المسرحي السوداني عوض بعباش لـ"العرب": التسلية تجرد المسرح من جمهوره

لا يمكن إنكار الدور الجمالي والفكري للمسرح العربي من ناحية ودوره الاجتماعي والسياسي في خلق الوعي والتحريض على التفكير وتغيير الوعي. ولكن في السنوات الأخيرة بات هذا الفن يواجه نظرة خاطئة تحصره في التسلية، علاوة على مواجهاته المستمرة مع السلطة. "العرب" كان لها هذا الحوار مع المسرحي السوداني عوض بعباش للاطلاع على واقع المسرح المضطرب في بلاده.
يعتبر المخرج والكاتب المسرحي عوض بعباش من أبرز التجارب المسرحية في السودان سواء في الإخاراج أو التأليف، إذ قدم تجربة لافتة نتعرف على أبرز مراحلها وتجلياتها معه في هذا الحوار.
انطلاقا من راهن المسرح السوداني ملامحه وخصائصه يقول بعباش “المسرح حاله كحال كل القطاعات تأثر تأثيرا مباشرا بالحصار الذي تلا جائحة كرونا منذ ثلاث سنوات، ويكاد يكون تأثره أكبر من المجالات الأخرى باعتبار أن الجمهور جزء من عملية صناعته ومازالت بعض الدول تعاني من جراء ذلك الحصار، ومن ضمنها السودان حيث إن راهن المسرح السوداني اليوم يكاد يكون معدوما إلا من بعض التجارب الفردية غير المستمرة، مما تسبب بركود يتواصل منذ زمن الجائحة إلى الآن”.
يبين بعباش في حديثه لـ”العرب” أن الجائحة أدت إلى توقف العروض الجماهيرية والمهرجانات المسرحية المحلية والدولية، التي كانت تعتبر مقياسا حقيقيا لما توصلت إليه العقلية الفنية في البلدان المختلفة في طريقة تفكيرها وطرحها للأفكار عن طريق إنتاج عروض حديثة تناقش ما هو قائم من قضايا وهموم. مشيرا إلى أن السودان كبلد يتميز بتعدد ثقافاته، ولتعددها وتعدد انعكاساتها الاجتماعية أصبحت ميزة لصالح المسرح السوداني عن بقية المسارح العربية، ورغم شح التجارب الفنية إلا أن ما يقدم اليوم من تجارب فردية يمكن أن يكون بوابة لمرحلة متقدمة وأكثر تطورا له بمنظور أن ما هو حقيقي وهادف هو ما يستمر ويظهر ويقدم رغم كل الظروف.
وحول جمعه بين الإخراج والتأليف المسرحي وتأثير كل منهما على الآخر عند العمل على خشبة المسرح، يرى أن “التأليف والإخراج وجهان لعملة واحدة، يكمل أحدهما الآخر، حيث يبني المخرج مقولته أو رؤيته من خلال النقاط المركزية الموجودة بنص التأليف، تظهر كما هي منقولة من الورق إلى خشبة المسرح سواء كانت منطوقة أم مرئية، وقد تكون تلك النقاط نواة لصنع نص خاص بالعرض لا ينفصل كثيرا عن النص المؤلف، إن التأليف هو جسد العرض وهيكله والإخراج هو الروح التي تبني العرض وتحييه”.
البيئة الخاصة
ويؤكد بعباش أن كل فنان ابن لبيئته تشغله القضايا التي يعيشها وتكونه فكريا واجتماعيا وثقافيا، يسعى لطرحها ومناقشتها ووضع حلول لها بما ينتجه من فن، فمعظم القضايا التي قامت من أجلها “ثورة ديسمبر” ودافعت عنها وأملت في تغييرها تتمحور ما بين قضايا الاضطهاد والفقر والحرية ودكتاتورية الحكومات وسياساتها تجاه مواطنيها، متابعا “لقد لازمت تلك القضايا السودان منذ القدم، لذلك نجدها واضحة في كل الأعمال الفنية والمسرحية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن بالغالب نجد الجوانب التي تخص المرأة من تلك القضايا تطرح باستمرار في كل أعمالي (ميديا، عذاب سوبا، تاجوج، فاطمة السمحة، وجع الذاكرة، المصحة)، فوضع المرأة هو نموذج واضح جدا لتأثرها بالقضايا التي تمر بها البلدان".
