المرشد السياحي سفير بلاده بلا أوراق اعتماد

من يأخذ بيد سائح نزل إلى بلاد لا يعرف لغتها ولا ثناياها ولا أبوابها، لا يعرف عاداتها وطباع أهلها؟ إنه المرشد السياحي الذي يعرف كيف يستقبل الضيف، ويفسحه ويطلعه على التفاصيل التي تسعد السائح الذي قدم ليعيش مع شعب ربما قرأ عنه شيئا لكن لا يعرف عنه أشياء، هذه المهمة يقوم بها المرشد، وهي ليست سهلة كما يظن البعض.
تونس - يستطيع “العم غوغل” أن يقدم للسائح معلومات شافية ضافية عن أقدم المواقع الأثرية في أي مدينة عربية، سواء كانت في الرباط، أو القيروان أو إربد، وحتى قلعة حلب، وله من المعلومات أيضا ما يجعلك تعرف الكثير عن أفضل الأماكن القديمة في السعودية أو سلطنة عمان، لكن السائح لا يريد أن يكون منضبطا مثل تلميذ نجيب يتلقى درسا تاريخيا مملا، يريد أن يسمع حكايات وقصص وأساطير تشده إلى المكان الذي يزوره، ولمَ لا تتخلل تلك الزيارة دعابة أو مزحة شعبية من البلد الذي يزوره، لان النوادر والفكاهة تعبّر عن روح الشعوب.
ومع تقدم التكنولوجيا، وظهور “غوغل ماب”، وتطور التطبيقات التي تُعنى بالإرشاد السياحي، يمكن أن يصل السائح حيث يريد بتوجيهات صوتية باللغة التي يفهم، مع شرح وتوضيح حول المسافة والتوقيت وحتى إشارات المرور، كما أصبحت التطبيقات التكنولوجية تلعب دور الدليل في المتاحف والمسارح والمعابد التاريخية، شعور السائح بعد أن يصل إلى حيث يريد بفضل هذه المساعدات التكنولوجية، سيكون مثل من كان تائها بلا دليل، وهو أمر لا يسعد من هو في إجازة.
التكنولوجيا في الرحلة السياحية تفي بالغرض، لكن الرحلة ستكون بلا روح، أشبه برحلة افتراضية في عالم الإنترنت، حيث يمكن للسائح أن يزور مسرح الجم في تونس، أو مدينة تدمر في سوريا وهو في بيته يجلس على أريكة، هذا ممكن جدا في عصرنا اليوم، ستكون رحلة بلا نكهة كالتي يأخذنا إليها الدليل السياحي على عين المكان، يروي لنا الحكايات والأسرار ويضيف عليها بهارات.. نعم للحكايات بهارات لا يعرفها إلا من خبر فن القص، كتب التاريخ لا تحفظ أسرار البلاد كما يحفظها ناسها، لذلك يسمي المرشدون السياحيون أنفسهم بالسفراء غير المعتمدين، فهم حقا يقدمون وجه البلاد الحقيقي للسائح، يحدثونه عن التاريخ والأبطال، أحيانا يبعثون الروح في حيطان ضخمة كما في بترا المدينة الوردية في الأردن دون أن يكونوا مملين أو ثقيلي الظل.
المرشد ممثل بارع
تبدو مهنة المرشد السياحي غير سهلة، مهمة تستدعي معرفة دقيقة بالأحداث التاريخية وحضورا ذهنيا دائما، وروح الدعابة هي بهارات الرحلة السياحية، وإلا أصبح المرشد أستاذ تاريخ أمام جمع من التلاميذ الكسالى يسرد أحداثا يحفظها عن ظهر قلب، بل يمكن أن يقرأها من كتاب ويريح نفسه من عناء الكلام.
ويحتاج المرشد السياحي في مهنته إلى اللغات، فلا يمكن أن يروي حكايات بلغة عربية فصيحة لأجنبي قادم من بريطانيا أو ألمانيا، كما لا يمكنه أن يروي نفس القصص لسائح عربي بلهجة مغربية أو تونسية، فلن يفهمه رغم أن الألفاظ والجمل عربية.
ويحتاج المرشد أيضا، إلى إلمام مفصل بتاريخ بلاده ومعرفة دقيقة بالمواقع الأثرية ومن بناها ومعمارها والأحداث التاريخية التي مرت بها، وعليه متابعة القراءة والمطالعة لتحيين معلوماته وتجديدها.
كل هذا التكوين يجعله يحصل على شهادة مرشد سياحي بعد إجراء الامتحان والإجابة على الأسئلة الكتابية، لكن هل يجعل هذا منه مرشدا ناجحا مع سياح أتوا للاستمتاع أكثر من تقبل المعلومات الجافة حول المزارات التي يمرون منها؟ حتما لا.
