"المرأة المهووسة".. عالم مواز يدور في الرأس بحثا عن المعنى

خوان خوسيه مياس الشخصية والراوي يحاور مياس الروائي.
الثلاثاء 2025/02/25
ليست لعبة مرايا بقدر ما هي لعبة تبادل أدوار (لوحة للفنانة سارة شمة)

عودنا الكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس سواء في قصصه أو رواياته بلعبه المتقن في محو الحدود المألوفة أو الظاهرة سلفا بين الواقع والخيال أو بين الممكن وغير الممكن أو بين الوهم والفانتازيا والواقعية، عوالم متوازية يجيد اللعب فيها وبها، وتظهر خاصة بكامل نضجها وفتنتها في روايته "المرأة المهووسة".

تخوض رواية "المرأة المهووسة" للروائي خوان خوسيه مياس في عالم اللغة وتفتح الحدود التي تفصل الواقع عن الخيال، بين العقل والجنون، والتي يشارك فيها الروائي نفسه كراو وشخصية “مياس” حيث يتبادل الأدوار مع بطلته الشابة خوليا، التي تمثل الشخصية الرئيسية في الرواية، وتتحدث بالكلمات كما لو كانوا أشخاصا، بجمل كاملة تظهرها وتعرض لها كالجيران أو المعارف.

 بعض الكلمات في الرواية تطلب منك كقارئ مساعدتها في تحمل العبء الثقيل لمعناها، والبعض الآخر يدخل عقلك ببساطة، ويغزوك بالدلالات لتوليد أفكار دون منطق ولكن برؤى جمالية.

الوهم والحقيقة

مياس الشخصية والراوي يحاور مياس الروائي، حيث تأخذهما خوليا عبر عالمها اللغوي والخيالي المهووس وتجعلهما يجلسان لكتابة رواية حيث تكون هي التي تقود القصة. تعمل خوليا في محل لبائع الأسماك وفي الليل تدرس كورسا في القواعد والخصائص الحسية للسمك لأنها تحب رئيسها روبيرتو، وهو في الواقع عالم فقه اللغة دفعته بطالة العمل في مجاله إلى العمل في بيع الأسماك.

تعيش خوليا مستأجرة في غرفة في منزل سيرافين مارباس وزوجته إميريتا، في وقت فراغها، تساعد الشابة في رعاية إميريتا المصابة بمرض عضال، تلتقي في منزلها بمياس، الذي يعد تقريرا عن القتل الرحيم. خلال زياراته، ينجذب مياس إلى فكرة تخيل حياة خوليا، وهو ما كان بمثابة جنونه، رغم أنه لتحقيق ذلك يجب عليه أن يواجه حصاره الإبداعي بمساعدة معالج نفسي. يعطل الواقع خطط مياس عندما تكشف إميريتا سر عملية قتل كانت تحرسه بغيرة طوال حياتها.

كلمات وجمل، تُرى من خلال عيون خوليا التي يختلف منطقها عن أيّ شخص آخر. امرأة لا تخاف من الكلمات السيئة، امرأة لا تفهم أحيانا منطق العالم من حولها، امرأة تدرك أنه في بعض الأحيان تختبئ الكلمات خلف ظلال معانيها الخاصة. امرأة وصفتها الألسنة الشريرة بالجنون، لأنها تعيش في عالمها الخاص. كوكب مسلح بالكلمات، عالم مبني بتركيبه الخاص؛ مع الفواصل والنقاط في الشارع، مع علامات الاستفهام التي تأتي وتذهب، والتي تظهر متنكرة، فساتين الحفلات، الأسماء التي تتراقص في عقل هذه المرأة المهووسة تماما، المحاصرة باللغة.