ويشير إلى أن النص المكتوب يصنع بيئته الخاصة التي يراها المؤلف، ومن خلالها يحدد المكان والزمان وما موجود ومستخدم فيهما من سينوغرافيا وغيرها، وليس بالضرورة أن تكون تلك البيئة هي نفس البيئة التي يراها المخرج ويود أن يجعلها ضمن عرضه، ولكن من باب الأخلاق وحسن التعامل يلزم المخرج بطرح رؤيته على المؤلف وما يريد تقديمه، وكذلك من باب الأخلاق لا يحق للمؤلف الرفض أو التغيير باعتبار أن لكل منهما مهام ورؤية ذات زمن محدد قبل صناعة العرض وأثناء صناعته، وعموما نادرا ما نجد الالتزام من الطرفين بتلك الأخلاق، لذلك كثيرا ما نجد مؤلفا مخرجا ومخرجا مؤلفا.
وحول مدى اختلاف العمل على نص عالمي مترجم عن نص سوداني أو عربي مؤلف، يوضح بعباش “هناك اختلاف من نص إلى آخر ولكن بعيدا عن جنسية الكاتب أجنبيا كان أو عربيا، فبشكل عام الاختلاف يوجد ما بين كاتب وآخر فقط، فهنالك مؤلفون يمنحون أفقا أوسع وخيالا أرحب يجعلك ترى العرض أمامك مكتمل العناصر، ومن القراءة الأولى، ولكن لا يعني ذلك أن هذه الميزة نجدها فيما هو عالمي أو عربي أو سوداني دون غيره فيمكن أن نجدها في الكل”.
ويلفت بعباش إلى أنه يختار فريق العمل وبعد الاختيار إذا لم يعط ـ هذا الفريق ـ شخصيات العمل ما تستحقه، يقوم بتغييره بفريق آخر، ولكن غالبا ما نجد بعض المخرجين يحصرون اختياراتهم بين ممثلين محددين، وذلك للقدر الكبير بمعرفتهم لأدائهم، والتأكد من قدرتهم على العطاء والإيمان بموهبتهم وقدرتهم العالية على الأداء بمرونة والتعامل المقبول أثناء صناعة العمل، فالممثل المحترف يبدأ احترافيته من شخصيته الحقيقية، ثم بعد ذلك موهبته وقدرته على إجادة شخصيته المختار لأدائها على الخشبة.
ويقول بعباش لـ”العرب” إن “سؤال ما إذا كان المسرح مرآة للواقع وملهما للتغيير مازال قائما، وهناك الآلاف من الأجوبة، مما لا شك فيه أن بمقدور المسرح أن يغير ويبدل ويعيد ترتيب أولويات جمهوره، مما يدل على أن المسرح قادر على خلق واقع جديد، وبما أنه كذلك من المنطقي تجدده وتجريب ما هو حديث عليه لثباته واستمراريته واستمرار عطائه، وإذا ما تتبعنا سيرورة المسرح ومراحل احتراف ممارسيه نجد أن التجريب مهم بالضرورة ويساهم بشكل كبير ومهم في تطويره، فقد وضع أرسطو من خلال نظريته قواعد المسرح الثلاثة (النص، الممثل، الجمهور) وعرف كيفية تحقيقها كثوابت رئيسية بفن المسرح، ولكن من بعده وبتتابع الأجيال وتجريبها أصبحت كيفية تحقيقها غير ثابتة وتقبل نظريات عدة، جزء منها يستغني عن النص وبعضها يستغني عن الممثل بمفهومه الأرسطي”.
