كركوك الغنية بالنفط ومناطق ومدن أخرى، وتجنيب البلاد خطر الانهيار الكامل، إلا أن العبادي لم ينجح في الحصول على ولاية ثانية كما نجح سلفه المالكي من قبل، ليغادر المنصب بعد انتخابات 2018، وسط مطالبات ودعوات كثيرة وقوية بإسناد المنصب إلى شخصية مستقلة غير محسوبة على لون حزبي معين، وتم التوافق والاتفاق على عبدالمهدي، الذي شغل بعد سقوط نظام صدام عدة مواقع عليا في الدولة، من بينها وزير المالية في الحكومة الانتقالية برئاسة علاوي في عام 2004، ثم نائب رئيس الجمهورية في عهد حكومة المالكي الأولى، ثم وزيرا للنفط في حكومة المالكي الثانية قبل أن يستقيل من المنصب ويخرج من المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، الذي كان أحد أعضاء هيئته القيادية حتى عام 2017.

 ولم يتمكن عبدالمهدي، تحت ضغط التظاهرات الاحتجاجية الواسعة في بغداد والمحافظات الأخرى، ودعوات المرجعية الدينية إلى الإصلاحات، من البقاء في منصبه أكثر من عام وشهور قلائل، ليكون أول رئيس وزراء عراقي بعد عام 2003 يترك المنصب قبل إتمام ولايته الدستورية المحددة بأربعة أعوام، وقد خلفه رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي، بعد أن أخفق اثنان من المرشحين للمنصب، وهما الوزير السابق محمد توفيق علاوي، ومحافظ النجف الأسبق عدنان الزرفي، في نيل ثقة البرلمان وقبول القوى السياسية.  

وفي ظل كل ذلك الشد والجذب المحتدم والمتواصل على طول الخط حول رئاسة الوزراء، كانت الأمور تسير بانسيابية في عملية اختيار رئيس الجمهورية، وبينما كان أول رئيس جمهورية بعد سقوط نظام صدام، من المكون السني، وهو غازي عجيل الياور ابن شقيق محسن الياور شيخ قبيلة شمّر، التي تعد واحدة من أكبر القبائل العربية في العراق ويمتد وجودها إلى سوريا وبعض دول الخليج، انتقلت الرئاسة منذ عام 2005 إلى المكون الكردي، لتكون رئاسة البرلمان من حصة المكون السني. وقد تولى الزعيم الكردي الراحل جلال طالباني (1933 – 2017) منصب رئاسة الجمهورية مطلع عام 2005، إذ بقي في هذا المنصب حتى عام 2014، ليخلفه القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فؤاد معصوم لمدة أربعة أعوام.

وبما أن الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال طالباني، والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني يتقاسمان السلطة والنفوذ في الإقليم منذ عقود من الزمن، فإنهما توافقا على أن يكون منصب رئيس الجمهورية من حصة الاتحاد، فيما يكون منصب رئيس الإقليم والحكومة المحلية في أربيل من حصة الديمقراطي، وهكذا سارت الأمور على هذا المنوال حتى عام 2018، حينما رفض الديمقراطي مرشح الاتحاد برهم صالح لتولي منصب رئيس الجمهورية، وأخفق في إقناع الاتحاد بطرح مرشح آخر، لذلك أقدم على طرح مرشحه الخاص، وهو فؤاد حسين الذي كان يشغل منصب رئيس ديوان رئاسة الإقليم، ونجح صالح في حصد العدد الأكبر من أصوات أعضاء البرلمان الاتحادي، ليتغلب بفارق كبير على منافسه حسين، الأمر الذي أغضب الحزب الديمقراطي، ومثل ذلك بداية تصدع التوافق الكردي، وربما كان رحيل طالباني، وحدوث انشقاقات في حزب الاتحاد، من بين أبرز عوامل تصدع التوافق الكردي.

وإذا كان ممكنا تطويق الخلاف الكردي – الكردي في عام 2018 وحصره عند حدود ومساحات معينة، فإن ذلك لم يعد ممكنا بعد انتخابات أكتوبر 2021، حتى وصل الأمر إلى أن تشكل موضوعة رئاسة الجمهورية عقدة رئيسية لا تقل في استعصاء حسمها عن عقدة رئاسة الوزراء، والدليل على ذلك، أنه بعد أكثر من شهرين على انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي، لم يتم حسمها، التي يفترض، وبحسب السياقات الدستورية، أن ينتخب البرلمان رئيسا جديدا في غضون ثلاثين يوما من تأريخ انعقاد الجلسة الأولى بأغلبية ثلثي الأصوات.