خ

تقول خوليا إنها شعرت بالدوار، كما لو أنها وصلت إلى حافة الهاوية أو كما لو أنها تركت للتو في وسط متاهة. لقد أدركت أنها لا تعرف حقا معنى التسمية. هل تسمية الشيء بديل عن امتلاكه؟ هل قمنا بتسمية الأشياء لأنه لم تكن لدينا طريقة أخرى للتعامل معها؟ هل كان الاسم حاجزا أو جسرا بيننا وبين العالم؟

في خضم كتلة سردية، يلجأ مياس الآخر إلى كتابة “مذكرات الشيخوخة” بينما يجادل بين الكتابة عن المرأة المضطربة بسبب اللغة أو عن قرار إميريتا إنهاء حياتها، ويناقش مع معالجه النفسي حول الروايات القانونية والقصص القانونية، ما هو حقيقي وما هو وهمي، والحدود الواضحة لما هو حقيقي.

“المرأة المهووسة” رواية يبدو أنها تُبنى وتُشكك القارئ مع تقدمه عبر صفحاتها، لكنها أيضا سيرة ذاتية كاذبة وتقرير صحفي كاذب. يتألق منظور مياس الروائي والمختلف وغير المتحيز والفائض في هذا الخيال الرائع المكتوب بإتقان وجرعات كبيرة من الفكاهة، إنه يهدم العالم ويكشف عن غرفته الخلفية، ويستمتع بالهدم، على الرغم من أنه يصف العرض الحزين للأيام.

الرواية ترجمها وقدم لها الروائي أحمد عبداللطيف وصدرت بإذن خاص من المؤلف للهيئة المصرية العامة للكتاب، يقول عبداللطيف في مقدمته التي عنونها بـ “الغرائبية كواقع”، “ربما تغدو الأفكار الخيالية التي تبلغ في فانتازيتها مبالغة لا يمكن تصديقها أن تكون واقعا، بل إن الواقع نفسه يقدم وقائع فانتازية ما كان ممكنا تصديقها لو وردت في أعمالها خيالية مثل الروايات. المسألة أن الفن يسبق الواقع ويرى أعماقه وبوسعه أن يسبر أغواره ليصل إلى المعاني البعيدة. والمسألة أن الفن بالأساس، يستخدم المجاز لتقريب الصورة عبر تكبيرها والمبالغة فيها، بذلك تظهر تفاصيلها الصغيرة والدقيقة، ونلتفت إلى حجم ما كان يبدو صغيرا فنتعرف عليه.”

"المرأة المهووسة" رواية تُشكك القارئ مع تقدمه عبر صفحاتها لكنها أيضا سيرة ذاتية كاذبة وتقرير صحفي كاذب

ويضيف “لكن الفن أيضا يعمل على استخلاص الفانتازي من الواقع، فيخلق حالة غرائبية كانت تبدو لنا من قبل كشيء عادي ومألوف، ثم نلتفت فجأة إلى أنه ليس عاديا رغم أن مألوفيته باتت ثابتة. بداية من الأحلام ومرورا بالميتافيزيقا والعلامات، وليس نهاية بالعقائد، يتألف العالم من مجموعة لا نهائية من الغرابات، التي لو أخضعناها للعقل لبات العقل في محل شك، أو لبات الشيء غير قابل للتصديق. غير أن الأدب لا ينحاز لتقديم أجوبة قاطعة، وهو في ذلك يختلف عن العلم والأديان، بل بالأحرى يقلب كل الأسئلة، ويجادل كل الثوابت ويفكك كل ما هو راسخ عبر التخييل والمجاز، استعارة كانت أو كناية، ليناقش مع العقل الإنساني ويمنحه كل الحرية الممكنة في التفكير.”

