المشاكل النفسية تلاحق الشباب العرب في دول اللجوء

الأفكار المسبقة عن "الحياة الوردية" تصطدم بجدار الوحدة وصعوبة الاندماج.
الأحد 2020/11/15
إجراءات طويلة تستنفد صبر الشباب

يرافق الشعور بالوحدة الغالبية العظمى من اللاجئين الشباب الذين كانوا يحلمون بمستقبل مثالي في بلاد اللجوء. لكنّ الأمر يتجاوز الشعور عند الكثيرين بسبب صعوبات الاندماج والعزلة الاجتماعية وتراكمات سابقة في أوطانهم ليتحول إلى مشكلات نفسية تحتاج إلى علاج.

باريس – “لا أنسى الأيام الطويلة التي قضيتها في كامب اللجوء، شعور بالوحدة ووضع نفسي سيء للغاية، صعوبة في التواصل مع أي عربي مشابه للاهتمام الثقافي أو السياسي”، لكنها البداية فقط بالنسبة لمحمد الذي تطورت حالته النفسية إلى اكتئاب وقلق وقرّر أخيرا استشارة طبيب نفسي لمساعدته على الخروج من قوقعته وحالته السيئة، رغم تحسن ظروفه العامة. ويواجه الشباب العرب القادمين من مناطق الحرب في سوريا والعراق واليمن، الواقع الأوروبي في إطار متناقض، إذ تسبقهم تصورات زائفة حول الحياة الوردية، وعندما يصطدمون بالواقع يصبح لديهم إطار متناقض بين حياة اجتماعية تربوا عليها، وبين تصور زائف وواقع اجتماعي مختلف، وهذا الأمر يؤدي إلى حالات الضياع وعدم التركيز، وعدم التنظيم، خصوصًا عندما يجدون أنهم بحاجة إلى تحديد أهدافهم، وأولويات الحياة من سكن وحاجات يومية في ظل مجتمع مختلف ثقافيًا واجتماعيًا، وفي الكثير من الأحيان يكون الانتقال إلى حياة جديدة أمرا مؤلم نفسيا.

وأفادت رهف، 25 عاما، طالبة في جامعة ليل الفرنسية “لدي مخاوف كبيرة من الاندماج في مجتمع الشباب، ويلزمني الكثير من الوقت لأتعلم مصطلحاتهم، وطريقة كلامهم التي تختلف كثيرًا عن الفرنسية التي أتعلمها في الكتب”.

وأضافت “الصعوبات كثيرة، والاختلافات عميقة بيننا، ربما أتمتع بحظ أكبر كوني استطعت تجاوز بعض الصعوبات النفسية للتأقلم مع الواقع الجديد لكن الكثيرين غيري من المحيطين بي يواجهون صعوبات كبيرة في هذا الأمر ولم يتمكنوا من تجاوزها”.

ويخيف الشباب في البداية الروتين القاتل في الإجراءات الحكومية، ويجعلهم يشعرون بأن حياتهم انقضت في طوابير الإجراءات المعقدة، لكن حتى مع تسيير أمورهم ودخولهم ميادين مختلفة خصوصا الدراسة الجامعية، يبقى هناك مشكلات عديدة من قبيل صعوبات الاندماج والشعور بالوحدة، إضافة إلى تراكمات نفسية حملوها من أوطانهم جراء الأوضاع التي مروا بها خلال الحرب وفي طريق اللجوء الذي يستغرق في الكثير من الأحيان عدة شهور مضنية نفسيا وجسديا.

وقالت إيمانويل جوردان-شارتييه، نائبة رئيس ليل للحياة الطلابية “لاحظنا صعوبة التأقلم بسرعة مع الطلاب الأوائل. عندما يصلون، يكونون سعداء في البداية. ولكن بعد بضعة أسابيع أو بضعة أشهر يبدأون في الشعور بالوحدة والاكتئاب. في الكثير من الأحيان، يواجهون مشاكل في النوم ويبدأون أحيانًا في تعاطي الكحول”.

ويقول الباحثون والأطباء العاملون في الشرق الأوسط إنه غالباً ما يصاب الشباب العربي بالقلق والاكتئاب. وتتفاقم هذه الكآبة النفسية مع الوقت، حيث تساوي مستويات المشاكل النفسية بين الشباب في العالم العربي المستويات العالمية أو تتخطاها، وعند الحديث عن اللاجئين الشباب تقفز النسبة كثيرا إلى درجة مقلقة.