ويتابع “هكذا، حتى فن التأليف المسرحي تطور عبر الأجيال من خلال التجريب فيه، وفي بعض المراحل أو المدارس كان البطل أو الشخصية الرئيسية لابد أن يكون إلها أو نصف إله، ثم أصبح شخصية ملكية ثم من الطبقة العامة إلى أن وصل إلى الاستثناء عنه بكرسي أو أي شي آخر تبنى من خلال قصة و ذروة النص، فلكل منهج ظرف مختلف عن الآخر يحتم على محترفي المسرح مجاراته أو استباقه بتجريب ليصبح متفقا عليه، فالمسرح يؤمن استمراريته وتطوره من خلال نظريات التجريب والتحديث المستمرين".
تحديات أمام المسرح
يرى المخرج السوداني أن علاقة المتفرج بالمسرح في الوقت الراهن فاترة جدا لعدة أسباب، يمكن أن تكون ضغوطات الحياة والروتين الحياتي أكبرها، حيث أصبح الذهاب إلى المسرح من آخر أولويات الناس مقارنة بأولويات أخرى، ولأن المسرح ـ للأسف الشديد ـ أصبح أداة من أدوات الترفيه فقد صار مكانا ثانويا لا يرتاده الجميع، وينظر إليه وكأنه مكان للتسلية. هذا الاعتقاد أضر بصانعي المسرح ومتفرجه على حد سواء، بحيث أن التسلية لها قواعد وقوالب معينة تهدف إلى الإضحاك والترفيه عن النفس دون أي أهداف أخرى أعمق وأكبر من ذلك، بعيدا عن أهداف المسرح الحقيقية التي تنشد التطهير أو التغريب.
ويضيف “نعم لا بد أن يجد المتفرج التسلية والترويح عن النفس في المسرح، ولكن دون أن يكون ذلك الهدف الأساسي، فهناك أكبر من ذلك، المسرح أداء من أدوات التغيير والتنوير والتقويم المجتمعي، ومنبر لطرح القضايا الشائكة واقتراح حلول لها أو لفت النظر إليها، الأمر الذي يدفع متفرجيه ليفكروا بجدية، فمثلا قد شبه أنطونين أرتو الذهاب إلى المسرح مثله مثل الذي يذهب إلى طبيب الأسنان، يعلم أنه سيتألم ولكن بعد ألمه هذا سيشفى تماما. للأسف إن ربط مفهوم التسلية بالمسرح وليس المعرفة والتثقيف والمتعة الفنية والجمالية جعل الذهاب إليه خيارا أخيرا، خاصة أن هناك أكثر من مجال ووسيلة بديلة له تؤمن للناس التسلية والمتعة، وبكل بساطة هذه الوسائل أصبحت بتناول أيديهم يمكن أن يجدوها بالقرب منهم وهم بالمنزل من خلال التلفاز أو الهاتف الذكي”.
ويؤكد بعباش أن الدعم المادي يشكل عقبة شاهقة جدا أمام قيام وتحقيق المشاريع المسرحية الهادفة، والكثير من الأعمال توقفت تماما أمام هذه العقبة وانعكس ذلك سلبا على الكثير من الفنانين الحقيقيين الذين توقفوا عن أداء نشاطهم واتجهوا لمجالات أخرى لا صلة لها بالفن المسرحي، تخلوا عن كل شيء حتى يتمكنوا من العيش وتوفير احتياجاتهم الأساسية وإعالة أسرهم، وذلك لضعف الدعم المادي واللوجستي من قبل معظم الحكومات، هذا إن وجد أصلا.
◙ المسرح بمقدوره أن يغير ويبدل ويعيد ترتيب أولويات جمهوره مما يدل على أنه قادر على خلق واقع جديد
ويتابع “في أي بلد توجد وزارة باسم الثقافة من اختصاصها ومهامها دعم ومساندة الفنون عموما والفن المسرحي من ضمنها، ولكن لا نجد أي تعامل أو خطط لمدى قريب أو بعيد تمهد لدعمه أو ضمان استمرارية نشاطه، ففي فترة ما بالسودان كانت وزارة الثقافة تحدد أشهرا معينة بالسنة لما يسمى الموسم المسرحي، تقوم بإنتاج بعض العروض إنتاجا كاملا لتقدم للجمهور بالمسرح القومي بنسبة محددة من عائده بينها وبين فريق العمل، وقد توقف هذا الدعم منذ سنين مضت”.