إذا كان ممكنا تطويق الخلاف الكردي – الكردي في عام 2018 وحصره عند حدود ومساحات معينة، فإن ذلك لم يعد ممكنا بعد انتخابات أكتوبر 2021

بيد أن الدخول في لعبة التنافس بين الحزبين الكرديين على المنصب، والذهاب إلى المحكمة الاتحادية أكثر من مرة، وعدم نجاح أي من الطرفين في تحشيد العدد المطلوب لضمان فوز مرشحه، ومماطلة رئاسة البرلمان بإدراج موضوعة انتخاب الرئيس الجديد في جدول أعمال جلساتها، على أمل التوصل إلى توافقات وتفاهمات سياسية تجنب الفرقاء الذهاب إلى خيار كسر العظم، كل ذلك جعل الأمور تزداد سوءا، ومظاهر الانسداد السياسي تتسع بشكل واضح.

إن خطورة الأمور تكمن في إخفاق الفرقاء الأكراد بالتوصل إلى حلول توافقية، إذ تؤكد أوساط ومحافل سياسية من بغداد وأربيل أن إصرار الديمقراطي على التنافس على منصب رئاسة الجمهورية جاء كردة فعل على إصرار الاتحاد الوطني على ترشيح برهم صالح تحديدا دون غيره، بحيث أن الديمقراطي طرح مرشحا آخر هو وزير الداخلية في حكومة الإقليم المحلية ريبير أحمد، بعد أن قطعت المحكمة الاتحادية العليا الطريق على القيادي في الحزب ووزير الخارجية والمالية الأسبق هوشيار زيباري للترشح والتنافس على منصب الرئيس. علما أن الحزب الديمقراطي عرض عدة خيارات ومقترحات على حزب الاتحاد لاحتواء الأزمة والتفاهم والتوافق على حل وسط يرضي الطرفين، إلا أن الأخير بقي متشبثا بموقفه وخياره. وبحسب التسريبات الإعلامية، طرح رئيس الحزب مسعود بارزاني جملة مقترحات على الأمين العام للاتحاد بافيل طالباني خلال اللقاء الذي جمعهما معا في مقر بارزاني بمنتجع صلاح الدين في العاشر من فبراير الجاري، والتي تمثلت “إما قبول الاتحاد بالمناصب الوزارية التي هي من حصة الأكراد في الحكومة الاتحادية المقبلة مقابل التخلي عن منصب رئاسة الجمهورية، أو تقديم مرشح توافقي بديل، وسحب المرشحين الحاليين”، وقبل ذلك كان متداولا اسم القيادي المخضرم في الاتحاد الوطني الكردستاني ووزير الموارد المائية الأسبق في الحكومة الاتحادية عبداللطيف رشيد لتولي المنصب كبديل توافقي، لكن لم تسفر الجهود والتحركات بهذا الاتجاه حتى الآن عن نتيجة واضحة وملموسة.

وفي الوقت الذي تأمل أطراف المكون الشيعي، وتحديدا قوى الإطار التنسيقي والتيار الصدري، بأن يفلح الفرقاء الأكراد في التوصل إلى صيغة توافقية بينهما، حتى لا تجد نفسها، أي أطراف المكون الشيعي، محرجة ومرغمة على الاصطفاف إلى جانب طرف كردي على حساب الطرف الآخر، يعتقد الأكراد أن نجاح الفرقاء الشيعة في التفاهم والتوافق على آلية تشكيل الحكومة المقبلة، ومن يتولى رئاستها ومن يساهم بتشكيلها، من شأنه أن يفضي إلى حلحلة عقدة رئاسة الجمهورية.

هذا يعني أن الانسداد السياسي السائد من الصعب إنهاؤه من دون تفاهمات الفرقاء في كل الفضاء الوطني، سواء من خلال تشكيل حكومة توافقية، أو الذهاب إلى حكومة أغلبية موسعة، يشارك فيها من يرغب بالمشاركة، وطبيعي أن ذلك لن يتحقق ما لم تتضح هوية الرئيس واسمه ورسمه، لأنه هو من سيكلف مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة، ولا شك أن التوافقات سوف تكون هشة وقلقة لأن ولادتها عسيرة، وقد تؤدي إلى إعادة تدوير أغلب المشاكل والأزمات، لكن مهما يكن من أمر، فهي أفضل، أو أقل سوءا وخطرا، من الانسداد والذهاب إلى المجهول.

9