ويتابع “بذلك يمكن قراءة الرواية أو الفن في عمومه، على أنها روايتان، كما يقول خورخي لويس بورخيس عن القصة، فثمة قصتان؛ أولى مروية وأخرى مختبئة، من هنا تأتي أهمية الفن الروائي، أنه ليس خطبة ولا رسالة، أنه يتجنب المباشرة، أنه يتسرب إلى أرواحنا بنفس القدر الذي يتسرب به إلى عقولنا، أنه لا يريد إقناعنا بشيء بل يشاركنا أفكارنا ويفتح لنا أفقا للتفكير المشترك، من هنا تأتي أهمية أن نقرأ خوان خوسيه مياس، وأن نشاركه وساوسه وأن نصدق هلاوسه ونتماهى مع عالمه السري الغريب في الوهلة الأولى، غير أنه واقعي جدا إن تأملنا النظر، إذ تأتي غرابته من كوننا، نحن البشر، غرباء ومدهشين، لدينا قدرة، أفرادا وجماعات، أن نأتي بما لا يصدق، وربما كان ذلك سر تطورنا ووجودنا على هذا الكوكب.”

تبادل أدوار

الرواية تخوض في عالم اللغة وتفتح الحدود التي تفصل الواقع عن الخيال

يلفت عبداللطيف إلى أن حكاية كافكا في “المسخ” تبدو حكاية فرد تحول إلى حشرة، وقد تبدو حكاية بورخيس في “الأطلال الدائرية” قصة رجل يحلم داخل حلم، وقد تبدو “مائة عام من العزلة” لماركيز قصة تكوين قرية ماكوندو وتاريخ عائلة بوينديا، وفي “العمى” تتحول مدينة ساراماجو إلى مجموعة من العميان، لكن وراء هذه القصة الأولى قصة ثانية، قصة قابلة للتأويل طوال الوقت، ومعان ثانوية تصل إلى كل قارئ بحسب خلفيته الثقافية وقدرته على التأويل والتخيل.

المؤكد، في رأي المترجم، أن الحكاية الثانية تتسرب إلى معارفنا، ورغم أن الأولى ما يمكن حكايتها كقصة رئيسة، فإن الثانية هي المعنى والمقصود. بالمنطق نفسه والرؤى الفنية نفسها، يمكن قراءة “المرأة المهووسة”، إذ أنها تنتمي إلى التيار السردي نفسه والرؤى الفنية نفسها، هي ابنة أخرى للخيال الخصب، المفارق للواقع لكنه النابت منه، والقدرة على الاستعارة بأبسط الطرق الممكنة وبأسلس الأساليب. وبتعبير أومبيرتو إيكو هي عالم مواز، لكنه عالم يدور في الرأس، تتشكل مفرداته من وساوس فردية، وعبر هذه الوساوس يصل لـ “المعنى”، لخلاصات تخص وجودنا البشري وأزماتنا الإنسانية.

ويضيف “هي غرائبية، إذن، مرتبطة بالأرض، ولصيقة بالكائن البشري، بل لن نذهب بعيدا إن قلنا إنها أساس في طبيعتنا، فالبطلة تمثلنا جميعا، وحكايتها حكايتنا، أما بقية الأبطال فاستعارة أخرى لحيوات بشر هم نحن أو يحيطون بنا، تمثل حكاياتهم حكاية هزائمنا وضعفنا. والراوي والرقيب لكل ما يحدث بقدر تورطه فيه، ليس إلا نحن بينما نطل على أنفسنا من الخارج، بينما نختبر أنفسنا ونتواطأ مع هشاشتنا.”

ويتابع عبداللطيف “ليست لعبة مرايا بقدر ما هي لعبة تبادل أدوار، البطلة الشابة التي تتحدث مع الكلمات محض صورة من المرأة العجوز التي يهدهدها الموت، كلتاهما تبحثان عن معنى للوجود، الأولى عبر خيار ‘كمال غير مرئي‘ أو ‘نقصان يصحبه وجود‘، فيما الثانية تجد الوجود في توديع الحياة، هكذا يمثل وجودها تلويحة أخيرة، تلويحة تستدعي ذكر القتل، والقتل يستدعي العبثية، البطلة الشابة خوليا، تتبادل الأدوار أيضا مع مياس الآخر ـ الراوي والصحافي الذي يظهر لينجز تحقيقا حول الموت الرحيم، فيما تستعير منه خوليا انشغالاته باللغة وألعابها.”