يحتاج المرشد إلى عشق التاريخ، وليس دراسته فقط، كما يحتاج إلى فن سرد القصص بأسلوب شيق، فهو إذن راو وليس مدرس تاريخ، والراوي يجب أن تكون له القدرة على إقناع من يسمعه،، فحين يزور مسجدا أو كنيسة مع فريق من الفرنسيين، لا بد أن تكون له القدرة على بث شعور قدسية ذلك المكان في نفس السائح، سيكون مثل واعظ ديني أو قديس، وهذا يعني أن المرشد السياحي لا بد أن يكون ممثلا فذا يستطيع أن يبعث في الأماكن الإحساس، يحتاج السائح أن يعيش عظمة جدران المسارح والمدن التاريخية التي يزورها، صوت المرشد السياحي وتغير نبراته يسافر بالسائح في التاريخ، تاريخ المكان الذي هو فيه الآن، تماما كما يفعل الراوي حين سرده للسيرة الهلالية أو لقصة عنترة وعبلة، قصة الحب الممزوجة بالشجاعة والشهامة، فالقراءة وحدها لا توصل هذه المشاعر.
المعابد والمواقع التاريخية تبعث في زائرها الرهبة، لكن المعلومات التي يقدمها المرشد السياحي بطريقة إلقائه تجعل تلك الرهبة لها مبررها التاريخي والمكان حقا كان عظيما أكثر حتى مما كان يتصور السائح، لأنه سيمده بالمعلومة التي تصلح لذلك الموقف والوقت، يجب أن يتخيل السائح زنوبيا وهي في موكبها المهيب في تدمر، وأن حنبعل شامخ كأعمدة قرطاج في الضاحية الشمالية من العاصمة التونسية.
زيارة الأسواق الشعبية أيضا تختلف عن زيارة المواقع المقدسة القديمة والبلاطات السياسية والمسارح، يحتاج المرشد أن يكون لبقا، له من روح الدعابة ما يجعل السائح يقترب من الناس في تلك الأزقة الضيقة، يسلم على هذا التاجر ويجامل الآخر، لأن التجار مزعجون بإلحاحهم على زبائنهم لشراء البضاعة، وعلى المرشد أن يكون حاضر الذكاء يجيب على أسئلة قد لا يطرحها السائح، لكنها تدور بخلده.
السياح يريدون أن يعرفوا طباع الشعب الذي يزورون، فهم لا يشاهدون عادل إمام أو دريد لحام أو لمين النهدي ليعرفوا أن الشعب المصري أو السوري أو السوداني شعوب مرحة، لذلك على المرشد السياحي أن يكون ممثلا كوميديا لبقا مرحا، لأنه هو من يستقبل ضيوف البلاد من السياح، وهو من يودعهم أيضا، والضيف نستقبله بالبشاشة والترحاب.
المحتالون من المرشدين
يفضل العاملون في القطاع السياحي أن يكون المرشد السياحي من أهل البلد، وتمنع بعض الدول على الأجانب أن يعملوا أدلاء سياحيين، رغم أن بعض الوكالات أصبحت تستخدم المترجمين كمرشدين سياحيين، وهم وإن درسوا تاريخ البلاد وجغرافية المواقع التاريخية، فلن يعرفوا روح التاريخ والأماكن، فهم لا ينتمون إليهما، غير قادرين على نقل النكتة والمزحة الشعبية كما يفعل ابن البلد الذي يعمل دليلا دون أن يبحث لها عن مرادف في اللغة الأجنبية.
هذا ما جعل شباب دول الخليج ينخرطون في هذه المهنة بعد أن كانوا يعتبرونها مهنة وضيعة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا الدور الذي يمكنهم أن يلعبوه في التعريف بوطنهم وتراثهم ونمط حياة أجدادهم البسيط والجميل.
صار هناك مولعون بالتاريخ واللغات وفن التواصل من الشباب والبنات في السعودية والإمارات وسلطنة عمان والبحرين يعملون كمرشدين سياحيين، وصارت لهم خبرة في المجال، إضافة إلى بعض المعارف الأيكولوجية، فبلدانهم غنية بالمسارات السياحية البيئية.
ويجمع المشتغلون كمرشدين سياحيين أن هذه المهنة واجب ممتع حقا، واجب في نقل المعلومة الصحيحة، والمتعة في نقل المشاعر الحقيقية والمرحة لشعب إلى السياح الباحثين عن المختلف والطريف، لكن ما يفسدها هو النصب والاحتيال والتطفل، حيث يوجد من المرشدين من يكون ضعيف النفس فيحتال على السياح الذين يثقون فيه، وهناك من يتطفل على هذه المهنة فلا يعرف أخلاقها، ومبادئها، ولا يعرف أنه بذلك يشوّه سمعة البلد والشعب إذا ما زوّر بعض الحقائق التاريخية أو من يستغل معرفته باللغة ليحتال على ضيوف البلاد.
حيل هؤلاء كثيرة ومتنوعة، تبدأ باستغلال مشاعر السائح فيستثير شفقته، والحيل كثيرة لا تنتهي.
هؤلاء المحتالون يتكاثرون رغم الردع القانوني في كل الدول العربية بتجريم أفعالهم، بالمقابل ما زال هذا القطاع يعاني من التهميش حيث يزداد الاقبال عليهم في المواسم السياحية، ويستغنى عنهم في مواسم الركودن كفصل الشتاء.
