"المستريح".. محتال على فقراء مصر الحالمين بالثروة

يلجأ الفقراء في مصر إلى كل الطرق لطرد عوزهم وعيش حياة كريمة لكنهم يقعون أحيانا ضحية نصب واحتيال بعد أن ظهر المستريح، وهو الرجل الذي يدّعي أنه يساعد الناس في استثمار أموالهم لتعود عليهم بأرباح طائلة، لكنه يختفي فجأة ليزداد الفقراء فقرا والطامعون ندما.
القاهرة - أفسحت الإجراءات المعقدة في البنوك المصرية المجال لبعض النصابين للاستيلاء على أموال المواطنين البسطاء. وتحت لافتة المكسب السريع، تجري الكثير من الحيل، وتمكن من يجيدون فن إقناع الناس بتحقيق أرباح كبيرة في فترة قصيرة من جمع المليارات من الجنيهات المصرية، في ظاهرة أخفقت معها جهود الحكومة في القضاء عليها، ففي كل مرة يتم القبض على “مستريح” يظهر “مستريح” آخر.
والمستريح هو اللفظ الذي يطلق على كل من يجمع أموالا لتوظيفها ثم يهرب.
تناول الفيلم السينمائي المصري “كراكون في الشارع”، بطولة عادل إمام والممثلة يسرا، منذ أكثر من ثلاثة عقود، قضية النصب على المواطنين بجمع مدخراتهم من جانب أحد الأشخاص الذين يلبسون جبة الثقة، مقابل حصولهم على عوائد في صورة وحدات سكنية أو أموال نقدية، وتنتهي القصة باكتشاف أنهم ضحايا سلموا أنفسهم إلى محتال باع إليهم الوهم وخسروا كل شيء بسبب حلم الثراء.
بعد عرض الفيلم بعامين فقط، تحوّل العمل الفني إلى حقيقة من خلال شخص يُدعى أحمد الريان قام بجمع المليارات من الجنيهات من المواطنين بحجة توظيفها في مشروعات مقابل حصولهم على عوائد شهرية بنسبة تتجاوز فوائد البنوك، وبعد فترة قصيرة اكتشف الناس أنه محتال، وألقي عليه القبض، وجرى حبسه دون تسليم الضحايا عوائدهم واختفى اسم الريان، لكن ظاهرته لا تزال باقية.
"كراكون في الشارع" فيلم تناول قضية النصب على المواطنين بجمع مدخراتهم من جانب محتالين بداعي الاستثمار والربح السريع
لم يعد الاحتيال بجمع الأموال في مصر حالات فردية، بل صار ظاهرة مجتمعية تظهر على فترات متقاربة وفي مناطق مختلفة يغذيها شغف الهروب من دوامة الفقر وتحقيق الثراء دون أي جهد، حيث يقوم المحتال بإيهام ضحاياه بتسليمهم عوائد خيالية تدفع كل من يسمع عنه إلى تسليمه كل ما يملك من أموال.
مع الوقت تغير مُسمى المحتال، وصار يُطلق عليه “المستريح” بحكم أنه يتحول فجأة من الفقر إلى الغنى وامتلاك مئات الملايين دون عناء، بل يذهب إليه الناس طواعية، ولا يحتاج الأمر سوى قدر من الإقناع والسمعة الجيدة بين أهالي المنطقة، وإشادة من بعض الموثوق بهم بحسن السلوك والأمانة حتى ينصب شباكه للإيقاع بضحاياه.
تتجلى خطورة المستريح في الواقعة الأخيرة التي شهدتها محافظة المنيا جنوب مصر، حيث جمع المحتال أكثر من ملياري جنيه خلال فترة وجيزة، حتى سقط في قبضة الأمن وأحيل إلى النيابة العامة بتهمة النصب على المواطنين، ما يثير علامات استفهام كثيرة حول استمرار الظاهرة رغم وقوع الكثير من الناس في نفس الخديعة بمحافظات مصرية عديدة خلال السنوات الماضية.
