المسرح والبرفورمانس فنان يتقاطعان لبناء خطاب يتجاوز أرسطو

كريمة بن سعد: المسرح التونسي دخل في علاقة تفاعلية مباشرة مع المتلقي.
الأربعاء 2025/04/16
صورة العرض يحددها موقع العرض

يمنح التقاطع بين أنماط وأنواع الفنون المختلفة ثراء كبيرا لكل عمل فني، ويوفر له مساحات متداخلة لتقديم رؤاه الفكرية والجمالية، ومن هنا فإن التقاطع بين المسرح والبرفورمانس أو ما يسمى العروض الأدائية، خلق عروضا من نوع آخر أكثر تأثيرا وقدرة على طرح القضايا.

تشكل الصورة منبعا ومصدرا سيميولوجيا في العرض المسرحي، حيث تعد أبرز رابط بين الفنون على اختلافها مسرحا أو تشكيلا أو سينما أو قصا أو سيركا… من هنا فإن البحث في خصوصيات الصورة الإخراجية في العرض الفرجوي، والسعي إلى تبين أوجه التقارب والتباين خاصة بين الصورة الإخراجية المسرحية في العرض المسرحي المعاصر والصورة الإخراجية في عرض البيرفورمانس، أمر صعب نظرا إلى تقارب هذين النوعين من العروض وامتزاجهما أحيانا عدة إلى حدود العجز عن التفريق بين أحدهما من الآخر.

الفنانة التشكيلية والناقدة د.كريمة بن سعد في كتابها “متاهات الصورة.. المسرح والبيرفورمانس نموذجا”، والصادر عن الهيئة العربية للمسرح، سعت إلى كشف هذا التقارب تحكمها في ذلك مجموعة من القضايا النقدية والمفاهيمية المتعلقة بمجالات عمل الفنون التشكيلية، والمسرح والنقد والصورة، ضمن السياق المحدد جغرافيا وإبداعيا وزمنيا في تونس.

عناصر مسرحية

المفردات البصرية تتحول بدورها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم في خلق المعنى حسب مقاماتها السياقية

تتساءل بن سعد كيف تتجلى الصورة الإخراجية في العرض الفرجوي التونسي المعاصر خاصة في كل من عرض المسرح والبيرفورمانس؟ وما هي خصوصياتها ودلالاتها ومكوناتها؟ هل نحن قادرون على تحديد خصوصيات العرض الفرجوي المعاصر والتمييز بين ما هو تشكيلي وما هو مسرحي، أم أن خصوصيات العمل الفني المعاصر تحررنا من جميع القيود التصنيفية وتزج بالعمل الفني نحو المطلق واللامحدود؟

تلفت بن سعد إلى أن بحثها في جمالية تشكيلات الصورة الإخراجية في العرض الفرجوي من باب الاختصاص في التشكيل، يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب هذا التحول من الفن التشكيلي الذي لا يخضع بالمفهوم الكلاسيكي للفن، للإخراج، بما أن العمل التشكيلي في ممارسته التقليدية مبني على اللوحة أو المحفورة أو النحت. فحديثنا عن الإخراج كدلالة على تنظيم مجمل مكونات العرض كان مرتبطا بالأساس بالمسرح أو السينما أو الباليه، ولم نتحدث عنه تشكيليا إلا مع الفن الجاهز للصنع، ومع الفنان دوشانب الذي أصبح يبدع طريقة لعرض أعماله الفنية، ومن ثم مع التنصيبات، ومع فن الجسد وفن الأرض وفن الفيديوغرافيا وأخيرا مع فن البيرفورمانس.

