المشكلة ليست في أوبك.. المشكلة في النفط

منذ ستينات القرن الماضي ناقش أعضاء أوبك ما يسمى بـ”ذروة النفط” قبل أن تبدأ الأمور في الانحدار، وفي غضون ذلك لم يدر الجدل حول الاحتياطيات المستنفدة والحد الأقصى للإنتاج، بل حول انخفاض الطلب في يوم من الأيام، والتي تزايدت الترجيحات بأنها ستصل إلى تلك النقطة في 2040 وربما قبل ذلك بكثير مما يجعل المنظمة تواجه أزمة وجودية.
واشنطن- اتجهت معظم التحليلات إلى أن أهمية أوبك خلال العقدين المقبلين ستتراجع مع استمرار تسارع التحول العالمي من الوقود الأحفوري وتقلص هيمنة النفط في قطاع النقل مع تطور البدائل مما يضاعف اضطراب سوق النفط ويجعل المنظمة التي ولدت قبل ستة عقود في مشكلة حقيقية.
ومع ذلك لم تكن التكهنات السابقة حول تراجع أوبك دقيقة، فقد صمد أعضاؤها في مواجهة عدد من الأزمات منذ تأسيسها لدرجة أن بعض المحللين يرون أن المنظمة لا تزال قادرة على التأقلم مع الأزمات.
وتعرضت أوبك إلى العديد من الأزمات أبرزها صدمة النفط الأولى في السبعينات، والثورة الإيرانية في 1979، والحرب الإيرانية العراقية في ثمانينات القرن الماضي، والغزو العراقي للكويت في 1990، والغزو الأميركي للعراق في 2003، وطفرة النفط الصخري الأميركي في القرن الحادي والعشرين.
ولكن المحللين في مركز ستراتفور للدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركي يرون أن الأزمة الحالية مختلفة إذ لم تسبب أي سابقة تحولا جوهريا أنهى تفرد البترول كوقود. وقد دفع هذا كبار أعضاء أوبك إلى التشكيك في مستقبل الكارتل وفوائد التواجد فيه علنا.
ففي ديسمبر الماضي، أشارت تسريبات إلى أن الإمارات أطلقت دراسة داخلية لمراجعة عضويتها في أوبك وما إذا سيؤدي تقييد الإنتاج إلى أزمة أصول نفطية في المستقبل. والبلد الخليجي يهدف إلى زيادة طاقته الإنتاجية إلى 5 ملايين برميل يوميا أي 93 في المئة أعلى من حصتها الحالية كعضو في أوبك بحلول سنة 2030.
وكانت قطر قد انسحبت من المنظمة في 2019 بسبب خلافاتها السياسية مع نظرائها الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي ورغبتها في التركيز على توسيع صادراتها من الغاز الطبيعي المسال في السنوات القادمة.
تآكل هيمنة النفط
تعود أهمية البترول في السوق العالمية إلى الخصائص الفريدة التي جعلته عنصرا لا غنى عنه في قطاع النقل لكن هذه الهيمنة ستتراجع مع تعزيز تنافسية السيارات الكهربائية من حيث التكلفة ومع تضاعف جرأة الحكومات في التقليل التدريجي من سيارات الديزل والبنزين بحلول سنة 2040.
ومع ذلك، ورغم احتمال بلوغ ذروة الطلب على النفط خلال العقد المقبل، من المرجح أن يصل فترة استقرار مع تواصل ارتفاع أعداد السيارات والتي من شأنها أن تمنع الطلب من الانخفاض بشكل كبير خلال ثلاثينات القرن الحالي. وساهمت كثافة الطاقة وسهولة نقل النفط النسبية وأمنها في احتكاره لقطاع النقل بينما يعاني كل بديل من عيوب كبيرة لكن هذا الوضع وصل فصله الأخير على ما يبدو.
وتشير شركة بريتيش بتروليوم إلى أن الطلب على النفط بلغ ذروته، وتظهر التوقعات الأكثر تفاؤلا إلى أنه قد يصلها بحلول ثلاثينات القرن الحالي مع تأثير الأزمة الصحية على هذا القطاع.
وتعمل الحكومات على تسريع التخلص التدريجي من السيارات التي تستخدم الوقود الأحفوري مثلما رأينا مع إعلان المملكة المتحدة في نوفمبر الماضي عن نيتها حظر بيع سيارات البنزين والديزل ابتداء من 2030، أي قبل خمس سنوات من الموعد المحدد سابقا.
ومع ذلك، سيحدث التحول الكامل على مدى عقود، إذ تبقى عملية تغيير نوعية السيارات طويلة في البلدان المتقدمة ومن المقرر أن يستمر الطلب على النفط للنقل في النمو في البلدان النامية.