تبدو كل واقعة نسخة مكررة من الأخرى، وغالبا ما يكون الاختلاف الوحيد في طريقة توظيف الأموال أو المشروع الذي يروج له المستريح بين الناس للاستثمار فيه، لكن البدايات واحدة، من خلال الاستعانة بمجموعة من الأصدقاء والمعارف للحصول على مدخراتهم ومنحهم عوائد كبيرة شهريا، وبعد انتشار اسمه، يتهافت عليه باقي سكان المنطقة بحثا وراء الثروة.
أمّيون ومتعلّمون
لا تقتصر أسباب ظاهرة المستريحين على الجهل وارتفاع منسوب الأمية في المناطق الريفية والشعبية، فكثير من الوقائع كشفت وجود شريحة من الذين يصنفون كنخبة وقعوا ضحية للمحتالين، فهناك أطباء وصيادلة ومهندسون وإعلاميون وموظفون في أماكن مرموقة لم يسلموا من هذا الفخ، وجرى خداعهم بالعوائد الكبيرة في بادئ الأمر.
من هؤلاء (م. ع)، وهو مراسل تلفزيوني بقناة حكومية وقع فريسة شاب مستريح جمع قرابة 40 مليون جنيه من سكان بعض القرى بمحافظة تقع في دلتا مصر بدعوى توظيفها في تجارة السيارات، وقام الإعلامي ببيع جزء من نصيبه في الميراث وتسليم قيمته للمحتال، مع إقناع أخواته بتكرار نفس الفعل.
قال الضحية لـ”العرب”، إن الكثير من الأهالي كانوا يبحثون عن وسطاء للوصول إلى المحتال، وهناك من قام ببيع ما يملك من ذهب وسيارات وأراض لتوظيفها والإنفاق منها على المتطلبات المعيشية، إلى درجة أن البعض اضطر للحصول على قروض بنكية كبيرة وسلمها للشاب، بدعوى أن عوائدها من تجارة السيارات أضعاف فائدة البنوك.
معضلة ضحايا المستريحين الجدد أنهم ينبهرون في بادئ الأمر بقيمة ما يتحصلون عليه من أموال، وهي سياسة يستثمرها المحتالون لإغرائهم بإظهار حسن النوايا، حتى يقوموا بمهمة الدعاية لجلب المزيد من الباحثين عن توظيف مدخراتهم، وفجأة يبدأ التهرب من دفع المستحقات في مواعيدها ويترك المنطقة برمتها، ويختفي عن الأنظار.
يتميز المستريح بقدرة فائقة على استثمار فطنته ولباقته في إقناع ضحاياه بأن أموالهم في أمان، وبحكم أن المناطق الريفية والشعبية تقوم فيها العلاقات على الوعود الشفهية دون أوراق رسمية، مثل التوقيع على ما يثبت حصوله على أموال، يقطع على نفسه عهدا بطريقة “كلمة الشرف” التي تكون في بعض المجتمعات أقوى من قوة القانون.
ويلجأ المستريح إلى كسب ثقة المتخوفين على أموالهم بالتوقيع على شيكات تضمن حقوقهم، ما يزيد طمأنة الناس، ويتعمد عدم مفارقة الصلاة في المسجد أو الكنيسة كي يظهر لضحاياه ورعه.
ولأن المحتال ينتمي إلى عائلة معروفة ومشهود لها بالنزاهة والمصداقية وحسن السمعة غالبا، فهو يجيد التسويق لنفسه مستثمرا هذه الأساسيات التي تمثل بالنسبة إليه نقطة الانطلاق نحو إيهام المحيطين بكونه شخصية تحمل قدرا كبيرا من الأمانة، وإن لم يلتزم بكلمته، فهناك عائلة سوف تحاسبه ولن تقبل بتشويه صورتها، وقد تدفع عنه مديونياته للناس.
وقعت نادية محمد، وهي معلمة بمدرسة حكومية تقع في حي شعبي بالقاهرة، فريسة لإحدى زميلاتها التي تعمل معها بنفس المكان، حيث أوهمت المدرسين بأنها تتاجر في الملابس الجاهزة، وبعدما شاهدتها تقدم للمعلمات مبالغ كبيرة كل شهر، أقنعت زوجها وبناتها ببيع ما يملكون من ذهب لتعويض تدني الدخل الشهري لأفراد الأسرة.
