المسرح الاجتماعي في تونس يخرج من الخشبات ليلتحم بالهامش

يصبح مفهوم المسرح في إطار انفتاحه على البعد الاجتماعي وخروجه من الخشبات عبر اعتماد أسلوب الورشات وتعدد المشاركات والإسهامات، أشمل وأعمق من كونه فنا فرجويا لا يحيد عن مهمتَي الترفيه والتثقيف، ليأخذ بعدا شموليا يطمح إلى المساهمة في إعداد مجتمع واع بواجباته وحقوقه، وهو ما تسعى له مجموعة من المسرحيين التونسيين إضافة إلى محاولاتهم دعم فناني الهامش.
من الغوص في مسرح المقهورين للمسرحي أوغست بوال إلى تجربة الفورم وصولا إلى حركة ‘الفنانون الناشطون’ إثر تأسيس فضاء خاص بالحركة، نرى المسرحي التونسي أيوب الجوادي يصنع طريقا مسرحيا نضاليا كأثر الفراشة في مدينة هجرتها الجماهير نحو الوهن والضياع.
يتساءل الجوادي منذ بداياته المسرحية عن علاقة الأحياء الشعبية التي نشأ فيها بالفن المسرحي التونسي بمختلف تنوعاته المشهدية.
كيف يصبح الفن المسرحي قريبا وجدانيا وفكريا ممن يعيشون على هامش السلطة؟
متى يصل الفعل المسرحي بمختلف تمظهراته خارج المسارح الرسمية التي أسستها الدولة في إطار تصور شبه ثقافي يميت الثقافة قبل المراهنة على وجودها وكيفية وجودها؟
دفاعا عن الشباب والهامش
من هنا نرى المراحل التي تبعها الجوادي في بناء تجارب راكمت قرابته بتجربة مسرح المقهورين لأوغست بوال الذي نشأ داعما للتحريض ضد الظلم والتسلطية.
سايرت هذه التجارب قصة الدولة التونسية الحديثة فنجد المجموعات المسرحية التي سايرت المسرحي الجوادي في خلق تصورات جديدة للمقاومة في الفضاء العام.
واقترنت هذه التحركات بالأحداث السياسية والاجتماعية في تونس، معتمدة على آليات فنية مسرحية معاصرة وتقنيات جمالية تنهل من الفن المسرحي كي تصبح من آليات الاحتجاج والمقاومة، فنرى تحركات احتجاجية بألوان مختلفة وإكسسوارات جعلت من وجود الفنانين الناشطين في الأوساط النضالية التونسية متميزة عن الأشكال الكلاسيكية للاحتجاج.
كما نلمح تطورا في هذه التصورات لنجد مرحلة تأسيس حركة “الفنانون الناشطون” مع المسرحي الجوادي وهو يشيد فضاء مسرحيا وسط العاصمة يجعل منه مزارا للمريدين للفن المسرحي ليأتوا من هامش نسيان المدينة لهم.
قدم الفضاء دورته الأولى للمسرح الاجتماعي وقد أطلق عليها الجوادي اسم المسرحية التونسية الفنانة رجاء بن عمار، خاصة وأنه قد اشتغل معها في عمل مسرحي وقد اكتشف الجوادي أبعاد المشروع المسرحي – الإنساني للفنانة المسرحية بن عمار مؤسسة مسرح فو مع المنصف الصايم وفضاء مدار.
وعايش الجوادي تجربة بن عمار في تأطير الشباب والإيمان بهم من خلال سبل مسرحية تسمح بوجودهم فعليا بعد الثورة كما كانت تدافع بشراسة عن استحقاق الشباب المثقف في أطر سياسية تحميه من النسيان والفقر. واتخذ الجوادي من الفنانة منبرا جماليا مدافعا على تصورات بديلة للمسرح التونسي. ومثلت بن عمار رمزا للمقاومة الفنية الجميلة والمتطورة.