البطلة تمثلنا جميعا، وحكايتها حكايتنا، أما بقية الأبطال فاستعارة أخرى لحيوات بشر هم نحن أو يحيطون بنا

ويلفت المترجم إلى أنه إذا كانت المرأة هنا مهووسة، فالرجل كائن شبحي، مؤد لأدوار، مجرم وضحية، نعم، تمثيل لما يمكن أن تفعله السوق الحرة والعرض والطلب. كل الشخصيات على تنوع أزماتها، ابنة اليوم، ابنة القرن الجديد بكل ما يحمله من اضطراب ومخاوف وتنازلات، وبكل ما يتيحه من حريات تصل حتى إلى الموت الرحيم، ومياس هنا حاضر، بانشغالاته الروائية، بأسئلة حول الرواية الحقيقية والرواية المزيفة، بالأصل والصورة، بالقص واللصق، بمياس القريب ومياس البعيد، بأميركا اللاتينية كاستنساخ من إسبانيا أم هوية مستقلة وإن تشابهت في المظهر.

ويبين أنه من أجل تحقيق هذا التكنيك، الذي ينطلق من وساوس خوليا والكلمات التي تزورها، يتكئ على كل ما أنتجته الرواية الحديثة من ريبورتاج ويوميات وأتوفيكشن وميتاسرد وهم للترتيب الكرونولوجي، ما يمنحها بعدا ما بعد حداثيا، ليس فقط للأسلوب، إنما لطبيعة الشخصيات التي تغلب عليها العبثية والعدمية.

ويرى عبداللطيف أنه مثل أعمال سابقة لمياس، “العالم”، “فوضى الاسم”، “لاورا وخوليو”، “هكذا كانت الوحدة”، يتلاشى الجدار الفاصل بين الواقع واللاواقع، بين الممكن والمستحيل، وتتوالى الثنائيات التي بقدر ما تتشابه تتناقض، كأن التناقضات القصوى تؤدي إلى التقارب والتشابه. اللافت هنا، أكثر من روايات أخرى، التفكير في الكتابة، والسعي المتكرر لتفكيك اللغة، لكن ليس عبر التجريب فيها، بل محاولة فهمها وتجاور كلماتها، فـ”الكلمات تنادي الكلمات” بالطريقة نفسها التي بها تنادي الموصوف الصفة، وربما بنفس طريقة استدعاء الشخصيات للأحداث.

وإذا اعتبرنا أن لكل شخصية سرها الخفي: إميريتا العجوز مريضة وتحتفظ بحادثة القتل سرا كما تحتفظ بالمسدس وسيرافين العجوز يداري مشاعره وخوليا الشابة تدور في فلكها اللغوي السري، فلا بد أن هذه الرواية هي الوجه الآخر لمياس المختبئ وراء الراوي السري، فلابد أن هذه الرواية هي الوجه الآخر لمياس المختبئ وراء الراوي، المشغول بالموت قدر انشغاله بالكتابة، بتقييم روايته بالحقيقية أو المزيفة، فالمرأة المهووسة، ربما، هي مياس نفسه، بسنواته التي تجاوزت السبعين،، وباقتراب من مستقبل مجهول لا يعرف عنه إلا صورة مشوشة، تشوش المنطقة البرزخية الواقعة بين الواقعية والغرائبية، منطقة الحدود والمطارات التي لا تنتمي إلى أحد، حيث نجد أنفسنا مجرد غرباء، بالمعنيين.

ويضيف عبداللطيف “كيف يمكن أن تكون الرواية رواية إن لم تكن غريبة؟ هذا رد مياس في حوار صحفي حين قيل له: إنها رواية غريبة جدا.” لكنها كما يقول إدوارد سعيد “تقع في هذا العالم ربما لذلك يجب أن تكون غريبة.”

13