الحياة تتوقف عند من يعانون الاكتئاب
الحياة تتوقف عند من يعانون الاكتئاب

وأكدت نتائج دراسة قام بها أطباء نفسيون في الغرفة الاتحادية للأطباء النفسانيين في ألمانيا، أن ما بين 40 إلى 50 في المئة من اللاجئين الذين يصلون إلى ألمانيا يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية ومن الاكتئاب، ويظهر كلا المرضين معاً في نفس الوقت، ونظرا لأن الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين هم من الشباب يعني أن الظاهرة شبابية بامتياز.

وأضافت الدراسة أن 70 في المئة من اللاجئين كانوا شهود عيان على أعمال عنف، فيما تعرض أكثر من نصفهم للعنف الجسدي، كما أن 43 في المئة تعرضوا للتعذيب. ونتيجة لذلك يعاني اللاجئون من الكوابيس أثناء الليل أو خلال النهار بسبب استرجاع الذكريات التي عاشوها في الماضي.

وقال ديتريش مونز رئيس الغرفة الاتحادية للأطباء النفسانيين إنه “يمكننا الحديث عن عملية استرجاع للماضي، فحتى الضوضاء قد تتسبب في حالة تأهب داخلي للاجئين”. وعندما يعيش الضحايا يوماً محطما ومنكسرا بسبب تلك الاضطرابات، فإن ذلك “لا يساعدهم على الاندماج”.

وتركت أيضا المشكلات الاجتماعية آثارها في فئة الشباب، إذ أن الهدف الأساسي للجوء البحث عن مستقبل أفضل، لكن تترتّب عن هذه الهجرة بعض الانعكاسات والآثار الاجتماعية والنفسية، والصعوبات في التأقلم والاندماج مع وضعهم الجديد.

ويتطلب تجاوز هذه الصعوبات تفكيرا منطقيا، وواقعيا وعدم الإحساس بأنه يجب على الشاب التنازل عن حياته الاجتماعية السابقة والاندماج أكثر، إلى أن هذا الأمر ليس سهلا، لذلك من الملاحظ وجود حالات كثيرة من التشتت والضياع عند بعض الشباب، مقارنة بعدد قليل تجاوز هذه الحالة، وحدّد هدفه في حياته الجديدة.

ورغم وجود أعداد كبيرة من الشباب اللاجئين الذين يعانون من آثار الصدمات النفسية إلا أن فرص الحصول على دورات العلاج النفسي تبقى ضئيلة. فمن جهة فإنّ فرص تلقي العلاج الطبي تظل محدودة خلال الأشهر القليلة الأولى لوصول اللاجئ. كما أن المساعدين المكلفين بإدارة الشؤون الاجتماعية هم من يقرر ما إذا كان المريض بحاجة إلى العلاج أم لا.

ومن جهة أخرى هناك نقص عام في دورات العلاج النفسي في مختلف دول اللجوء، كما أن مؤسسات التأمين الصحي لا تعطي رخص العلاج إلا لعدد قليل من المعالجين النفسيين، يضاف إلى هذه العوامل أن ثقافة العيب قد تثني البعض عن اللجوء إلى العلاج النفسي.

وجمع عدد من الأطباء النفسيين بين تجارب في تقديم العلاج النفسي للاجئين وجها لوجه داخل المخيمات في بلدان مختلفة وبين العلاج عبر الإنترنت، ومن الممكن أن تعوّض هذه الطريقة في العلاج جلسات العلاج التقليدية لدى الطبيب النفسي وقد تحقق في بعض الحالات حوالي 90 في المئة من نتيجة العلاج التقليدي، شرط أن يحدث التواصل عبر الصوت والصورة، لأن نبرة الصورة وتعابير الوجه تلعبان دوراً مهماً في التشخيص، لكن إذا توفرت زيارة الإخصائي النفسي، فإن التواصل المباشر يبقى الأنجع.

وللخلفية الثقافية أهمية كبيرة في العلاج النفسي وهو ما يخلق صعوبة أمام العديد من اللاجئين المقيمين في بلدان تختلف عن ثقافتهم وهذا ما يفسر الإقبال على العلاج عبر الإنترنت.

وعرض علي، 33 عاما، المقيم في برلين حالته على أطباء نفسيين عبر الإنترنت، لأنه لم يمتلك الجرأة لزيارة طبيب نفسي والخضوع لجلسات العلاج التقليدي، بسبب خوفه من التعرض للسخرية في محيطه الاجتماعي. وتم تشخيص حالته على أنها اضطراب سلوكي، ناتج عن التجربة التي عاشها داخل المعتقل في سوريا.

صعوبات الاندماج والشعور بالوحدة ينضافان إلى تراكمات نفسية حملها الشباب من أوطانهم لتشكل أزمات نفسية
صعوبات الاندماج والشعور بالوحدة ينضافان إلى تراكمات نفسية حملها الشباب من أوطانهم لتشكل أزمات نفسية

وحالة علي هي واحدة من بين العديد من الحالات التي لا تلجأ للعلاج لدى الطبيب النفسي، خوفاً من النظرة السائدة عن الطبيب النفسي في المجتمعات العربية، رغم توفر العديد من الجمعيات والمراكز التي تقدم الدعم للاجئين الذين يعانون من الاضطرابات النفسية في ألمانيا.

