المرأة المصرية تقترب من التحرر من بيت الطاعة القهري

مثّل موقف الأزهر الرافض لقانون بيت الطاعة انتصارا تاريخيا للمرأة في مصر، ومنح مجلس النواب فرصة ليسرّع عملية إلغائه بيت الطاعة وجعل الحكومة أكثر شجاعة في مواجهة الأصوات المتشددة لاستمرار القوامة على النساء.
القاهرة - تترقب الأوساط النسائية في مصر تعديلات تشريعية تحجم من نفوذ الرجل وتمنح المرأة أملا في أنها لن تظل مسلوبة الإرادة، حيث يناقش مجلس النواب قريبا قانونا جديدا للأحوال الشخصية يرسم حدود العلاقات الأسرية بين أطراف العائلة، على رأسها علاقة الرجل بالمرأة وحقوق كلاهما عند الخلافات وما بعد الانفصال.
ويعد تطرق القانون الجديد إلى إلغاء ما يعرف بـ”بيت الطاعة” الذي جرى تطبيقه منذ سنوات طويلة نقطة تحول في حياة المرأة المصرية، لأن الإكراه على الطاعة للرجل جعل نساء كثيرات مسجونات في بيوت الزوجية، لأنه يسبلهن إرادتهن وحريتهن ويحرمهن من تقرير مصيرهن لصالح سطوة الرجل.
ويعني بيت الطاعة أن الرجل يحق له استدعاء زوجته إلى منزل الزوجية متى تركته لصعوبة أو استحالة العشرة، ويرفع ضدها دعوى قضائية لإلزامها بعدم مغادرة البيت بذريعة الحفاظ على العلاقة الزوجية من الانهيار، لكن مؤسسة الأزهر حرّمته ونفت علاقة الطاعة والإكراه بتعالم الدين، وطالبت بإلغاء القانون في أسرع وقت ممكن.
ولدى شيخ الأزهر أحمد الطيب موقف صارم ضد استمرار بيت الطاعة، باعتبار أن مفهوم قوامة الرجل انتصر للعادات والتقاليد على حساب النصوص الشرعية، وانبثق عنه بيت الطاعة بأن ترد الزوجة الكارهة لشريكها عنوة لتعيش معه ولو كانت ترفض رؤية وجهه، وحُسب على الإسلام ظلما وزورا، مؤكدا أن إلغاءه ضرورة.
ومثّل موقف الأزهر، كجهة معنية بمنح المشروعية للقوانين التي تلامس الدين، انتصارا تاريخيا للمرأة، ومنح مجلس النواب فرصة ليسّرع عملية إلغاء بيت الطاعة، وعدم انتظار عرض الأمر على المؤسسة الدينية للبت في مشروعيته، وجعل الحكومة أيضا أكثر شجاعة في مواجهة الأصوات المتشددة لاستمرار القوامة على النساء.
انتصار جديد للمرأة
حقوقيات يصنفن قانون بيت الطاعة بأنه يرتقي إلى مرتبة إجبار المرأة على عبودية الزوج ويعيد النساء إلى عصر الجواري
ما يعزز من اقتراب تحقيق الانتصار للمرأة المصرية أن هناك دولا عربية ألغت بيت الطاعة ونسفته من قاموس العلاقات الزوجية على غرار اليمن والسعودية، بغرض الحفاظ على كرامة المرأة وعدم إجبارها على العودة إلى منزل الزوجية وهي كارهة لذلك، ما يدفع منظمات نسوية في مصر إلى الضغط بقوة نحو التعجيل بإقرار قانون يحرر المرأة من هذا السجن.
ويستند الكثير من الرافضين لإلغاء بيت الطاعة وأغلبهم من الرجال، على وجود قانون يسمح للمرأة بأن تتحرر من العلاقة الزوجية بالسير في خلع شريكها، ومنحها المشرع حق تقرير مصيرها باللجوء إلى المحكمة لتطليق نفسها ممن ترفض معاشرته، لكن المنظمات الحقوقية المعنية بالدفاع عن المرأة ترفض المقايضة لأنها تحمل تمييزا.
وتصنف حقوقيات مصريات قانون بيت الطاعة بأنه يرتقي إلى مرتبة إجبار المرأة على عبودية الزوج، ولا يعني وجود قانون يسمح بالخلع أن يستمر تشريع يعيد النساء إلى عصر الجواري، وهذه طروحات ذكورية لإلغاء قانون الخلع مقابل إنهاء العمل ببيت الطاعة، ما يحمل مساومة لاستمرار وصاية الرجل على المرأة والتحكم في مصيرها.
وإذا دفع البعض بأن قانون الخلع يمنح المرأة التحرر من بيت الطاعة، لكن أيضا يظل ظالما للكثير من النساء، حيث يصعب على الزوجة التي ليس لديها دخل خاص الاستفادة من الخلع فالقانون أقر بتنازلها عن كامل حقوقها مقابل تطليق زوجها، ما يجعلها أمام خيارين؛ إما الخلع والجوع بسبب العوز أو السجن داخل بيت الطاعة.