تقول: “لعل الانزياح المعاصر للمصطلحات وللوظائف وللاختصاصات خول لي كتشكيلية البحث في تشكيلات الصورة الفرجوية في المسرح والبيرفورمانس. فبحثي في جمالية الصورة الإخراجية ليس بحثا بعيدا عن فن المسرح أو متطفلاعليه، وليس بحثا متمردا على الفن التشكيلي أو متجاهلا لأسس التكوين التشكيلي الذي بدأت به حياتي الأكاديمية، بل هو بحث عن الصورة في تجل مخالف للمعهود، بحث عن صورة جمعت جميع الفنون، عن صورة ديناميكية متحركة تخضع لعنصري الزمان والمكان وتتفاعل مع حركة وديناميكية الجسد.”

ترى بن سعد أننا أصبحنا اليوم وفق ما جاء به الناقد بارتريس بافيس في كتابه “الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا” نتحدث عن الفنون المشهدية والفنون الأدائية عوض التحدث عن المسرح في مفهومه الأرسطي الكلاسيكي، والذي يطرح بدوره مفهوم الدراماتورجيا الأدائية أين “يتم الاستعانة بالأدائية في كل مكان لأجل تبيان كيفية بناء الحقائق الاجتماعية وطريقة أداء عمل ما في العالم.”

h

ويأتي ذلك تحقيقا لحضور أكثر للمشهدية، والفرجة، والصورة، والدراماتورجيا البصرية التي أصبحت تعمل على جمالية الصورة الإخراجية الحاضرة بشكل مكثف في العروض المسرحية التونسية والعربية في بداية أواخر الألفية الثانية وخلال الألفية الثالثة، من خلال حرص المخرجين على إنتاج فرجات تقوم على فنيات الأيقنة، وتجسيد الملفوظ الدرامي بالصورة والرقص والموسيقى والإنارة وابتكار الفضاءات الحركية البسيطة والمركبة التي تتيح للممثل الابتعاد عن الأداء الساكن، واستثمار جسده وموهبته في الارتجال، كما تدفع الجمهور المتلقي إلى ممارسة قراءة متعددة للإنجاز المسرحي وإلى تفكيك عناصره.

وتوضح أن هذا الحضور الكثيف للصورة كان أحد الدوافع لاختيار عدد منها كنماذج للتحليل هنا، من ذلك مسرحية “ويل للمملين” لتوفيق الجبالي، و”حدث” لمحمد إدريس، و”بوابة النجوم” لرجاء بن عمار والمنصف الصايم، و”رهائن” لعز الدين قنون، و”خمسون” للفاضل الجعايبي، و”علي بن غذاهم باي الشعب” لصابر الحامي.

هذا الاختيار يجد مبرراته من الحضور الكثيف للصورة الإخراجية بمختلف تجلياتها ودلالاتها ورموزها، ومن الاختلاف الزمني والسينوغرافي في بناء مشهدية العرض ورسم الفرجة المسرحية الحية، فالبحث لا يتسع لاستيعاب عدد كبير منها، والبحث في جمالية الصورة الإخراجية التي تعكسها، وتبين دلالاتها السيميولوجية وخصوصياتها الدراماتورجيا البصرية، لذلك اختارت عددا محدودا من العروض، أعمال التقت في عدد من من العناصر الجمالية وتباعدت في عدد آخر لبناء جمالية الصورة الإخراجية والكشف عن دلالاتها السيميولوجية في بناء الفرجة البصرية.

وتشير إلى أن البحث في جمالية الصورة الميزونسانية في المسرح التونسي من خلال تحليل هذه العروض، كشف عن جمالية وبوليفونية الصورة في الفرجة المسرحية التونسية، رغم اختلاف الدراماتورجيا المسرحية من عرض إلى آخر، وبرغم اختلاف المناهج والمدارس المسرحية التي ميزت فرقة عن أخرى، فتوجهات رجاء بن عمار ليست هي توجهات توفيق الجبالي، أو توجهات محمد إدريس. لكل واحد من هؤلاء المسرحيين والمخرجين توجهه الخاص، لكن العمل على جمالية الصورة الإخراجية انعكس في مختلف العروض – النماذج رغم تفاوته، فلئن عملت رجاء بن عمار بشكل كثيف على جمالية فضاء البعد الرابع وتوالده ودينامكيته، فقد عمل محمد إدريس على جمالية الصورة الضوئية والتكنولوجية والجسدية، في حين كشفت جمالية الصورة الإخراجية في عمل توفيق الجبالي تشكلات الجسد المباشر وغير المباشر انطلاقا من معاناة الممثل وصراعه مع ذاته.