ويضيف “أما في الوقت الراهن إذا أرادت أي فرقة أو مجموعة إقامة عرض لها يجب أن تمر بسلسلة من الإجراءات المعقدة بين وزارة الثقافة والجهات الحكومية الأخرى من دعم لأمن، لتصديق الضرائب. إلخ. مثلا في العام 2018 قدمت دعوة مشاركة لمجموعتنا ‘مجموعة أهالينا الثقافية الفنية’ بأحد المهرجانات المسرحية بالمملكة المغربية، ومنذ استلامنا للدعوة سعى كل أعضائها بين عدة جهات طلبا لأي دعم مالي لضمان فرصة المشاركة والحصول على قيمة تذاكر السفر، وللأسف لم نتمكن من ذلك، مما دعانا إلى تقديم اعتذار رسمي لإدارة المهرجان. وهنالك أيضا فرصة أخرى ضاعت من المجموعة ما بين وزارة الثقافة ووزارة الخارجية السودانية لغياب الدعم اللوجستي والمالي. ورغم هذه التعقيدات هنالك تجارب للاستثمار في العمل المسرحي من قبل منتجين من داخل وخارج الوسط الفني، ولكن لعدم اختصاصهم بهذا المجال لم تنجح تلك المحاولات، فيمكن للاستثمار في صناعة عروض مسرحية أن يلغي الدعم المباشر للحكومات أو يغطي عليها إذا ما توفر الجو المناسب لذلك وفتحت المسارح لهذا الاستثمار“.
ويختم بعباش بأن أبرز التحديات التي يواجهها ويواجهها معه المسرحيون السودانيون تتمثل في “عودة الجمهور السوداني لمتابعة خشبات المسارح، الأمر الذي يكفل الاستمرار في إنتاج أعمال مسرحية في ظل الوضع العام المعقد جدا في البلاد، وكلنا أمل في نقابة الدراميين المكونة حديثا لوقوفها مع فناني المسرح والدراما عموما لإزالة تلك التحديات وتحقيقها".
تعريف المخرج
عوض بعباش مخرج وكاتب مسرحي سوداني درس الإخراج بكلية الموسيقى والدراما، حاصل على جائزتين لأفضل إخراج مسرحي بعرضي “ميديا حق حيواني”، بمهرجان أيام الخرطوم المسرحية وعرض “عذاب سوبا”، بمهرجان مجدي النور للمسرح التجريبي، كتب وأعد عددا من النصوص المسرحية “سجن السائر، فاطمة السمحة، ميديا حق حيواني، عذاب سوبا، تاجوج وغول الأمنيات، الصعود إلى الهاوية، وجع الذاكرة، منولوج لستة أصوات صامتة”، شارك بنص “سجن السائر” بمسابقة التأليف المسرحي التي أقيمت ضمن فعاليات مهرجان مركز عبدالكريم ميرغني للمسرح، وفاز بها بالمرتبة الثالثة. وهو عضو مؤسس لمجموعة أهالينا الثقافية الفنية.
كما شارك كمخرج مسرحي بمشروع “على الخشبة” مع المخرج والممثل الإسباني ماركو ماغوا الذي أنتجته السفارة الإسبانية بالسودان والمركز الألماني الثقافي لإنتاج العرض المسرحي “الكنداكة أماني ريناس”، قام بتأليف عدد من النصوص القصيرة لصالح جامعة الأحفاد وتدريب الطالبات عليها لإنتاج عروض مسرحية للمشاركة بها بيوم المرأة العالمي الذي تنظمة الجامعة كمنافسة بين الكليات، أقام عددا من الورش التدريبية لإنتاج عروض جماهيرية بمنهج المسرح التفاعلي بولاية الخرطوم وغرب دارفور.