وفي سبيل البحث عن طرق علاجية لمن لا يفضّل زيارة طبيبي نفسي، ظهرت في الآونة الأخيرة تطبيقات إلكترونية، تقدم علاجات نفسية للاجئين عبر الإنترنت. مثل تطبيق “خطوة خطوة”، الذي أطلق على يد فريق علمي من جامعة برلين الحرة مكون من العديد من الطلاب السوريين بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنظمات دولية أخرى.

وتطبيق “خطوة خطوة” للدعم النفسي الذاتي هو جزء من المشروع الدولي STRENGTHS وهو ممول من الاتحاد الأوروبي وبالشراكة مع منظمة الصحة العالمية ومنظمات حكومية وعلمية عديدة في بلدان تحتضن أعداداً مهمة من السوريين سواء بالشرق الأوسط أو في أوروبا.

ويهدف المشروع لتسهيل الوصول إلى الخدمات الصحية النفسية. ويقدم المشروع الدعم النفسي التقليدي عبر جلسات علاج وجها لوجه مع المريض في مخيمات اللاجئين وفي بلدان أخرى مثل ألمانيا والسويد ومصر، عبر الدعم النفسي الإلكتروني على الهاتف الذكي أو الإنترنت.

من 40 إلى 50 في المئة من اللاجئين في ألمانيا يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية ومن الاكتئاب

ويحتوي التطبيق على معلومات تساعد الشخص على التعامل مع الضغوط النفسية ومشاعر القلق والتوتر والحزن، كما يساعده من خلال تقنيات معينة أثبتت فعاليتها في التغلب على هذه المشكلات وعلاجها.

ويصور التطبيق على شكل غرفة بداخلها شخصيات كل شخصية لديها قصة معينة، وبهذا يجد المستخدم شخصية قريبة منه، يستمع إليها، فضلاً عن شخصية الطبيب الذي يدرب المستخدم على كيفية التعامل مع الضغوط التي تواجهه.

وفكرة الدعم النفسي الإلكتروني ليست بالحديثة بل متداولة في أوروبا وأميركا منذ 10 أو خمسة عشر عاماً. وقال محمد سالم الغنيمي من الفريق العلمي في جامعة برلين الحرة، “لقد أثبتت الدراسات العلمية فعالية هذه الطريقة، وبناء على هذا أخذنا الفكرة وحاولنا تطبيقها على اللاجئين السوريين الذين يعانون من اضطرابات نفسية بعد الأحداث التي عايشوها بدءاً من الحرب في سوريا إلى اللجوء لبلدان أخرى”.

وما يجعل الغنيمي والفريق العلمي على اقتناع بأن فكرة الدعم النفسي الذاتي، ستحقق فعالية مثل العلاج التقليدي تعود إلى عدة أسباب، ففي دراسة أجريت بمخيم الزعتري بالأردن أظهرت أن نسبة كبيرة من السوريين لديهم إمكانية للدخول للإنترنت عن طريق الهواتف الذكية وبذلك يسهل الوصول إليهم. السبب الآخر هو أن ثقافة زيارة الطبيب النفسي أو المعالج النفسي، ثقافة غائبة في الكثير من البلدان العربية، بسبب الوصم المجتمعي، ولهذا يضمن هذا البرنامج السرية للمريض. ثالث سبب يعود إلى النقص الكبير في الكادر الطبي المختص والناطق باللغة العربية لمواكبة ودعم الأعداد الكبيرة من السوريين.

ومن خلال دراسة تجريبية أجريت على 104 سوري من المقيمين في كل من ألمانيا والسويد ومصر، الهدف منها كان التعرف على صدى تطبيق “خطوة خطوة” لدى السوريين ونتائج استخدامهم له في التعامل مع الاضطرابات النفسية التي يعانون منها، كان الصدى إيجابيا ولاقت فكرة الحصول على الدعم النفسي من البيت إعجاب المشاركين في الدراسة.

وقال أحد المشاركين من ألمانيا في تعليقه على التطبيق “من الصعب على السوريين تقبل فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي. لا يقر معظم الناس أن المرض النفسي هو مثله مثل المرض الجسدي بالضبط. لا أعرف ما إذا كان الجميع سيستخدمون هذا التطبيق للعلاج النفسي”.

الهدف الأساسي للجوء البحث عن مستقبل أفضل
الهدف الأساسي للجوء البحث عن مستقبل أفضل

 

19