تحايل على القوانين
تلخص ليلى إبراهيم معاناة المصريات مع القهر باسم بيت الطاعة، عندما روت قصتها لـ”العرب”، فهي تزوجت من رجل ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، وطلب أن يقيم معها في منزل والدتها إلى حين تحسن ظروفه المادية وشراء منزل خاص بهما، معقبة “لأنني وحيدة، وأعيش وحدي مع والدتي بعد وفاة أبي، كان منزل أسرتي بيت الزوجية حتى دبت الخلافات بين أمي وزوجي”.
وأضافت أنها صُدمت بقيام زوجها بتأجير شقة سكنية في منطقة شعبية لا تتسع إلا لغرفتين صغيرتين وأرسل لها إنذارا بالطاعة عبر المحكمة، لإجبارها على ترك منزل والدتها والإقامة معه في المنزل المؤجر ورفض كل محاولات تدخل الوسطاء لحل عقلاني بعيدا عن الإكراه، فوالدتها تقدمت في السن وعاجزة عن خدمة نفسها.
ولأنها رفضت الرضوخ لقرار زوجها والالتزام بإنذار الطاعة حُكم عليها قضائيا بأنها امرأة ناشز وسقطت عنها كل حقوقها من نفقة ومسكن زوجية، معقبة “رفضت القبول بالقهر والإذلال، لأنني أدرك تماما أن مثل هذه العلاقة إلى زوال. فقد كان يمكنني التفاوض والتنازل بعيدا عن أسلوب التركيع، لكن اخترت كرامتي وحافظت على أمي ولو خسرت كل شيء، فإنني اخترت نفسي”.
ولا تستطيع الكثير من النساء تكرار نفس التصرف الذي فعلته هذه الزوجة وتخسر كل شيء مقابل رفض الوصاية المجحفة على حياتها وجسدها، لأن الظروف المعيشية الصعبة وندرة الموارد المالية في أحيان كثيرة تدفع مصريات إلى القبول بالأمر الواقع، ولو تعرضن لأذى نفسي وجسدي، ما يعني أن استقلال قرار المرأة وواقعها الاقتصادي حائط صد أمام رفض الوصاية.
قانون بيت الطاعة يرتقي إلى مرتبة إجبار المرأة على العبودية ولا يعني وجود قانون يسمح بالخلع أن يستمر التشريع غير المنصف
ورأت آمنة نصير أستاذة الفقه بجامعة الأزهر أن الحفاظ على كرامة المرأة يقتضي التسريع في إلغاء قانون بيت الطاعة، والمكتسبات التي نالتها المصريات لن تكتمل إلا بوضع حد للتعامل مع الزوجة بطريقة عصر الجواري، فإكراهها على حياة لا ترغبها يخالف الإسلام الذي رهن القوامة بالمعاملة الحسنة والمودة والتراحم.
وأكدت لـ”العرب” أن المؤسسة الدينية اتخذت موقفا شجاعا ووضعته أمام الجهات التشريعية ليكون لديها حجة في مواجهة التيارات التي تقدس الهيمنة الذكورية على المرأة، وتقف ضد تحرر الزوجة من سيطرة شريك حياتها على قرارها وحياتها وجسدها، ولا يفهم المتشددون مخاطر إجبار المرأة على علاقة زوجية بالإكراه في تكريس الصراع والعناد والإذلال والمبارزة بين الشريكين.
ويعكس تمسك البعض من الرجال باستمرار بيت الطاعة وجود عقليات ذكورية تريد تركيع المرأة وجعلها أسيرة لزوجها، طالما أن أحكام الطاعة التي تصدرها المحاكم في مصر لصالح الرجال سوف تظل سلاحا رابحا يتم استخدامه للتنكيل بأي سيدة، وهناك من يرى ذلك انتصارا للرجل مقابل إلحاق الهزيمة والانكسار بشريكة الحياة.
تعاظم قضايا الطاعة
ويمكن تفسير ذلك بما تعج به المحاكم المصرية من قضايا الطاعة التي يقيمها البعض من الرجال ضد زوجاتهم اللاتي تركن منزل الأسرة، وغالبا ما يحكم القاضي بعودة المرأة إلى البيت استجابة لطلب شريك حياتها دون الوقوف على الأسباب الحقيقية التي دفعتها إلى الهروب منه، وما إذا كانت تتعرض للعنف والإهانة أم لجأت إلى هذا التصرف بلا مبررات.
ويلجأ القاضي الذي ينظر في القضية المرفوعة من جانب الزوج إلى سؤال الشهود والجيران حول الرجل وتصرفاته وسلوكياته لمقارنة أقوالهم بكلام الزوجة ومبررها للهروب، وأحيانا يقوم الزوج بشراء ذمم بعض الأشخاص كي يشهدوا لصالحه وتخسر المرأة القضية ويتم الحكم بإلزامها بالعودة إلى زوجها تطبيقا لقانون بيت الطاعة.