وترى بن سعد أن مسرح الصورة يركز على الدلالات البصرية المختلفة، سعيا للوصول إلى الجوهر الحقيقي للمسرح والعودة به إلى منابعه الأولى، انطلاقا من المرئي من اللوحة لا من الكلمة، هو مسرح سيميائي، حركي، طقوسي، شعائري، سحري، يعتمد على توليد مجموعة من المفردات البصرية تتحول بدورها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم في خلق المعنى حسب مقاماتها السياقية. هو مسرح تجريبي حداثي يستعمل الحركة والإيماء والأيقونة والإشارة والرموز ويستعين بالرؤية البصرية، ويركو كثيرا على البعد الحركي والبصري والتشكيلي والسينوغرافي، وذلك على حساب سلطة النص وهيمنة اللغة والحوار الأدبي كما هو الشأن في المسرح التقليدي.

عرض البيرفورمانس غالبا لا يخضع للإعادة والتكرار فهو عرض واحد ويخضع لزمنية الإنشاء وزمنية التلقي

وتضيف أن مرتكزات مسرح الصورة تتمثل في أولا: الشعر: الجذر الشامل الأول ومازال الجذر محتشدا في جانبه الصوري واللغوي بالكثير من الأغوار والخامات التي يمكن أن تطور مسرح الصورة. ثانيا الفن التشكيلي: الجذر الثاني وقد بلغ ذروة عطائه لمسرح الصورة في الفن الفوتوغرافي. ثالثا السينما الجذر الثالث الذي يعطي للصورة حيويتها وصيرورتها. رابعا الحضور الوازن للجسد في مختلف تشكلاته وتمظهراته.

وتتوقف بن سعد عند تناولها الصورة الإخراجية والدراماتورجيا المشهدية في البيروفورمانس عند إرهاصات فن البيروفورمانس في تونس من خلال تناول تجارب عبدالرزاق الساحلي وفاطمة الشرفي وسناء الجمالي إعماري، مؤكدة أن الفترة المعاصرة ظهر فيها عدد من التجارب المهمة التي عكست في مجملها خصوصيات فن البيروفورمانس واستوفت قوانينها وقواعدها الجمالية والفنية التي أجمع عليها ممارسوها الغربيون ومن بين هذه التجارب تجربة الفنانة آمال بوسلامة والفنان بشير قرشان، هذه التجارب التي لاتزال تتواصل.

وترى أن البيروفورمانس عرض فرجوي بغض النظر عن خصوصياته ومكوناته شكيلية كانت أو مسرحية أو كوليغرافية.. وبالتالي هو يجمع جملة من الخصوصيات المتعارف عليها واللزومية في العرض مثل الإطارين المكاني والزماني، فضاء العرض مفتوح أو مغلق، الفنان، المتممات الركحية للعرض أو ما يسمى أيضا بذاكرة المواد البصرية والتي تشتمل مختلف المكونات الحاضرة مع الفنان من أكسسورات، ملابس، ديكور، إضاءة، ألوان.

 ومن ثم فإن تجارب عروض البيروفورمانس التي تم تحليلها خضعت لنفس عناصر التحليل التي خضع لها العرض المسرحي. وقد كشفت عن تنوع وثراء وانفتاح على المحيط الخارجي وزجها بالمتلقي في لعبة العرض والبناء وفي المساهمة في إنشائية الفعل الفني، وبناء تشكيلات الصورة الدراماتورجية للعرض. تجارب أظهرت التقارب الكبير بين بنائية الصورة المسرحية المعاصرة وتشكيلات الصورة في عروض البيروفورمانس من خلال عدة مكونات تلتقي في كلا الجنسين الفنيين مثل حضور الجسد، الارتجال، الاضاءة، الأزياء، والجماعي، الصوت.