وأوضحت لـ”العرب”، أن “بعض الناس كانوا يأتون إلى المدرسة ليسألوا عن سلوك وأمانة المعلمة ‘المستريحة’، وكان جميع المتعاملين معها يشهدون لها بالمصداقية والنزاهة ونظافة اليد، ولأننا معلمون ومعلمات يتعامل معنا الجمهور باعتبارنا مربيين للأجيال وكلمتنا صادقة، وأخذوا كلامنا بثقة، وضاعفوا من تعاملاتهم معها، حتى اختفت فجأة وهربت من بيت الزوجية بالأموال”.
يعكس هذا الاعتراف أن الشخص المحتال يعتمد على من يتعاملون معه في بادئ الأمر ويحصلون على عوائد كبيرة، حتى يحصل على ثقة أكبر عدد من الناس، ويتولى الضحايا القدامى، عن جهل، مهمة الترويج لمحاسن التعامل معه الشخص، بالمبادرة بتوظيف أموالهم ومدخراتهم مهما كانت قيمتها، وهو ما يغري الفئات الأقل دخلا والأكثر فقرا بالمجتمع.
رأى فاروق المقرحي مساعد وزير الداخلية الأسبق، في تصريح لـ “العرب”، أن الطمّاع يقابله نصّاب، وتدني العقوبة في قضايا النصب أحد أسباب تفشي الظاهرة، ولا يمكن إبعاد هرولة الناس لاستثمار أموالهم في مشروعات شخصية عن ضعف الوعي والجهل والخوف من المغامرة، مع أن تسليم المدخرات الحياتية لشخص بدعوى توظيفها قمة المقامرة، حتى لو كان من أهل الثقة وأقرب المقربين.
وطالبت وزارة الداخلية المصرية عام 1986 أن تكون عقوبة المستريح هي الأشغال الشاقة المؤبدة، لكن مجلس النواب في عهد نظام حسني مبارك انتهى إلى كونها خمس سنوات فقط، بالتالي قد ينصب أحد الأشخاص على الناس بمليار جنيه ثم يخرج من حبسه ويعيش حياته ويستمع بالأموال.
وأكد المقرحي أن تدني الوعي يعمي بصر البسطاء أمام العائد السريع في بداية الأمر، ولا يكلفون أنفسهم عناء السؤال عن الشخص الذي يتاجر بأموالهم، وفي كل مرة يتحرك الضحايا متأخرين ويأخذون وقتا طويلا للاستفاقة من التأثير النفسي عليهم جراء الوعود البراقة.
اللحى والجلباب
يصعب فصل انتشار ظاهرة المستريحين في مصر عن مشاركة رجال دين من أصحاب اللحى والجلباب الأبيض في الاحتيال على الناس، سواء بدخول فئة منهم مجال النصب وجمع الأموال مستغلين الثقة العمياء فيهم من جانب سكان المنطقة باعتبارهم أهلا للثقة والأمانة، أو بإباحتهم الاستثمار في الأموال بعيدا عن فوائد البنوك لادعائهم أنها محرمة شرعا.
شهد العام الماضي وقوع محتالين اثنين في قبضة الأمن أوقعا ضحاياهم باللحية، أحدهما في الإسكندرية والثاني بمحافظة الشرقية بدلتا مصر، وظل يتعامل معهما الناس كرجلين صالحين يستحيل أن يكونا نصابين لأنهما من المتدينين، وجمعا عشرات الملايين بدعوى توظيفها.
ما زال الاستثمار الحلال والاستثمار الإسلامي أبرز الشعارات التي يروج لها المحتالون في مصر لتوسيع قاعدة ضحاياهم، والمشكلة أن أغلب الأصوات السلفية التي تنتشر في المناطق البسيطة تروج لها على نطاق واسع، ورغم الفتاوى المتكررة من دار الإفتاء بشرعية فوائد البنوك لم يتم اختراق العقليات التي لديها قناعات سلبية راسخة عن فكرة فوائد البنوك.
حتى ضحايا مستريح المنيا الجديد قالوا في اعترافاتهم أمام رجال الأمن إنه استعان بمجموعة من رجال الدين لإقناع البسطاء بأن الأرباح الشرعية تأتي من التجارة، ونصحوا الأهالي بالابتعاد عن البنوك وإيداع مدخراتهم مع هذا الشخص، وتبين لاحقا أن بعض هؤلاء المتدينين كانوا يعملون معه كمندوبين ينصبون باسم الدين.