تراجع دور أوبك
بينما تؤكد أوبك أن يبلغ الطلب على النفط ذروته 2040، لكن مركز ستراتفور يرى أن هذا الموقف يعكس تأثيرا سياسيا كبيرا من الدول المنتجة للنفط، إذ هناك مؤشرات تعطي لمحة متشائمة عن ذلك.
ففي حين تتوقع شركة إكوينور النرويجية أن يبلغ الطلب على النفط ذروته في 2027 ترجح ريستاد إنرجي أكبر شركة مستقلة لاستشارات الطاقة في النرويج أن يكون ذلك في 2028، في الوقت الذي تعتقد فيه وكالة الطاقة الدولية وصول الذروة “في غضون السنوات العشر المقبلة”.
وستخفي مرحلة استقرار الطلب على النفط التطورات داخل دول أوبك التي من المحتمل أن تؤدي إلى تحويل تركيز المنظمة عن دعم الأسواق رغم أن هذه العملية ستكون طويلة. ويعلق قادة أوبك الذين سعوا لدعم الأسعار مثل السعودية والإمارات في معارك لنيل حصة في السوق مع منتجي النفط من خارج أوبك مثل روسيا والولايات المتحدة.
وقد أصبح لمنتجي أوبك حافز أقل لدعم الأسعار ومصلحة في التوجّه إلى البدائل في قطاع النقل لأنها أكثر تنافسية من حيث التكلفة. ومن غير المرجح أن تختفي أوبك في أي وقت قريب بسبب الفوائد التنظيمية والفنية للعضوية، لكن أهميتها كجهة فاعلة في السوق ستتراجع.
وليست الإمارات العضو الوحيد الذي تساءل عن تأثير تقييد الإنتاج على الأصول مستقبلا، فقد سعت السعودية والكويت إلى توسيع إنتاج النفط، ونظّمت الرياض مراجعات مماثلة في الماضي. وسيستمر تراجع أهمية النفط في دفع جهود التنويع في البلدان المنتجة، لكن مدى نجاحها على المدى القصير ستختلف باختلاف البلد وبيئته.
وتبقى الإمارات والكويت في وضع أفضل لمواجهة العاصفة نظرا إلى سنوات من احتياطيات النفط المتراكمة في صناديق الثروة السيادية، في حين سيعاني أعضاء أوبك الأفقر مثل العراق والجزائر وأنغولا ونيجيريا بقدر كبير، وربما دائم، من الأزمات المالية في المستقبل المنظور.
وستنخفض الأهمية السياسية العالمية وتأثير الدول المنتجة للنفط في المستقبل إذ تصبح أوبك منظمة عالمية أقل أهمية ولا تحمل العلاقات الودية بين الدول المنتجة للنفط نفس الفوائد كما كانت في السابق.
وربما لم تكن هناك علاقة قائمة على المصالح المشتركة في استقرار سوق النفط وإمداداته بنفس أهمية العلاقة السعودية الأميركية. وستخضع تلك العلاقة لتحول دراماتيكي بينما يتراجع التركيز على النفط في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
الأهمية السياسية العالمية وتأثير الدول المصدرة للنفط سينخفضان مستقبلا، حيث ستصبح أوبك منظمة أقل أهمية ولن تحمل العلاقات الودية بين المنتجين نفس الفوائد كما كانت في السابق
ويبقى التركيز الأميركي في منطقة الشرق الأوسط على الأمن المادي ومواجهة النفوذ الصيني والروسي والإيراني وعلى المخاوف المرتبطة بحقوق الإنسان.
ولن تتأثر سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بالسعودية ودورها في مثل هذه المصالح بمخاوف من الدرجة الثانية والثالثة بشأن استقرار سوق النفط. وقد أدرك بعض منتجي النفط الرئيسيين، مثل الإمارات، هذا التحول وحاولوا توسيع مكانتهم الدولية عبر آليات أخرى، مثل التمويلات والتجارة والأمن. وستتسارع هذه العملية عندما يصبح النفط أقل أهمية.
كما سيغيّر تراجع تأثير أوبك الطريقة التي ستستجيب بها أسواق النفط للأزمات. ففي السابق، كانت المنظمة تضاعف الإنتاج أو تخفضه لمحاولة تثبيت أسعار النفط، وتعويض الانخفاض في الإنتاج في أماكن أخرى أثناء النزاعات مثلا وتراجع نجاحها في ضمان بيئة أسعار مستقرة ببطء بمرور الوقت، إذ كان سوق النفط مشبعا بمنتجين آخرين.
لكن، أظهرت الاستجابة لفايروس كورونا المستجد الذي ضرب العالم وانهيار أسعار النفط في 2014 أنه لا يزال بإمكان أوبك تنظيم استجابة كبيرة في أي أزمة إلا أن تنظيم مثل هذه الاستجابات سيصبح أكثر صعوبة في المستقبل. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة التباين في الأسعار أثناء صدمات الطلب والعرض.