التقاطع بين الفنين

Thumbnail

توضح بن سعد أنه على الرغم من التداخل الكبير بين بنائية الصورة المسرحية المعاصرة وتشكيلات الصورة في عروض البيروفورمانسإلى حد التمازج وانعدام التفريق بينهما أحيانا عديدة، وبالرغم من من تقارب إنشائية الصورة الإخراجية بينهما إلا أن عرض البيرفورمانس غالبا لا يخضع للإعادة والتكرار، فهو عرض واحد لا يتكرر، وهو يخضع لزمنية الإنشاء وزمنية التلقي، ما يعني علاقة استفزازية تفاعلية مع المتلقي تخرج به من دائرة التلقي والتقبل السلبي.

 لكن المسرح التونسي المعاصر بخروجه من العلبة الإيطالية وخروجه عن النص وتحرر جسد الممثل من القالب الجاهز للنص، وبخروجه للشارع والأروقة وللمواقع التجارية والتاريخية، دخل في علاقة مباشرة وتفاعلية مع المتلقي وأصبح يقولب بنائية صورة العرض الإخراجية وفق متطلبات موقع العرض، فأصبح يعتمد الإضاءة الطبيعية إلى جانب الإضاءة الصناعية، ويستغل الأصوات الطبيعية ويعمل بشكل مكثف على الحضور الوازن لحركة جسد الممثل ويتحضر مختلف التقنيات الرقمية مثل الفيديوغرافيا والصورة الرقمية، ويستدرج المتلقي لاعتماد حواسه الخمس خلال تلقيه للعرض لاكتشاف جمالية الصورة الدراماتورجية الإخراجية في مختلف تجلياتها وفي أقصى شموليتها.

وهكذا فإن عروض البيروفورمانس لم تؤسس لصورة إخراجية دراماتورجية مباشرة وتفاعلية فقط، بل أسست لمجموعة من المفاهيم التي أصبحت في ارتباط وثيق بالفعل الأدائي للفنان التشكيلي كزمنية الصورة والتأثير والتفاعل وبولوفونية الصورة الإخراجية في عرض البيروفورمانس.

وتخلص بن سعد إلى أن التقاطع الموجود اليوم في العرض الفرجوي عموما، وفي العرض المسرحي المعاصر وعرض البيروفورمانس خصوصا، بين الفنون أصبح يثير حيرة المتلقي للعمل الفني نظرا إلى زوال الحدود الفاصلة بينها إلى حد التماهي، ولعل ذلك مرده رغبة الفنان في إيصال فكرته إلى المتلقي بشتى الطرق وبتوظيف مختلف الوسائل لتوريطه ودفعه إلى المشاركة الفعالة في إنشائية العمل الفني ليكون جزءا مكونا للعمل وليس مجرد متلق سلبي له.

كما أن الصورة في علاقة مباشرة بعمل المخرج في إنتاج العرض الفني عموما، وهي صورة تكون مؤثثة للمشاهد واللوحات الفرجوية، حتى أنها تصير مرتبة ترتيبا متسلسلا يحيلنا إلى الانتاج الفيلمي، ولهذا يبقى العمل على الصورة ضمن سياقها الفرجوي البصري مسألة فنية يمكن قراءتها حسب مكوناتها الداخلية، إما بالألوان أو الحركة أو بالحوار الذي تتضمنه أو في علاقتها بالزمن والمكان، فالصورة في المسرح كما هو شأنها في السينما أو التشكيل تقوم على التكثيف والتركيز والتأطير.

12