قال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في القاهرة، إن “أخطر ما في ظاهرة المستريحين أن الناس ما زالوا مقتنعين بـ’حرمانية’ التعامل مع البنوك، وهو ما يوظفه دعاة الدين لإقناع الناس بالاستثمار من خلال إيداع أموالهم مع أشخاص مشهود لهم بالمصداقية، مع منح هؤلاء المحتالين قدرا من النزاهة بشكل يعمي المتعاملين معهم من اكتشاف نصبهم”.
وأضاف لـ”العرب”، أن “شغف الفقراء ومحدودي الدخل بالمكسب السريع يجعلهم مستعدين لأي شيء لمجرد تحسن ظروفهم المادية، والانتقال إلى مرحلة يستطيعون فيها توفير احتياجاتهم بعيدا عن الاستمرار في الحرمان، وهؤلاء يكونون هدفا سهلا للمستريحين، وغالبا ما يتم استهدافهم من خلال الفوائد المبالغ فيها لإغرائهم بتسليم كل ممتلكاتهم للمحتال أمام مطاردة الفقر”.
وأشار صادق إلى أن “المستريح بطبعه يعتمد على ثقة الناس فيه، ويستثمر سيرته الحسنة لإبعاد كل الشكوك عن شخصه، ومهما جرى الحديث عن خطورة الظاهرة، يستطيع بسهولة إقناع ضحايا بأنه ليس محتالا”.
ليست انعكاسا للفقر

يبدو أن التناول الإعلامي لقضايا النصب لم يركز على خطورتها، حيث تتم مناقشتها بعيدا عن القيام بحملات توعية مستمرة للوصول إلى الفئات التي تعيش في مناطق فقيرة وشعبية ومعدومة، وصار الخطاب الديني العشوائي الذي يشرعن توظيف الأموال أقوى من الخطاب الذي يحصن الناس من النصب.
كما أن البنوك نفسها لم تصل بعد إلى الناس من الفئات الفقيرة والمهمشة لإغرائهم باستثمار أموالهم بشكل آمن، بعيدا عن محترفي توظيف المدخرات في مشروعات وتجارات وهمية، ويتم استهداف الشرائح الغنية فقط، وأمام هوس البسطاء بالثراء الذي يلبي الحد الأدنى من احتياجاتهم دون جهد، فالقضاء على ظاهرة “المستريح” سيكون صعبا.
أزمة بعض الدوائر القريبة من الحكومة أنها تعاملت مع وقائع الاحتيال على المواطنين من منظور ضيق للغاية، حيث صورت الظاهرة باعتبارها انعكاسا لتراجع معدلات الفقر بالمجتمع، وليس العكس كما تدعي تيارات مناوئة، بدليل أن “المستريح” صار يستطيع جمع مئات الملايين من الجنيهات في فترة وجيزة، ومن سكان مناطق يشتكون دائما من تدني مستوى المعيشة وندرة الدخل.
وروجت منابر إعلامية إلى أن “المصريين في حقيقتهم أغنياء والفقر مجرد شعار وهمي”، ما قد يمهد الطريق أمام الحكومة للتمادي في إصدار قرارات اقتصادية تقشفية مستغلة السيولة المادية التي يتم الكشف عنها خلال وقائع النصب، لأن أغلب هذه المدخرات مصدرها أسر بسيطة أقدمت على بيع ممتلكاتها نظير الهروب من الفقر.
بغض النظر عن إمكانية استفادة الحكومة بشكل غير مباشر من “المستريح” للترويج لفكرة تراجع منسوب الفقر من عدمه، فهي مطالبة بمواجهة الظاهرة من المنبع، برفع فوائد البنوك لإغراء كل الفئات على الاستثمار الآمن، مع تغليظ عقوبة الاحتيال بدلا من اعتبار بعض القضايا جنحا عادية بدعوى أن القانون لا يحمي المغفلين مع تكميم أفواه المحرضين على النصب بفتاوى دينية تستغل حاجة البسطاء للمال في الدعاية لمن يستغلون جهلهم وأحوالهم المعيشية للانقضاض على كل ممتلكاتهم.