المسكوت عنه في المصالحة السورية - التركية

هل وقعت تركيا الأردوغانية في خدعة حيكت لها من أطراف خارجية أم أنها أدركت أن العالم من حولها تغير بعد فشل نظام القطب الواحد وعليها أن تختار أين تضع قدميها.
السبت 2024/07/27
ألف سبب لتجاوز ثقافة الانتقام

تركيا تحاول بناء علاقات جديدة مع سوريا وإصلاح ما يمكن إصلاحه من خراب تسببت به سنوات من العداوة. هناك أصوات من داخل تركيا تقول إن أنقرة كانت ضحية خدعة، وإن الدول التي حرضتها ضد سوريا أوقعتها بفخ، وعليها الآن أن تستجيب للتغييرات في قواعد اللعبة.

إن كان هناك من خدعة فإن تركيا هي من خدعت نفسها وخدعت دول المنطقة معها، عندما دعمت أحزاب الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، ورأت في ذلك فرصة لتعزيز نفوذها وتحقيق أهدافها الإستراتيجية.

ما شجّع تركيا على المضي في هذا الطريق هو موقف بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، الداعم لأحزاب الإسلام السياسي. الدعم كان علنيا في مصر وتونس وبالخفاء في دول أخرى، وكان جزءًا من محاولة الغرب للتعامل مع القوى الجديدة التي ظهرت بعد سقوط أنظمة قالت إنها دكتاتورية. كانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ترى أن الإسلاميين يمكن أن يكونوا جزءًا من المستقبل السياسي للمنطقة، وهو ما انعكس في خطاب أوباما في القاهرة عام 2009.

ومع ذلك يجب أن نوضّح أن هذا الدعم لم يكن دائمًا واضحًا، وكان هناك تردد وتناقض في السياسات الغربية تجاه الإسلاميين. بعض المحللين يرى أن هذا الدعم كان خطأ إستراتيجيًا، وأدى إلى نتائج غير مستقرة في بعض الدول.

تركيا لم يخدعها أحد، وأردوغان لم يكن إسلاميا إلا بمقدار ما كان يطمح لإقامة إمبراطورية عثمانية جديدة. زيارة واحدة لتركيا تكفي لمعرفة أن تركيا لا علاقة لها بأحزاب الإسلام السياسي التي تحلم بالعودة بدول المنطقة إلى أيام الجاهلية

منذ بداية الأحداث عام 2011، دعمت تركيا الفصائل المسلحة المعارضة للحكومة السورية، ممّا أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين. واستخدمت تركيا مشكلة الأكراد ذريعة لتبرير تدخلها في شمال سوريا، وقالت إن وجود القوات الكردية على حدودها الجنوبية يشكل تهديدا لأمنها القومي.

في الحقيقة الوضع كان عكس ما ادعته تركيا. كل شيء كان هادئا على الحدود بين تركيا وسوريا. الأزمة الوحيدة تعود لعام 1957 في فترة من المواجهات الدبلوماسية الحادة خلال الحرب الباردة، شملت سوريا والاتحاد السوفياتي من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها بما في ذلك تركيا وحلف بغداد من جهة أخرى.

بدأت التوترات في 18 أغسطس 1957 عندما قامت الحكومة السورية برئاسة شكري القوتلي بسلسلة من التغييرات أثارت قلق الحكومات الغربية من احتمال سيطرة الشيوعيين على دمشق.

ردًا على ذلك، حشدت تركيا الآلاف من الجنود على طول الحدود السورية – التركية، وخرقت طائراتها الأجواء السورية. في المقابل، هدد خروتشوف، زعيم الاتحاد السوفياتي، بإطلاق صواريخ على تركيا إذا هاجمت سوريا.

انتهت الأزمة في أواخر أكتوبر 1957، عندما وافقت تركيا على وقف عملياتها الحدودية بضغط من الولايات المتحدة.

الخلافات لم تكن موجودة بين البلدين، فقط اختارت تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، الذي لم يخف نزعته الإسلامية وتأييده لأحزاب الإسلام السياسي، أن تقدم الدعم لكل ما قالت إنه ثورات.

هناك مئات الصور للرئيس أردوغان رافعا أصابع يده الأربعة، “إشارة رابعة”، تضامنا مع المتظاهرين المؤيدين للرئيس المصري السابق محمد مرسي بعد فض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة عام 2013.