ويتفق مختصون في العلاقات الأسرية بالقاهرة على أن فوائد بيت الطاعة على الاستقرار الأسري منعدمة، لأن المرأة عندما تعود إلى بيت الزوجية بأمر قضائي تصبح محبطة وذليلة وفاقدة لذاتها، في حين أن القوانين تحصن الكيان العائلي من التصدع والشقاق وتكرّس التعايش بشكل إنساني، وهذا يصعب تحقيقه مع تشريع يُستخدم لترهيب الطرف الضعيف.
ويفسر الرفض الذكوري لإلغاء بيت الطاعة تعامل بعض الرجال مع مفهوم الطاعة العمياء كمقياس للحفاظ على الكرامة ودليل على التحكم، وهي إشكالية مرتبطة بالتربية الأسرية التي نشأ عليها هؤلاء ونظرتهم للمرأة ككائن تابع يحتاج إلى الوصاية لتقويم سلوكه، وعدم الاكتراث بأن حسن معاملة الأنثى من شيم الرجال.
وتختلف أشكال طاعة المرأة لشريك حياتها من مجتمع إلى آخر بحسب نظرة الرجل لدورها داخل الأسرة، فهناك من يعتبرونها شريكة في كل شيء، وآخرون يرون أنها مجرد خادمة، وفريق ثالث يتعامل معها كوسيلة للإمتاع، لكن في كل الحالات يجب أن تكون هناك تشريعات إنسانية تحكم علاقة المجتمع بالمرأة، بما يحفظ كرامتها.
ولا يخلو التحرك البرلماني في مصر من وجود توجه سياسي صارم بوقف التعامل مع المرأة كأنها غير كاملة الأهلية، ومنذ وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الحكم ويتعامل مع النساء بخصوصية على مستوى التوسع في تمكينها اقتصاديا واجتماعيا وضرورة حسن معاملتها من جانب الزوج والأسرة وسن تشريعات تمنحها حقوقها.
وقف الأضرار النفسية
وترى هالة منصور أستاذة علم الاجتماع والباحثة في العلاقات الأسرية في القاهرة، أن التحرك نحو إلغاء بيت الطاعة خطوة تأخرت كثيرا، لأن القانون يكرس إذلال الزوجات ويغذي العنف المسلط تجاههن، ويعد إلغاءه تحركا بالغ الإيجابية لوقف الأضرار النفسية والمادية التي تتعرض لها الزوجة، بما لا يجعلها تعيش مكرهة على أمر واقع، إذا لم تكن لديها القدرة على خلع الزوج.
وأشارت لـ”العرب” إلى أن مجرد خوف الكثير من الزوجات من ترك منزل الزوجية مهما تعرضن لضغوط واعتداءات حتى لا يترتب على ذلك حكم القاضي بأنهن نواشز وتسقط حقوقهن إذا قررن الطلاق، هو تصرف غير إنساني، ويجب استثمار حالة الدعم الديني والسياسي للوقوف في وجه الأصوات المتشددة التي تستمتع بإذلال المرأة، مؤكدة أن نصف هذا القانون سيجبر المجتمع على زيادة احترام مكانتها.
وتكمن المعضلة الحقيقية في استغلال بيت الطاعة كوسيلة للابتزاز، حيث تقوم بعض الزوجات برفع قضايا طلاق للضرر، ويبادر أزواجهن بطلبهن في بيت الطاعة عن طريق المحكمة ويستخدمون بعض الحيل للإضرار بهن، كأن يتم تسجيل عنوان وهمي لمقر سكن الزوجية كي لا يصل إخطار الطاعة للزوجة، فلا هي علمت به ورفضت أو نفذت الحكم في المدة القانونية المحددة بشهر فتسقط عنها النفقة وتعتبر ناشزا.
وتتفق حقوقيات على أن كل النساء لسن بصفات ملائكية، لكن نسبة كبيرة من الرجال يتمسكون بالطاعة ليستمروا أوصياء على أجساد السيدات ولا يفقدون هذه الميزة، ما أفضى بهم إلى معارك للبقاء على مكتسباتهم على مدار العقود الماضية بعدما تجذرت في العقلية الذكورية تصورات بعدم استطاعة أجساد النساء التمرد على الحدود المرسومة.
وبعيدا عن مبررات تمسك الرجل بالعيش مع امرأة مسلوبة الحرية وتنفر منه وترفض وصايته على جسدها، يبقى التحرك المصري نحو إلغاء بيت الطاعة نقطة في بحر مراجعات مطلوبة لمواجهة العنف ضد النساء، بدليل هروب زوجات كثيرات، وهي زاوية مهمة يجب الوقوف أمامها وعدم اختزال القضية في إلغاء قانون غير إنساني.