وبدأ فضاء الناشطون الفنانون بالعمل على رزنامة فنية تتكون من مراحل محددة أبرزها التكوين المسرحي التي بدأها الأكاديمي والمسرحي فتحي العكاري في ورشة مسرحية تكوينية للممثلين وغير الممثلين. والعكاري هو دكتور بالجامعة التونسية بالمعهد العالي للفن المسرحي لقرابة ثلاثين سنة من التجربة في مسارات التكوين المسرحي ودقته المعرفية والمرجعية.
لكن العكاري في فضاء الفنانون الناشطون يقوم بمغامرة تكوينية نحو العمل مع شباب عايش لحظات تراجيدية مع الواقع التونسي ليختار السبيل المسرحي لإثبات الذات وحماية نفسه من هشاشة الواقع.
ويراهن الجوادي في مساره المسرحي مع الدكتور العكاري على خلق مساحة حرة للممثل وغير الممثل قصد بناء أرضية تسمح لهم بمعرفة الجمال الذي يسكن تفاصيل العالم.
كسر العلاقة العمودية
تحاول تجربة المسرح الاجتماعي من خلال هذا التوجه الثقافي اعتماد الفعل المسرحي للتفكيك لهذا الواقع السياسي – الاجتماعي قصد معرفة أطر فكرية قادرة على استيعاب المهمش والمتهاوي الذي صنعته السياسات التعليمية والثقافية السابقة.
كما نظم الفضاء لقاء مسرحيا مع المجتمع المدني في تجربة فريدة، استقبل فيها الفضاء شخصيات شبابية عاشت أحداثا قاسية اجتماعيا كتجربة السجن والمخدرات والمرض.
ليقدم لهم الفضاء مساحة يتقاسمون فيها تجربتهم عن طريق الإنصات قصد إرساء قيم التواصل المجتمعي خارج أطر الرفض والوصم الاجتماعيين.
ويحاول الفضاء من خلال هذه التجارب إرساء قيم مجتمعية تساعد المتلقي على التفاعل مع الآخر بطريقة تقدر على التقبل دون ممارسة وصاية تسلطية أخلاقية.
واستطاعت هذه التجربة اكتشاف الآخر للخطأ دون السقوط في التوظيف بل الذهاب إلى تفكيك الإشكالية في أبعادها القانونية والأنطولوجية.
وارتكزت هذه التجربة على آليات مسرحية وهي كيفية تغيير العلاقة المسرحية العمودية التي تربط بين المتفرج والباث المسرحي لتصبح العلاقة متحولة نحو مبدأ التفاعلية الأفقية أي كيف يصير الحدث الإنساني حدثا مسرحيا يكون فيه المتقبل قابلا للسؤال والنقد والبحث أكثر من استهلاك للفكرة.
تجربة المسرح الاجتماعي تحاول عبر توجهها الثقافي اعتماد الفعل المسرحي لتفكيك الواقع السياسي والاجتماعي
ويقوم الفضاء بإرساء تصور للمسرح بطريقة مغايرة ليجعل منه أفقا تحرريا للذوات المواطنية.
كما يقوم بخلق تصورات لمن يقومون بتقنيات فنية كفنون الشارع والرقص والغرافيتي والسينما ليقدم لهم مساحة للتفاعل والنقاش حول فنونهم وتجاربهم ثم تقوم ورشة السينما بتوثيق لحظاتهم الإبداعية وعلاقتها بالسلطة داخل الفضاء العمومي.
ومن تناستهم المدينة استقبلهم فضاء “الفنانون الناشطون” ليكتشفوا أفقا بديلا وممكنا في بلدهم.
ويؤكد الجوادي في كل مرحلة سياسية أن الفن المسرحي التونسي اليوم يجب أن يصطف داخل الهامش وأن يستغني عن المسائل الإنتاجية التي أرستها الدولة والتي حاصرت الأفق الإبداعي وجعلته مغتربا عن الآخر التونسي. كما يرى أن تجربة المسرح الاجتماعي ضرورية لخلق مسار تفاعلي مقاوم مع المسار السياسي للدولة التونسية اليوم عن طريق المقاومة الفاعلة والحقيقية وأن يتوجه المسرح لمن هم في الهامش حتى ينتصر على إنغلاقه حول نفسه جماليا وخطابيا.