سرعان ما اكتشف العالم الخدعة التي أوقع أردوغان نفسه فيها بدعمه لأحزاب الإسلام السياسي التي لا تحمل أيّ مشروع حضاري يمكن أن يؤهلها لحكم قرية، ما بالك بحكم دولة. وكزعيم لقوى الإسلام السياسي، أو هكذا رأى نفسه، وجد نفسه في ورطة بعد أن انفضّت الدول تباعا عن تأييد الأحزاب الإسلامية، وصنّف بعضها ضمن الإرهاب.

تركيا لم يخدعها أحد، وأردوغان لم يكن إسلاميا إلا بمقدار ما كان يطمح لإقامة إمبراطورية عثمانية جديدة. زيارة واحدة لتركيا تكفي لمعرفة أن تركيا لا علاقة لها بأحزاب الإسلام السياسي التي تحلم بالعودة بدول المنطقة إلى أيام الجاهلية.

أدرك أردوغان أن مشروع الإسلام السياسي تهاوى، وتهاوى معه حلم الإمبراطورية التي طالما حلم بها، وأن عليه أن يختار أين يضع قدميه. فاختار أن يقفز من السفينة، حتى وإن كان الوقت متأخرا.

أدرك أردوغان أن مشروع الإسلام السياسي تهاوى، وتهاوى معه حلم الإمبراطورية التي طالما حلم بها، وأن عليه أن يختار أين يضع قدميه. فاختار أن يقفز من السفينة، حتى وإن كان الوقت متأخرا

ولكن، قبل أن يمضي قُدُما في هذا الطريق هناك الكثير مما يجب عليه إصلاحه. وعلى رأس القائمة تأتي العلاقات مع دمشق. إن لم يكن من أجل عيون دمشق، فمن أجل عيون موسكو.

أردوغان كان يظن أن سوريا ستجري إليه مرحبة فور عرض فكرة المصالحة. دفعه التفاؤل إلى وضع نقطتين رئيسيتين للتفاوض، ناسيا أن سوريا سيدة التفاوض. النقطة الأولى، قال إنها تهديدات تشكلها الجماعات الكردية شمال سوريا. النقطة الثانية، هي اللاجئون السوريون الذين يقول إن تركيا “استضافتهم” داخل أراضيها بالملايين، وتسعى الآن إلى إيجاد حل يتيح عودتهم إلى بلادهم.

هناك نقطة ثالثة لم تتم الإشارة إليها، ولكن يعرفها الجميع؛ تركيا ترغب في تعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تحسين علاقاتها مع الدول المجاورة، وذلك في إطار التنافس أو التعاون مع القوى الإقليمية الأخرى مثل إيران وروسيا. والمعبر إلى ذلك يمرّ من دمشق.

قد تكون طهران التي تخشى تهميش دورها آخر من يريد رؤية صلح يعقد بين دمشق وأنقرة، ولكن الأمر مختلف بالنسبة إلى موسكو التي تجتهد لإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا.

منذ نهاية 2022، تعمل موسكو على إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة كجزء من إستراتيجية تمكّنها من مواجهة حلف شمال الأطلسي. إذا تمكنت موسكو من إعادة التقارب السوري التركي فإن موقفها تجاه أميركا سيكون أقوى، مما يعزز تواجدها في الشرق الأوسط.

وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ثمّن الدور الروسي حين قال إن توقف الصراع المسلح بين دمشق والمعارضة يمثل إنجازاً رئيسياً لتركيا وروسيا. وإن التدخل الروسي في الأزمة السورية كان له دور بارز في الحد من تأثيرات الحرب على النظام السياسي فيها.

بالنسبة إلى دمشق، المصالحة يجب أن تأتي بثمن.. والثمن الذي وضعته دمشق انسحاب القوات التركية من أراضيها.

ولكن، حتى لو تحققت شروط الجانبين، هناك شروط أخرى مسكوت عنها، يجب أن تتحقق ليعم السلام في المنطقة. أول هذه الشروط، أن تتجاوز أطراف الصراع الخلافات وثقافة الانتقام.. أمر صعب، ولكن ليس مستحيلا، إذا توفّرت إرادة سياسية قوية لدى جميع الأطراف المعنية.

9